تبحث السلطة الفلسطينية منذ توقف المفاوضات بينها وبين الحكومة الإسرائيلية عام 2014 عن العودة لمسارها السياسي الأوحد، بعد أن تراجع دورها على المستوى السياسي كثيرًا في السنوات الأخيرة في ظل تنامي حضور فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص حركة حماس.
وبدأت السلطة مؤخرًا اتصالاتها بالإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن، لدفع عملية المفاوضات إلى الأمام، بعد توقف الاتصالات بشكلٍ شبه كامل مع إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، بسبب صفقة القرن ومواقفه من السلطة برئاسة محمود عباس.
وبالتوازي مع هذه الاتصالات، فإن اتصالات جمعت الرئيس الفلسطيني بنظيره الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ، بالإضافة إلى اتصالات مع بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة نفتالي بنيت، في خطوة تبدو لافتة بعد توقُّف الاتصالات العلنية في عهد رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو.
وتتزامن هذه الاتصالات مع إفصاح السلطة عن شروط بناء الثقة التي سلّمتها للمبعوث الأمريكي إلى المنطقة هادي عمرو، والتي تتمحور في إطارها العام حول إعادة الوضع السياسي القائم إلى ما قبل انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000، وتنفيذ البنود الخاصة باتفاقية أوسلو التي تنصّل الاحتلال منها.
وتتضمّن هذه القائمة قرابة 14 شرطًا، أبرزها وقف الاستيطان وإطلاق سراح أسرى ما قبل أوسلو، وتعديل اتفاقية باريس الاقتصادية ووقف اقتحامات مناطق “أ” في الضفة لبغربية المحتلة، والتعامل مع القدس المحتلة على أنها ضمن إطار قضايا الحل النهائي.
خيار المفاوضات هو الأوحد والأقصر بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية.
تبدو هذه الشروط غير منطقية في ظل هشاشة الحكومة الإسرائيلية، واستحالة قبول الأحزاب اليمينية بفكرة إقامة دولة فلسطينية، تزامنًا مع حديث يائير لابيد، شريك بنيت في الحكم، عن أنه لا حاجة لإقامة دولة فلسطينية في ظل التطبيع مع الدول العربية في الوقت الراهن.
ويتزامن الحديث عن هذه الشروط مع حديث رئيس هيئة الشؤون المدنية وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، حسين الشيخ، عن “أن خيار المفاوضات هو الأوحد والأقصر بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو/ حزيران 1967”.
استراتيجية جديدة
في السياق، قال رئيس مركز مسارات للدراسات والأبحاث هاني المصري، إن القيادة الفلسطينية أظهرت مؤخرًا استراتيجية “جديدة” بدعم كامل من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، ودعم ناقص من حكومة بنيت-لابيد، التي تريد حصرها في الجوانب الاقتصادية والأمنية، وترفض ما قد يُفهَم منه إحياء المسار السياسي، فالقرار السياسي الوحيد المقبول إسرائيليًّا هو إبقاء الوضع على ما هو عليه، وفتح المجال أمام جعله أبديًّا، والتقدم على طريق إقامة “إسرائيل الكبرى”.
وبحسب حديث المصري لـ”نون بوست”، فإن هذه الاستراتيجية تنطلق من ضرورة إعادة الثقة بين الفلسطينيين والاحتلال الذي يهدم المنازل، ويوسِّع الاستيطان، ويمارِس سياسة تهجير السكان الفلسطينيين، ويستكمل تهويد القدس وأسرلتها، ويواصل الحصار والعدوان على قطاع غزة، وذلك تمهيدًا لإحياء ما يُسمّى “حلّ الدولتَين”، والمسيرة السياسية المجمّدة منذ العام 2014، في الوقت المناسب الذي لا يعرف فيه أحد متى يحين.
ويضيف: “تُدافِع هذه الاستراتيجية عن نفسها بالاستناد إلى أن الحكومة الإسرائيلية الحالية هشة ومتطرفة ومعرّضة للسقوط، واتفقت مكوناتها على استبعاد القضايا الخلافية، التي من أبرزها إحياء المسيرة السياسية، لذا لا بد من تأجيل إطلاق مبادرة سياسية حتى تنضج الظروف ومنع سقوطها وعودة نتنياهو”.
ووفقًا لرئيس مركز مسارات للدراسات والأبحاث، فإن ما يعزِّز هذه الاستراتيجية أن الإدارة الأمريكية ملتزمة بالأمن الإسرائيلي، والحفاظ على التفوق الإسرائيلي، وأنها معنية بإدارة الصراع لا حلّه، بحُجّة أن الجانبَين الفلسطيني والإسرائيلي غير جاهزَين للحلّ، كما إنها مشغولة بملفات عديدة، ما يضع القضية الفلسطينية في آخر سُلّم اهتماماتها.
ويشير المصري إلى أن ملحمة القدس في مايو/ أيار الماضي لم تغيّر من هذه الأولويات إلا بصورة مؤقتة وجزئية، حيث تدخّل بايدن ووزير خارجيته للتوصُّل إلى وقف إطلاق النار لمنع تدهور الوضع، والسعي لتثبيته، وعادت الأمور بعد ذلك إلى ما كانت عليه، مع ترك الملف بأيدي دبلوماسي أمريكي من الدرجة الثالثة، وهو هادي عمرو، ومهمته الحفاظ على الأمر الواقع، وعدم تدهوره، إذ كانت رسالته واضحة للفلسطينيين والإسرائيليين بقوله لهم: “السلطة في أسوأ وضع” و”إذا لم تساعدا نفسيكما فلن يساعدكما أحد”.
السلطة تعود إلى الوراء من جديد
في السياق، يقول الكاتب والمختص في الشأن الإسرائيلي حسن لافي، إنه من الواضح أن السلطة بعد 25 عامًا من مشروع أوسلو الذي أثبتت التجربة فشله، لا تزال تراهن على هذا المشروع الوهمي الكبير رغم الموقف الإسرائيلي الرافض لحلّ الدولتَين.
الشروط الـ 14 التي كشفها الإعلام الإسرائيلي عن الرئيس محمود عباس لاستئناف المفاوضات كانت تتمحور حول المقاربات نفسها التي فشلت سابقًا.
ويضيف لافي لـ”نون بوست”: “رغم أن الشعب الفلسطيني مرَّ بعدة مراحل مهمة جدًّا، آخرها كانت معركة “سيف القدس” الذي كان يمكن أن يُبنى عليها حملة جديدة، خاصة بعد فشل السلطة فيما يسمى بإجبار “إسرائيل” على حلّ الدولتَين، والذي انتهى هذا الفشل بصفقة القرن التي دعت إلى إقامة كيانية غير سياسية فلسطينية، بمعنى أنها قفزت عن حل الدولتَين واعترفت بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” في عهد دونالد ترامب”.
ويتابع: “الشروط الـ 14 التي كشفها الإعلام الإسرائيلي عن الرئيس محمود عباس لاستئناف المفاوضات، كانت تتمحور حول المقاربات نفسها التي فشلت سابقًا، وكأن الأمور غير متغيرة، وكأن الاستيطان لم يأكل أصلًا من الضفة الغربية، وكأن الفلسطيني في القدس لا يخوض معركة ضد التهويد والحفاظ على الإرث الفلسطيني”.
وعن قابلية الحكومة الإسرائيلية الحالية في العودة للمفاوضات، يتحدث لافي قائلًا: “تركيبة الحكومة الإسرائيلية المتناقضة سبب في عدم ذهابها إلى المفاوضات، لا سيما أن “إسرائيل” اتخذت قرارًا سياسيًّا بأنها لن تذهب الى حلّ الدولتَين، وإن ذهبت إلى التفاوض فإنها ستذهب من أجل التفاوض وكسب الوقت لعملية الاستيطان واستمرار التهويد في القدس، وهذا مجمع عليه”.
ويؤكد المختص في الشأن الإسرائيلي أن المسرح والأجواء الإسرائيلية غير جاهزة للذهاب إلى التفاوض، في ظل الانشغال في ملفات مثل الملف النووي الإيراني، وغيرها من الملفات في المنطقة التي تحظى باهتمام أمريكي أكبر من الملف الفلسطيني.
ويشير لافي إلى أن قيادة السلطة الحالية لديها قناعة راسخة بأن لا خيار أو حل بالنسبة إليها إلّا التفاوض بعيدًا عن كل مفاهيم المقاومة، سواء السلمية أو الشعبية أو حتى العسكرية، وهو ما يعكس أن السلطة بمصالحها مرتبطة بحلّ الدولتَين.
السلطة وقرار العودة للمفاوضات
من جانبه، يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر بغزة، مخيمر أبو سعدة، إن السلطة أبلغت الإدارة الأمريكية بأنها ترغب بالعودة للمفاوضات، لكن الشروط التي سُلِّمت للإدارة الأمريكية غير مقبولة إسرائيليًّا، ما سيتطلب جهدًا أمريكيًّا كبيرًا.
ويوضّح أبو سعدة لـ”نون بوست” أن أحد أبرز المطالب الفلسطينية يتمثل في تجميد البناء الاستيطاني، إلا إن الحكومة الحالية برئاسة بنيت-لابيد مصمِّمة على استمراره، في ظل تهديد من بعض الوزراء الإسرائيليين بأنهم سينسحبون من الائتلاف حال توقف الاستيطان، ما سيدفع لانهيار الحكومة ككُلّ.
يؤكد هذا الدور للرئيس عباس جدّيته في العودة للمفاوضات مهما كان الثمن، في ظل الدور الهامشي للسلطة خلال معركة “سيف القدس”
وبحسب أستاذ العلوم السياسية، فإن المختلف حاليًّا هو وجود إدارة أمريكية تحمل رؤية مختلفة للتعامل مع ملف التسوية والسلطة الفلسطينية، بخلاف إدارة ترامب التي وصلت العلاقات بها إلى حد القطيعة، مع بقاء العلاقة الأمنية فقط قائمة بفعل البروتوكولات المشترَكة.
تنازلات جديدة
يبدو أن السيناريو الأبرز حاليًّا هو فتح قنوات اتصال بين الطرفَين “الفلسطيني والإسرائيلي” برعاية أمريكية، يستهدف المحافظة على السلطة الفلسطينية كجسمٍ سياسي خشيةً من صعود حركة حماس في الضفة الغربية المحتلة، لا سيما في ظل وجود مباحثات تجري بين وزير حرب الاحتلال بيني غانتس والإدارة الأمريكية لتقوية السلطة اقتصاديًّا واجتماعيًّا.
ويتزامن هذا مع الدور الذي لعبه الرئيس الفلسطيني في إجراء مكالمة هاتفية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الإسرائيلي الجديد هرتزوغ، في اتصال هو الأول منذ فترة يعُلَن عنه بشكل واضح، وسط حديث عن إمكانية عودة العلاقات بين أنقرة وتل أبيب.
ويؤكد هذا الدور للرئيس عباس جدّيته في العودة للمفاوضات مهما كان الثمن، في ظل الدور الهامشي للسلطة خلال معركة “سيف القدس” مقارنة بصعود حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى في قطاع غزة المحاصر، وحضور وسطاء مصريين ودوليين للحديث مع الحركة.