في أبريل/ نيسان 2021، أقدمت إحدى الفتيات على الانتحار في محافظة ديالى، حيث أصبح الانتحار شائعًا بسبب الوضع السيّئ الذي يعيشه العراق، لكن هذه الحالة كانت خاصة، لأنها كانت أثناء اتصال فيديو كانت تجريه الفتاة مع أحد الأشخاص، حيث أقدمت على إطلاق النار على نفسها أمامه.. لتنهي حياتها بطريقة مأساوية.
تقول وزارة الداخلية إنه وبناءً على اعترافات المتّهم، كانت القصة تتعلق بابتزاز كان يقوم به مع الضحية، وأن الأمور كانت قد وصلت لابتزاز مالي نتيجة وجود صور وتسجيل لمحادثات بين الطرفَين، ما دفع الضحية للانتحار خوفًا من ردة فعل الأهل والمجتمع حول القضية.
تكشف وزارة الداخلية العراقية عن وقوع حوادث مماثلة بصورة ممنهَجة، يطالِبُ فيها المبتزّون بمبالغ مالية تدفعها الضحايا تجنُّبًا للفضيحة، أو يطالبونهنّ بالقيام بممارسات شائنة، عادة ما تنطوي على ممارسة أفعال جنسية.
وبشكل يومي تقريبًا، تعلنُ وزارة الداخلية عن الإيقاع بأشخاص يقومون بالابتزاز الإلكتروني، وكذلك إنقاذ ضحيات ابتزاز من دفع مبالغ مالية، لكن مع ذلك لا تزال عمليات الابتزاز منتشرة بشكل ملحوظ في العراق.
يقول المتحدث باسم وزارة الداخلية، خالد المحنا، إن “الجرائم الإلكترونية ازدادت بشكل كبير في العراق نتيجة استخدام الأجهزة الذكية وتعدُّد مواقع التواصل الاجتماعي، واعتماد المواطنين عليها حاليًّا بشكل كبير حتى في تعاملاتهم التجارية”.
وبالطبع، من بين المشاكل التي تسبّبت بها ظاهرة الابتزاز الإلكتروني، كثرة حالات الانتحار وارتفاع معدلات الطلاق ومشاكل أسرية أخرى، ويقول المحنا بهذا الخصوص: “إن أحد المبتزين الذين أُلقيَ القبض عليهم في إحدى المحافظات مؤخّرًا تسبّب على سبيل المثال بـ 9 حالات طلاق، مع الإشارة إلى أن الغالبية العظمى من ضحايا الابتزاز هنّ فتيات شابات”.
ما الذي يحصل؟
ما يحصل أن هناك كبتًا وتناقضًا كبيرًا يعيشه المجتمع العراقي، ما بين انعدام القانون تقريبًا، وقوة الأعراف العشائرية ذات الميزان المختلّ اجتماعيًّا، فهو يتيح للرجل ما لا يتيحه للمرأة دون سبب وجيه، وهو ما يُخالِف الشريعة الإسلامية.
فالخيانة الزوجية على سبيل المثال، تحمل الوزن نفسه بين الذكر والأنثى في الإسلام، بينما يختلف الأمر في الأعراف العشائرية في كون الرجل مارس عملًا عاديًّا قد يرقى إلى العيب في أقصى الظروف، وليس كبيرة من الكبائر كما هو الحال بالنسبة إلى المرأة.
وهكذا يحصل الأمر نفسه بالنسبة إلى العلاقات الاجتماعية، يكون الذكر فيها أكثر انفتاحًا من الأنثى بسبب الأعراف المجتمعية غير المتوازِنة، فلا مشلكة في أن يتعرّف الرجل إلى النساء أو يتحدث معهنّ، وهو ما لا ينطبق على الفتيات.
الجرائم الإلكترونيّة باتت تنافِس الجرائم العادية على أرض الواقع نتيجة عدم استيعاب الضحايا كيفية الاستخدام الأمثل لمواقع التواصل الاجتماعي.
ما نتيجة كل ذلك؟ تتوجّه الفتيات نحو الإنترنت، لأنه المجال الوحيد الذي يتيح قدرًا من السرّية ونسبةً من الأمان في التواصل مع المجتمع، أو لنقُل: مع الجنس الآخر.
بمرور الوقت، تتوطد العلاقة وتصبح متينة أكثر، في بعض الأحيان لا يتعدّى الأمر أكثر من التواصل بالصوت والصورة أو ربما اللِّقاء في العلن لاحقًا، وفي أحيان أخرى تصل العلاقة لأكثر من ذلك: صور ومقاطع فيديو أو علاقات خارج الزواج، تضعُ في يد أحد الطرفَين (الذكر) إمكانية ابتزاز الفتاة من خلالها، بسبب الأعراف المجتمعية التي تُُحلِّل للذكر ما لا تحلِّله للأنثى، وهنا تبدأ المشكلة.
يقول الباحث الاجتماعي مجيد التميمي، إن الجرائم الإلكترونية باتَت تنافس الجرائم العادية على أرض الواقع، نتيجة عدم استيعاب الضحايا كيفية الاستخدام الأمثل لمواقع التواصل الاجتماعي أو الشبكة العنكبوتية بشكل عام، خصوصًا أن الكثير من الضحايا هنّ من الفتيات اللواتي يقعن فريسة العاطفة الخادعة أو الابتزاز، من أجل الحصول على المال أو حتى الوصول إلى الفتاة نفسها ومساومتها على ذلك بفضح صورها في حال الرفض.
ويؤكِّد: “نحو 87% من الفتيات وقعن ضحية تلك الجرائم نتيجة سوء استخدامهنّ لمواقع التواصل الاجتماعي، ولثقتهنّ بالحسابات الإلكترونيّة بغضّ النظر عمّا إذا كانت حسابات وهمية أو حقيقية، فقد أخذتهن العاطفة وراء ذلك. كما إن الكثير منهنّ يجهلن كيفية الحفاظ على حساباتهن الشخصية بشكل صحيح، ما يجعل اختراق تلك الحسابات أمرًا يسير بالنسبة إلى ضعاف النفوس ومرتكبي الجريمة الإلكترونية”.
يعمد المبتزّون نشرَ مقاطع الفتيات على قنوات تيليغرام خاصة بالأفلام الإباحية، ففي أحد التقارير يقول أحد عناصر فريق مكافحة الابتزاز في العراق، إن أحد القراصنة كان يقوم بعمليات الاختراق والتفاوض على مبالغ الابتزاز، قائلًا: “تم كشفه بعد شكاوى الفتيات وتتبّع قنواتهم الإباحية على التيليغرام، بعد قيام الفريق بقرصنة هواتف أفرادها، الذين ابتزّوا 800 فتاة طلبوا من الواحدة منهنّ مبلغًا يتراوح بين 2500 و3000 دولار، وبالفعل تم تحويل 200 ألف دولار له ولعصابته، والذين أنشأوا 130 قناة على التيليغرام بجمهور يتراوح ما بين ألفَين و10 آلاف متابع”.
هذه المعلومات بحسب حسن، أحد عناصر فريق مكافحة الابتزاز، الذي قال إنهم كفريق بذلوا جهدًا كبيرًا في محاربة عصابة الابتزاز، لأنهم كلّما أغلقوا قناةً تعود مرة أخرى للظهور باسم مختلف، مشيرًا إلى أنهم قدّموا رسائل مرفقة بالمعلومات والأدلة التي حصلوا عليها لوزارة الداخلية، ولم يلقوا استجابة منهم.
في بعض الأحيان، تصل الأمور لما هو أكثر من ذلك، يقول المتحدث باسم مجلس القضاء الأعلى عبد الستار البيرقدار، إن المحاكم العراقية تنظر بكثير من قضايا الجريمة المنظَّمة التي تحترف الابتزاز الإلكتروني، أحدها في العام 2018، حيث تمَّ القبض على عصابة مكوَّنة من 5 أفراد تقوم باستدراج الفتيات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف الاتجار بهن جنسيًّا.
يُعتبَر الخوف من الفضيحة، أحد أهم أسباب نجاح الابتزاز ضد الفتيات، من دونه لن يكون لدى المبتزّين وسيلة للضغط عليهن في نسبة كبيرة من الحالات.
“استدرجت العصابة 4 فتيات من محافظات في جنوب العراق بحسب اعتراف أفرادها، الذين أقنعوا الفتيات بالهرب من منازلهنّ، والحضور إلى بغداد بهدف الزواج، وعند وصولهن تمَّ احتجازهن لبيعهن في ما بعد إلى ملاهٍ ليلية، أو بيوت دعارة، أو يتم استغلالهن جنسيًّا من قِبل أفراد العصابة”، يقول البيرقدار.
عوائل تساعد المبتزّين!
يُعتبَر الخوف من الفضيحة أحد أهم أسباب نجاح الابتزاز ضد الفتيات، من دونه لن يكون لدى المبتزّين وسيلة للضغط عليهنّ في نسبة كبيرة من الحالات، وهنا يأتي دور العائلة.
تقول وزارة الداخلية إنه رغم التبليغات شبه اليومية من قبل الضحيات، لكن لا تزال النسبة الأكبر منهنّ يرفضن التبليغ عن حالات الابتزاز بسبب الخوف من ردة فعل الأهل.
تصل ردّات فعل ذوي الفتيات إلى قتلهنّ أحيانًا، ففي الفترة ما بين عامَي 2016 و2017، تمَّ تسجيل 6 حالات جرائم قتل، أقدمت عليها العائلات بعد اكتشاف وجود ابتزاز لبناتهنّ، هذا فضلًا عن عشرات الحالات التي يتم فيها عزل الفتيات عن الحياة العامة تقريبًا، بمنعهن عن الخروج من المنزل أو إكمال الدراسة أو استخدام الهاتف، فضلًا عن وسائل التواصل الاجتماعي.
وهكذا تكون العوائل دون قصد ربما، وسيلةَ مساعدة لنجاح الابتزاز على نطاق واسع، وتساند في ذلك نظرةُ المجتمع إلى الضحية التي تحوِّلها إلى ورقة محترقة منزوعة الشرف، لا كضحية تستوجب المساعدة والتعافي من خطأ ارتكبته، مثلما يحصل عادة في الدول المتحضِّرة التي تنتشر فيها هذه المراكز التي توفِّر الحلول النفسية والأمنية لحماية هذا النوع من الضحايا، بدل افتراسها كما يحصل في العراق مع كل الفئات الضعيفة ومن لا ظهير لهم.. وما أكثرهم!