انطلقت دورة الألعاب الأولمبية 2020 في 23 يوليو/ تموز الجاري، في العاصمة اليابانية طوكيو بعد تأجيلها لعام واحد، بسبب ظروف الإغلاق التي فرضتها جائحة كورونا.
وفي العادة تحظى دورة الألعاب الصيفية، والتي يشهدها العالم مرة كل 4 سنوات، بتفاعل إعلامي كبير، وتحقِّق القنوات التي تبثها أرقامًا خيالية من أعداد المشاهدات، والأهم من ذلك أنها توحِّد كل شعوب العالم وتجمعهم حول شاشة واحدة، لمتابعة مختلف الألعاب الرياضية التي تنطلق فيها.
وفي الوقت الذي توفِّر فيه الألعاب الأولمبية متعة للمشاهدين، إلا إنها تُظهِر على السطح قضايا مهمة تحتاج إلى عين متأمِّل لملاحظتها.
على سبيل المثال، تكشف هذه الفعاليات عدم إفراد الحكومات، وخصوصًا في الدول النامية، ما يكفي من اهتمام لتطوير جودة ومستوى منتخباتها ولاعبيها، كما تكشف ظاهرة العنصرية ضد اللاعبين ذوي البشرة السوداء، أو اللاعبين المسلمين والعرب، إذ تتعامل وسائل الإعلام والجماهير الغربية مع فوز أحدهم على أنه استثناء، أو فوز لسبب مشكوك فيه كتناول المنشِّطات.
وبالطبع، تكون قضايا المرأة حاضرةً في الألعاب الأولمبية كما مختلف الساحات الأخرى، وهذا تحديدًا ما كشفته هذه الدورة من الألعاب الأولمبية، إذ لفتَ فريق النساء الألماني للجمباز الأنظار وعلى نحو كبير إلى مشاكل تعاني منها النساء الرياضيات قد لا يعلم عنها الكثيرون، كالتحرُّش الجنسي والأزياء الرياضية الكاشفة للأجساد التي تُفرَض عليهن لتأدية لعبتهنّ.
زيٌّ رياضي.. ولكن!
في شهر أبريل/ نيسان الماضي، فاجأ فريق النساء الألماني للجمباز المشارِك في بطولة الجمباز الفني الأوروبية في سويسرا، الجمهورَ بعد ظهوره بزيٍّ يغطّي كامل الساقَين بدلًا من الزي المعتاد والذي يُظهِر غالبية جسد المرأة.
لم يكترث الفريق الألماني لحالة الصدمة التي أحدثها في الوسط الرياضي أو الإعلامي، بل اعتمدَ الزي نفسه في دورة الألعاب الأولمبية الحالية، وأصرَّ على إيصال رسالته الرافضة لوضع جسد المرأة في قالب جنسي من خلال الملابس المكشوفة.
ورغم وصف الكثير من الأوساط الرياضية والإعلامية خطوة المنتخب الألماني بـ”الغريبة” و”الجريئة”، إلا إن المتابِع لما يجري خلف الكواليس، سواء في قاعات تدريب اللاعبات أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، سيجدها ردًّا طبيعيًّا على كل ما يواجهنه لاعبات الجمباز من تحرُّش ومضايقات جنسية، بسبب تعامل بعض العاملين في محيطهن من الرجال، أو حتى المشاهدين حول العالم، مع زيّهن الرسمي على أنّه محفّز للإغراء ومبرِّر للتحرُّش الجنسي.
وفي خطوة مشابهة أيضًا، لجأ فريق النساء النرويجي لكرة اليد الشاطئية إلى تغيير الزي الرياضي، أثناء مشاركته في بطولة أوروبا لكرة اليد الشاطئية، والمفروض عليه من الاتحاد الأوروبي لكرة اليد.
إذ استبدلت اللاعبات الزي الخاص بهذه الرياضة، وهو عبارة عن “بكيني” يتكوّن من قطعتَين، بسراويل قصيرة تغطّي جزءًا أكبر من الجسد، إلا أن لجنة الضبط التابعة للاتحاد الأوروبي لكرة اليد فرضت على الفريق غرامة قدرها نحو 1500 يورو، لعدم احترام قوانين الهيئة في الالتزام بالزي المفروض.
هذه الحادثة أيضًا أثارت تفاعلًا كبيرًا لدى الأوساط الرياضية والنسوية، ما بين مؤيّد ومعارض.
وهنا يجب ألّا نتجاهل السؤال عن الآلية التي يحدَّد بها زي اللاعبات، وفيما إذا كانت اللاعبات يملكن الخيار لارتداء ما يشعرهن بالراحة تجاه أجسادهن، وما يحميهن من الملاحقة والتحرش بسبب الصورة النمطية لهذا الزي في أذهان المشاهدين، أو العاملين في محيطهن من الرجال.
يُفرَض على غالبية اللاعبات في مختلف الرياضات ملابس تكشف غالبية الجسد، على عكس ملابس اللاعبين الرجال التي تغطّي غالبية أو جزءًا من جسدهم.
وعند النظر إلى طبيعة المجتمعات التي سعَت منذ الأزل إلى استخدام النساء والاتجار بهنّ لتحقيق مصالح مختلفة، لا يمكن تجاهل حقيقة أن فرض الهيئات الرياضية ومنظِّمي البطولات لأزياء رياضية تكشف غالبية جسد اللاعبات، هي جزء لا يتجزّأ من سياسة تمييز اللاعبات النساء عن اللاعبين الرجال، وترويج صورة للمرأة تُعنى بالتركيز على جسدها ووضعها في قالب جنسي طوال الوقت، حتى أثناء تأديتها للرياضة التي تمتهنها.
وبالرجوع إلى فريق الجمباز الألماني، فقد نقلت وسائل إعلامٍ تصريحًا على لسان إحدى اللاعبات، تقول فيه: “نريد أن نمارس الرياضة التي نؤدّيها بارتياح، دون أن نشعر أنّ هناك لباسًا محدّدًا مفروضًا علينا، ودون ارتداء ملابس كاشفة معيّنة توجَّه إلى جمهور الرجال”.
لاعبات أصبحن هدفًا للمتحرِّشين
تتعرّض النساء بمختلف أعمارهن وطبيعة مهنهن إلى التحرُّش، سواء في الأماكن العامة أو في أماكن عملهن، ومن الممكن أن نعتبِر تعرُّض اللاعبات للتحرش أثناء حصص التدريب أو أروقة الملاعب، نوعًا من أنواع التحرش الذي تواجهه كل النساء في أماكن العمل.
ولكن ما يزيد الخطورة على اللاعبات، خاصة اللواتي يفرض عليهن ارتداء ملابس كاشفة للجسم بشكل كبير، هو استغلال المشاهدين والمتابعين لصورهن على نحو غير أخلاقي، ما يعرّضهن لحملة كبيرة من التحرش الإلكتروني عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي.
على سبيل المثال أجرت شبكة “بي بي سي” البريطانية مسحًا حول اللاعبات البريطانيات اللاتي تعرضن للتحرش عبر منصات التواصل الاجتماعي، ووجدت أن نحو 30% من اللاعبات تعرضن للتحرش الجنسي عبر منصات التواصل الاجتماعي.
وفي كوريا الجنوبية، أعلنت وزارة الرياضة أنّ أكثر من ثُلث الرياضيات المحترفات تعرّضن للتحرش الجنسي، خلال مشوارهن الاحترافي.
هذه النِّسَب ليست إلا مثالًا بسيطًا على ما يواجهنه النساء الرياضيات، سواء داخل أماكن عملهن أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، وبمتابعة الحسابات الشخصية للرياضيات اللاتي يشاركن صورهن الشخصية عبر تطبيق إنستغرام مثلًا، سيكون من السهل جدًّا ملاحظة عدد تعليقات المتابعين التي تحتوي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر على ألفاظ وإيحاءات جنسية حول جسد اللاعبات أو ملابسهن، بالإضافة إلى تصريح اللاعبات عن استلامهن لرسائل خاصة تحوي تعليقات جنسية مهينة، أو صورًا جنسية.
لا يتوقف الأمر هنا على تعليقات أو رسائل للاعبات، وإنما على تداول صورهن وهنّ في ملابس مكشوفة في صفحات تفاعلية عبر منصات التواصل المختلفة، غالبًا ما يكون جمهورها من الرجال، إذ يتم التحرش بهن لفظيًّا، والسخرية منهن، وتحويل صورهن أثناء تأدية الرياضة إلى موادٍّ ساخرة للتندُّر.
ومن الملاحَظ أيضًا أن الكثير من الصفحات العامة على فيسبوك، سواء كانت بالعربية أو الإنجليزية، تعتمد في إنشاء جمهورها، وترويج منشوراتها على نشر الأخبار التي تتعلق باللاعبات مع إرفاق الخبر بصور تظهر أجساد اللاعبات، حيث بهذه الطريقة ستحدث المنشورات ضجة، وستزيد من نسبة تداولها، وبالتالي ستحقٍّق نجاحًا ووصولًا أكثر.
ثورة على اللوائح
ربما حان الوقت لتقوم المنظمات المعنية بدورها في حماية النساء من التحرش، واستغلال الحوادث الأخيرة الخاصة بالفريقَين النرويجي والألماني، من أجل إثارة قضية التحرش الجنسي باللاعبات بسبب الأزياء الرياضية المكشوفة المفروضة عليهن، والتفكير مع الاتحادات الدولية المعنية بحلول تحفظُ في المقام الأول جسد المرأة، بعيدًا عن إظهاره بقالب معيَّن قد يتسبب لها بالمتاعب.
من المهم التأكيد على أنه لا مبرِّر للتحرش على الإطلاق، فطبيعة الملابس حتى لو كانت مكشوفة لا يمكن أن تكون ذريعة لأي نوع من أنواع التحرش، سواء كان لفظيًّا أو جسديًّا.
ولكن مفهوم الحرية والمشاركة في صنع القرار، يمنح اللاعبات الحق في اختيار الأزياء التي يعتقدن أنها ستكون مريحة لهنّ على المستوى الجسدي والنفسي، فاللاعبات من أهم أجزاء المعادلة في أي رياضة، ولذلك يجب أن يكنَّ جزءًا من عملية اتخاذ القرار فيما يتعلق بضوابط وقوانين اللعبة.
ربما يكون اعتراض اللاعبات على الزي المفروض عليهنّ ومخالفتهنّ للوائح أمرًا غير قانوني بالنسبة إلى المنظِّمين، إلا إنه يشكّل إلهامًا لبقية اللاعبات اللاتي يقبلن بارتداء ما لا يشعرهن بالراحة والأمان تجاه أجسادهن، ويساعدهن في رفض هذا القالب الذي تصمِّمه لهن منظَّمات لا يهمّها تعرضهن للتحرش، بقدر ما يهمها تحقيق نِسَب مشاهدة وأرباح عالية لقاء أجساد اللاعبات المكشوفة.
إن اللوائح التي وضعتها الاتحادات الدولية المختصة بألعاب النساء، والمطبّقة منذ عشرات السنين، قابلة بلا شكّ للتعديل والمواءمة مع ما يراعي احتياجات اللاعبات، فظاهرة التحرش وما تخلِّفه من أذىً نفسي وجسدي بحق اللاعبات تستحق أن تناقَش على نحو جادّ وعلى أعلى المستويات، فأمان اللاعبات وكرامتهن ينبغي أن يكونا على رأس أولويات الجهات المنظِّمة لمختلف الرياضات النسوية.