في جنوب المحيط الهادئ، وعلى بُعد 1.750 كيلومترًا تقريبًا شمال شرق أستراليا، و500 كيلومتر شمال شرق كاليدونيا الجديدة، وبالقرب من غينيا الجديدة، تقع جمهورية فانواتو (تعني الأرض أو الوطن)، إحدى الجزر الكبرى، التي تأخذ في جغرافيتها شكلَ أرخبيل بركاني.
منذ العام 2000 بدأت هذه الدولة البعيدة تمامًا عن جدول اهتمامات غالبية سكان الكرة الأرضية، في فرض نفسها على ساحة الاهتمام والأضواء، حين تحولت إلى قِبلة للعديد من الأسماء اللامعة في مجال السياسة والأعمال، بعدما أسالت لُعاب الكثيرين منهم بالحصول على جنسيتها التي تفتح الباب أمام الهجرة للدول الأوروبية وأميركا وروسيا بكلفة أقل وأيسر من نظيراتها.
يحتفل شعب فانواتو -وهم من الأصول الأوروبية في معظمهم- بعيد الاستقلال في 30 يوليو/ تموز من كل عام، حيث حصلوا على استقلالهم الرسمي عام 1980، بعد عشرات من السنين قضوها أسرى الاستعمار الفرنسي البريطاني، خاضوا خلالها العديد من معارك الاستقلال منذ بداية السبعينيات.
75 عامًا من الاستعمار
اكتُشِفَت الجزيرة لأول مرة عام 1606 على يدَي المكتشف الإسباني بيدرو فيرنانديز دي كويروز، حين كان على رأس حملة استكشافات جغرافية من بيرو إلى المحيط الهادئ، فيما وُضعت أول خارطة لها عام 1774 بفضل المستكشف الإنجليزي الشهير جيمس كوك، والذي أسماها بداية الأمر على اسم جزر هبريدز الأسكتلندية.
وفي بدايات عام 1906 أرسلت بريطانيا وفرنسا فرقة استكشاف بَحريّة لمسح تلك المنطقة بعد أن أحكمت السيطرة عليها بصورة كاملة، وكانت تُسمّى وقتها نيو هبريدز، ومع اشتعال الحرب العالمية الثانية عام 1941 تحوَّل هذا الأرخبيل إلى قاعدة حربية مهمة.
رغم تحول فانواتو إلى قِبلة للتجّار والمستوطنين، الإنجليز والفرنسيين، إبّان فترة الاستعمار، إلا إن الأمر لم يتغير كثيرًا بعد الاستقلال.
بعد أن وضعت الحربان العالميتان، الأولى والثانية، أوزارهما، ومع بداية الستينيات، بدأت تظهر للنور حركات وطنية تُطالِب بالاستقلال والتخلص من رقبة الاستعمار، وبعد معارك ضارية خاضها أبناء الجزيرة في مواجهة القوات المستعمرة، نجحت في الحصول على الاستقلال التامّ نهاية يوليو/ تموز 1980.
ورغم تحوُّل فانواتو إلى قِبلة للتجّار والمستوطنين، الإنجليز والفرنسيين، إبّان فترة الاستعمار، إلّا إن الأمر لم يتغير كثيرًا بعد الاستقلال، حيث ظلت سوقًا كبيرًا للتجارة الأوروبية والآسيوية على حد سواء، لما تتمتع به من موقع جيوسياسي متميز، فضلًا عمّا كان يتمتع به شعبها من هدوء وحسن استقبال للأجانب.
لوحة فنية في المحيط الهادئ
يعدّ أرخبيل فانواتو لوحة فنية رائعة الجمال في قلب المحيط الهادئ، مكوَّن من قرابة 80 جزيرة، 67 منها فقط آهلة بالسكان، وتمتدُّ على طول 800 كيلومتر من الشمال إلى الجنوب على شكل الرقم 7، وتعدّ بمناخها الرطب قلعة استجمام ساحرة لم تُكتشَفْ بعد بكل تفاصيلها.
تترواح جزر الأرخبيل من حيث المساحة، حيث تتصدر جزيرتا إسبيريتو سانتو (3956 كيلومترًا مربّعًا) ومالاكولا (2041 كيلومترًا مربّعًا) قائمة الجزر الأكبر مساحة، فيما تحتل قرابة 14 جزيرة أخرى مساحة تصل إلى 100 كيلومتر مربّع وأكثر، أما الباقي فلا تتعدى مساحته هذا الرقم.
جزء كبير من الجزر جبلية وبركانية، بعضها تمتاز بالبراكين النشطة، فيما تُعتبَر قمّة جبل تابويماسانا، والتي تبلغ ارتفاعها 1877 مترًا فوق مستوى سطح البحر، أعلى قمة جبلية في الجزر، كما تغطي الغابة قرابة ثلاثة أرباع المساحة الإجمالية للجزر.
وفي الوقت الذي تتمتّع فيه بعض الجزر بطبيعة خلّابة، هناك جزر أخرى تقع في مرمى المخاطر الطبيعية مثل الأعاصير التي تجتاحها في الفترة بين أبريل/ نيسان وديسمبر/ كانون الأول من كل عام، هذا بخلاف الزلازل وموجات تسونامي التي تضرب بعض أجزاء تلك الجزر بين الحين والآخر.
ما يقارب 90% من السكان ينحدرون من سلالة الميلانيزية (جماعة عرقية تسكن غينيا الجديدة)، أما العشرة الباقية فتنحدر من أصول أوروبية وآسيوية، ويقبع الجزء الأكبر من مواطني الجزر في الريف، حيث البيوت المبنيّة بالطوب اللبن، فيما يقتصر المجتمع الحضري على مدينتَي بورت فيلا العاصمة وسانتو.
تنقسم فانواتو إلى 6 محافظات رئيسية وفق تقسيم عام 2004.
ترتفع نسبة الأمّية بين سكان البلاد، حيث تبلغ 74% بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عامًا وفقًا لإحصاءات اليونسكو، فيما يتحدث مواطنو الأرخبيل أكثر من 100 لغة ولهجة، في المقدمة منها “البيسلاما” وهي أقرب للإنجليزية وإن كانت هجينًا ببعض المفردات الأفريقية.
تنقسم فانواتو إلى 6 محافظات رئيسية وفق تقسيم عام 2004، وهي: مالامبار، بينما، سانما، شيفا، تافيا، توريا وفانواتو، فيما تعتمد البلاد نظام الحكم الجمهوري، حيث السلطة التنفيذية في يد رئيس الدولة ورئيس الحكومة والبرلمان المنتخَب كل 5 سنوات، كما تتميز البلاد بالتعدُّد الحزبي حيث انتشار العديد من الأحزاب، أبرزها: اتحاد أحزاب الوسط، حزب أرضنا، حزب فانواتو الوطني المتحد، الحزب الميلانيزي التقدمي.
الجنسية عبر الاستثمار
تعاني الدولة الأرخبيل من أوضاع اقتصادية صعبة، في ظلِّ ندرة الموارد الطبيعية وتراجُع مغريات الاستثمار الجالبة لرؤوس الأموال الخارجية، إذ يعمل الغالبية العظمى بمجالات الزراعة، حيث سيطرة الطابع الريفي على البلاد، فيما تنخفض نسبة العاملين في الأنشطة الصناعية.
وفي ظلِّ تلك الوضعية لم تجد فانواتو بدًّا من البحث عن مصادر دخل غير تقليدية، فوقع الاختيار على بيع جنسيتها نظير استثمارات يضخّها الراغبون في الحصول عليها لإنعاش الحالة المعيشية والاقتصادية للحكومة والشعب على حد سواء، وقد نجحت تلك الاستراتيجية في تحقيق أهدافها.
في عام 2017 أطلقت الدولة برنامجها الاقتصادي الإنقاذي الذي أسمته “الجنسية عن طريق الاستثمار”، وهو البرنامج الذي يُعدّ الأول من نوعه في جنوب المحيط الهادئ، ويُعرَف أيضًا داخل الأوساط الرسمية باسم “برنامج دعم تنمية المواطنية في فانواتو”.
تفاصيل البرنامج نشرتها “مجموعة سيفوري آند بارتنرز” البريطانية، المعتمَدة دوليًّا لدى حكومات العالم لتوفير فرص الحصول على الجنسية الثانية للراغبين، وذلك عبر موقعها الإلكتروني، حيث أشارت إلى ضرورة ألّا يقل عمر الراغب في الحصول على جنسية هذا البلد عن 18 عامًا على الأقل و بصحة جيدة و من دون سجلٍّ جنائي.
وتتميز جنسية فانواتو بمغريات كثيرة، على رأسها أنها تسمح بالسفر إلى أكثر من 125 دولة وإقليمًا، متضمنة دول منطقة شنغن بالإضافة إلى بريطانيا و روسيا وهونغ كونغ و سنغافورة، بجانب سلاسة الإجراءات التي لا تتجاوز الشهر تقريبًا للحصول عليها، بخلاف الإعفاء الضريبي الذي تمنحه، فلا يوجد ضرائب على الدخل العالمي أو الثروة أو الهبة أو الميراث أو مكاسب رأس المال، كما هو الحال في معظم دول أوروبا.
الحصول على جنسية فانواتو لا تشترط التخلي عن جنسية الشخص الحالية، هذا بجانب معيار الأمان الذي توفِّره لصاحبها من خلال الحماية، حيث لم توقِّع الدولة أي اتفاقيات مع الأنتربول الدولي بشأن تسليم المطلوبين، ومن ثم تزايُد الإقبال عليها خلال الفترة الأخيرة بصورة غير مسبوقة.
ويسمح نظام الجوازات بالأرخبيل للأجانب بشراء الجنسية مقابل 130 ألف دولار أميركي، دون أن تطأ أقدامهم البلاد على الإطلاق، وقد حقّق هذا البرنامج أرباحًا قدرها 116 مليون دولار العام الماضي، بحسب تقرير نشرته صحيفة “ذي غارديان” البريطانية، منتصف يوليو/ تموز الجاري.
ملاذ الساسة ورجال الأعمال
منحت فانواتو جنسيتها لما يقارب 2200 شخص منذ عام 2020 وحتى اليوم، أكثر من نصفهم (حوالي 1200) مواطنين صينيين، يليهم النيجيريون والروس واللبنانيون والإيرانيون والسوريون والأفغان، هذا بجانب ما يقارب 20 شخصًا أميركيًّا و6 أستراليين تقدّموا للحصول على الجنسية بحسب الصحيفة البريطانية.
ساسة عرب، سابقين وحاليين، ورجال أعمال، بعضهم متّهم بالفساد وآخرين يخشون الملاحقات القضائية، كانوا على رأس الشخصيات التي حصلت على الجنسية الفانواتية، أبرزهم رئيس حكومة الوفاق الليبية السابقة فائز السراج، وقائد الدرك الجزائري السابق غالي بلقصير، الصادر بحقّه أحكام قضائية.
أثارت علامات الاستفهام الموجودة أمام بعض الأسماء الحاصلة على جنسية فانواتو، والمتهمة في قضايا فساد مالي وإداري في بلدانها، الكثير من التساؤلات والجدل.
ومن بين الأسماء التي تضمّنتها القائمة التي كشفت عنها “ذي غارديان”، محافظ ريف دمشق السابق علاء إبراهيم، الذي أقاله النظام من منصبه وفرض حظرًا على أمواله، حيث حصل على الجنسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 بينما كان ما زال في السلطة.
وتعلِّق الصحيفة على هذا الاسم قائلة: “إن إبراهيم، الذي شغل منصب المحافظ لأكثر من 4 سنوات، تقدَّم للحصول على الجنسية هو وزوجته ريم نجيب وأطفالهما الثلاثة، مع العلم أن الأسرة مرتبطة بعائلة الأسد الحاكمة، فريم نجيب هي ابنة خالة رئيس النظام بشار الأسد نفسه (ابنة فاطمة مخلوف، الأخت الصغرى لأنيسة مخلوف أمّ بشار الأسد)”.
كذلك هناك رجل الأعمال السوري الشهير عبد الله خيتي، المشمولة شركاته بعقوبات أميركية، والمصرفي التركي المعروف غريب أوغلو، رجل الأعمال والمالك السابق لسومر بنك التركي، والذي حُكم عليه بالسجن في فضيحة اختلاس بملايين الدولارات عام 2013.
ومن بين الأشخاص الذين اشتروا جنسية فانواتو، الأخوان كاجي من جنوب أفريقيا، رئيس كاجي وشقيقه أمير، ويعتبرا من مؤسِّسي منصة أفريكربت (Africrypt)، إحدى أبرز منصات الاستثمار العملاقة في العملات المشفرة، حيث حصلا على الجنسية في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 ويناير/ كانون الثاني 2021 على التوالي.
وفق الصحيفة البريطانية: “اختفى الشقيقان في أبريل/ نيسان الماضي مع عملات بيتكوين تقدّر قيمتها بنحو 3.6 مليار دولار، بعد أن أخبرا المستثمرين بأنه تمَّ اختراق المنصة وسرقة العملات المشفرة. وفي مايو/ أيار الماضي، أسّس رئيس كاجي شركة في المملكة المتحدة، وأدرجَ جنسيته على أنه “مواطن من فانواتو””.
أثارت علامات الاستفهام الموجودة أمام بعض الأسماء الحاصلة على جنسية فانواتو، والمتهمة في قضايا فساد مالي وإداري في بلدانها، الكثير من التساؤلات والجدل، الأمر الذي دفع مدير وحدة الاستخبارات المالية بالجزيرة للردِّ على أسئلة “ذي غارديان”، قائلًا: “قرأت القائمة، ومعظم الأسماء ترتبط بهم مزاعم وتحقيقات معلقة، وإذا كانت هناك إدانات جوهرية ضد أي من هذه الأسماء، فقد يتم سحب جنسيتهم”.
كما تعهّد أنه “من الآن فصاعدًا، ستجري وحدة الاستخبارات المالية عمليات تدقيق على الأسماء الواردة في القائمة. إذا كان لدى أي من هؤلاء الأشخاص إدانات جنائية، فستقوم الوحدة على الفور بإبلاغ مكتب المواطنة بالمعلومات المحدّثة”.