عادة ما يلجأ الانقلابيون إلى خنق وسائل الإعلام والتضييق على الصحفيين وحرية التعبير، مباشرة بعد انقلابهم، بحجة حماية مصلحة البلاد العليا، وهو ما تكرر في تونس عقب انقلاب الرئيس قيس سعيد على الدستور ومؤسسات الدولة ومحاولته السيطرة على كل السلطات، ما جعل العديد من الصحفيين يدقون ناقوس الخطر.
تضييقات متتالية
البداية، كانت بقناة الجزيرة، فبينما كانت القناة تؤدي عملها المعتاد المتمثل في نقل أحداث تونس للرأي العام المحلي والخارجي، خاصة في ظل صمت القنوات المحلية عما يحصل في بلادهم من تغييرات استثنائية، اقتحمت قوات أمنية مكتب القناة وطردت جميع الصحفيين منه.
مدير المكتب قال: “لم نتلق أي إشعار مسبق من قوات الأمن بإخلاء مكتبنا”، مضيفًا أن قوات الأمن التي اقتحمت المكتب عددها نحو 20 عنصرًا وأنها لم تكن ترتدي الزي الرسمي، وقد طلبت منهم إغلاق الهواتف والحواسيب ونزع التوصيلات الكهربائية بلا سبب، وكان الاقتحام بناءً على تعليمات لم يُعرف مصدرها بعد.
مُنعت الجزيرة وطاقمها من العمل دون أي توضيح، لكن التضييق ضد الصحفيين لم ينته هنا، ففي الوقت الذي كانت فيه قوة أمنية تقتحم مقر الجزيرة، كان هناك أمنيون يفتكون الهواتف النقالة لبعض الصحفيين منهم العاملين في مؤسسات أجنبية ومنهم في مؤسسات تونسية، دون تقديم أي سبب لذلك إلا أن حجتهم كان تتمثل في تطبيق قانون الطوارئ.
نقابة الصحفيين التونسية.. تدين اقتحام مقر الجزيرة وتحمل سعيد مسؤولية حماية حرية الصحافة.
بعد 10 سنوات حرية وكرامة في لحظة رجعنا للإدانات والاعتقال والرعب والخوف والاهانة والترويع.#انقلاب_تونس
— Amel Zarouk – Al Kuds ??? (@Amel_Zarouk) July 26, 2021
كان الرئيس سعيد، قد قرر قبل يومين من انقلابه الدستوري تمديد حالة الطوارئ في تونس 6 أشهر حتى يوم 19 من يناير/كانون الثاني 2022، وتمنح حالة الطوارئ وزارة الداخلية صلاحيات استثنائية تشمل منع الاجتماعات وحظر التجوال وتفتيش المحلات ليلًا ونهارًا ومراقبة الصحافة والمنشورات والبث الإذاعي والعروض السينمائية والمسرحية وغيرها من دون وجوب الحصول على إذن مسبق من القضاء.
كان الأمنيون الموجودون أمام مبنى البرلمان، يرصدون كل الصحافيين الذين يبثون الأحداث بشكل مباشر، وأي صحفي يقوم ببث مباشر يرغمه الأمنيون على تسليمهم هاتفه بإرادته أو افتكاكه منه عنوة قبل اقتياده إلى مركز الشرطة.
نواصل مع جملة التضييقات، عشية أمس الأربعاء، كانت الصحفية روضة حمدي بصدد إنجاز تقرير صحفي في مدينة منوبة، حين قدم إليها أمنيون بزي مدني منعوها صحبة باقي الفريق الصحفي من استكمال عملهم وتم استدعاء فرقة أمنية اقتادتهم لمركز شرطة المدينة، رغم إظهارهم إذن تصوير والبطاقات المهنية، في مركز الشرطة تم معاينة آلة التصوير، وتسجيل حيثيات الواقعة مع إجبار الفريق الصحفي على توقيع ورقة لا علم لهم بماهيتها إن كانت محضرًا أم ماذا.
في نفس اليوم، أوقفت الشرطة التونسية في منطقة حي التضامن بتونس العاصمة مراسلة صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، وواجهت الشرطة الصحفية بأسئلة تتضمن اتهامًا بالتخابر، وتم فيما بعد إطلاق سراحها، وكتبت الصحفية فيفيان عبر تويتر “احتجزتنا الشرطة التونسية لمدة ساعتين ثم أطلقت سراحنا. نحن مستمرون في تقديم التقارير في تونس. شكرًا للتمنيات الطيبة”.
بعد خطاب الانقلاب سارعت مدرعات الجيش إلى تطويق مقرات الإذاعات والقنوات العمومية
بعد ذلك بوقت قصير، تم منع عضو المكتب التنفيذي لنقابة الصحفيين أميرة بن محمد من دخول مبنى التليفزيون العمومي صحبة عضو في منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان للمشاركة في برنامج حواري يتعلق بمجريات الأحداث في تونس.
وقالت أميرة بن محمد في منشور على صفحتها بموقع فيسبوك: “حرية الصحافة في تونس خط أحمر وعلى رئاسة الجمهورية عدم المساس بحق التعبير عن الرأي والعمل على الفصل بين القضايا الأمنية والمنابر الإعلامية.. اليوم يريدون أن يسكتوا التلفزة التونسية وغدًا يسكتون الكل”.
اشكاليات #تونس ما بعد قرارات #قيس_سعيد:
١- عدم إقرار المحكمة الدستورية مؤشر على سوء نية.
٢- الجيش يدخل في إطار الانحياز.
٣- بطء تحركات رئيس الحكومة المشيشي.
٤- استقطاب حاد أيديولوجيا.
٥- مداهمة #الجزيرة انتكاسة خطيرة على صعيد الحريات بعد تصنيف تونس الأولى عربيا في حرية الصحافة pic.twitter.com/bh6Rzwuirj— محمد ياسين نجار (@MyasseinNajjar) July 26, 2021
المدير العام للتليفزيون لسعد الداهش قال إنه تلقى أوامر من عقيد في الجيش تقضي بمنع دخول أي ضيف لمبنى التليفزيون وهو ما نفته وزارة الدفاع على لسان الناطق الرسمي باسم الوزارة، كما نفت الرئاسة علاقتها بالأمر وأصدرت بلاغًا يقضي بإعفاء الداهش من منصبه.
قبل ذلك، سارعت مدرعات الجيش إلى تطويق مقرات الإذاعات والقنوات العمومية، مباشرة إثر انتهاء خطاب الرئيس قيس سعيد الذي أعلن فيه الانقلاب على الدستور ومؤسسات الدولة المنتخبة، في مشهد يذكّر التونسيين بانقلابات إفريقيا.
مخاوف كبيرة
هذا بعض ما شهدناه وما خفي أعظم. تضييقات كثيرة جعلت العديد من الصحفيين التونسيين يعبرون عن خشيتهم من خسارة حرية التعبير – إحدى أبرز مكاسب الثورة التونسية إن لم تكن الوحيدة – خاصة أن الرئيس سعيد أظهر عداءً للإعلام منذ توليه السلطة.
يعتقد الصحفي التونسي كريم البوعلي أن المرحلة السياسية الضبابية التي أدخل الرئيس قيس سعيد، البلاد فيها، انعكست بثقلها على واقع حرية الإعلام والتعبير حيث نشهد اعتداءات ممنهجة ضد الإعلاميين، خاصة بعد تأكيد أحد مستشاري الرئيس بأن هناك تدابير استثنائية ومصلحة بلاد حتى في المسألة الإعلامية نفسها.
يؤكد البوعلي في حديثه لنون بوست وجود مؤشرات خطيرة تهدد حرية التعبير في بلاده، “فاعتداءات أنصار قيس سعيد ضد الصحفيين كانت عنيفة وتصريحات الرئيس نفسه ضد القناة الوطنية كانت عدائية وذلك قبل يومين من إعلان التدابير الاستثنائية”.
يخشى العديد من الصحفيين أن تكون هذه التضييقات، بداية التراجع عن التنوع والتعددية أو حتى الحد منها لتغيير المشهد الإعلامي بصفة عامة في تونس
يضيف محدثنا “واضح أن الرئيس قيس سعيد غاضب من أداء المؤسسات الإعلامية وخاصة العمومية منها وانعكس ذلك في إقالته للرئيس المدير العام للتلفزة الوطنية وتكليف إعلامية بتسيير المؤسسة أعلنت صراحة موالاتها لقراراته”.
يعتقد كريم البوعلي أن “المرحلة حساسة ومفصلية على مستوى الحريات عامة وخاصة حرية التعبير والإعلام ما يتطلب صف صحفي متضامن ومتآزر لمنع أي محاولات ردة على المكاسب الكبيرة لحرية الصحافة ومواقف شجاعة وجريئة من كل هياكل المهنة النقابية والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري”.
وتابع “يجب توحيد الصف لتجنب انزلاقات خطيرة في وقت تحتاج فيه البلاد للتعددية والمهنية والخطاب الإعلامي الحر في ظل انتشار الإشاعات والأخبار الزائفة على مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات والمواقع المنحازة للرئيس ومعارضيه”.
وكانت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، قد دعت الرئيس قيس سعيد إلى التدخل العاجل والفوري لضمان حرية العمل الصحفي والتصدي لكل الإجراءات غير القانونية وفقًا لما ينص عليه الدستور، وطلبت النقابة من سعيد توضيح الرؤية عن التدابير الاستثنائية، ووضع خريطة طريق بمشاركة الجميع، معربة عن قلقها من تهديد حرية التعبير والإعلام.
حرية الصحافة بعد 25 جويلية في تونس pic.twitter.com/5kvzwFLnX2
— Mouez Timoumi (@MouezTimoumi) July 29, 2021
بدورها دعت منظمة العفو الدولية الرئيس قيس سعيد إلى الالتزام علنًا باحترام وحماية حقوق الإنسان بما في ذلك حرية التعبير، وقالت إن مستوى القلق على وضع حقوق الإنسان في تونس ارتفع بعد مداهمة الأمن لمكتب قناة الجزيرة، ووصفت ذلك بالاعتداء الغاشم على حرية التعبير والسابقة المثيرة للقلق.
وتحتل تونس المرتبة 73 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة حسب تقرير منظمة مراسلون بلا حدود لعام 2021، وتعد حرية الصحافة والإعلام أهم إنجاز لثورة الياسمين في تونس، لكن هذا الانجاز في خطر الآن أكثر من أي وقت مضى.
يخشى العديد من الصحفيين أن تكون هذه التضييقات، بداية التراجع عن التنوع والتعددية أو حتى الحد منها لتغيير المشهد الإعلامي بصفة عامة في تونس، لكن العديد منهم أكدوا أنهم على أهبة الاستعداد لحماية حريتهم والدفاع عنها حتى لا يخسروها.