نشر الرئيس التونسي قيس سعيد، قرار تجميد برلمان بلاده ورفع الحصانة عن النواب في الجريدة الرسمية التونسية (الرائد)، الخميس 29 من يوليو/تموز الحاليّ، بعد 4 أيام تقريبًا من إعلان هذه الخطوة مساء الأحد الماضي، ليدخل القرار حيز التنفيذ الرسمي.
ورغم أن الرئيس أكد أن قرار التجميد الصادر رفقة حزمة من القرارات الأخرى سيكون لمدة شهر واحد فقط لحين الاتفاق على آليات جديدة للتعامل مع الأزمات التي تواجهها تونس، فإن النص المنشور بالجريدة الرسمية يشير إلى إمكانية تمديد فترة التجميد لأشهر عدة، ما يعني احتمالية عدم عودة البرلمان لنشاطه خلال المرحلة المقبلة.
الزيادات التي تضمنها النص المنشور في الرائد فتحت الباب أمام عدة سيناريوهات من المتوقع أن تحسم مصير البرلمان، أحد أضلاع المثلث السلطوي في البلاد مع الحكومة والرئيس، لتثير الشكوك مرة أخرى عن نوايا سعيد الحقيقية من وراء قرارات الـ25 من يوليو/تموز.
يذكر أنه منذ تلك القرارات ويعاني الشارع التونسي من حالة انقسام واضحة بشأن تفسير ما جرى، بين من يراه انقلابًا مكتمل الأركان على الدستور ومخطط لوأد التجربة الديمقراطية واستئثار الرئيس بالسلطة منفردًا، ومن يعتبره تصحيحًا لمسار الثورة وإنقاذ البلاد من حالة الفوضى الناجمة عن النزاع بين الرئاسيات الثلاثة.
3 سيناريوهات تحسم مصير البرلمان
في ظل التطورات الحاليّة بات مجلس نواب الشعب التونسي أمام 3 سيناريوهات رئيسية تحدد ملامح مستقبله خلال الفترة المتبقية له هذه الدورة الممتدة حتى 2024، وسط شكوك تخيم على الأجواء بشأن استعادة البرلمان نشاطه المعهود، وربما صلاحياته الكاملة التي نص عليها الدستور.
السيناريو الأول: استمرار التجميد.. من الواضح وبحسب النص المنشور في الجريدة الرسمية أن فترة تجميد البرلمان لن تقف عند حاجز الشهر كما أشار سعيد سابقًا، فالإشارة إلى إمكانية التمديد تعكس نية واضحة بشأن استمرار التجميد لفترات أطول قادمة.
أسبوع كامل تحياه تونس في حالة فراغ شبه كامل، فكل مؤسسات الدولة شبه معطلة، الحكومة والبرلمان وجزء كبير من مؤسسة القضاء بجانب المنظومة الإعلامية، هذا بخلاف الفوضى التي تخيم على الأجواء بسبب موجة الإقالات والتعيينات
وعليه قد يستمر التمديد لشهر إضافي جديد، وربما يمتد لأكثر من ذلك في ضوء إمكانية توظيف حالة الطوارئ وفق الأمر الصادر في يناير/كانون الثاني 1978 الذي منح رئيس الجمهورية صلاحية العمل بهذه الحالة لفترة 6 أشهر، ومن ثم وفي حال تطبيق هذا النص على الوضعية الحاليّة ربما يمتد تجميد البرلمان حتى بداية العام الجديد، ثم يعاود العمل مرة أخرى.
السيناريو الثاني: حل البرلمان بصورة نهائية.. وينبثق هذا السيناريو عن نظيره الأول، ففي حالة التجميد وتمديد فترته لأشهر قادمة، وبالتوازي مع حملات التوقيف والاعتقالات التي تقوم بها السلطات الأمنية بحق بعض النواب، ليس من المستبعد رفع بعض المؤيدين لقرارات الرئيس دعوات قضائية تطالب بإبطال نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في 2019، وربما تجد تلك التحركات صداها في الوقت الراهن من أنصار سعيد، استغلال للظرفية السياسية الضبابية التي تحياها البلاد مؤخرًا، وفي حال صدور قرار بالبطلان فإن البرلمان سيصبح ملغيًا وعليه تكون هناك انتخابات تشريعية مبكرة.
السيناريو الثالث.. العودة المشروطة بتقليص الصلاحيات.. وهنا سيكون التجميد ومن خلفه التمديد وما بينهما من توقيفات وتحقيقات رسالة تهديد وتحذير من الرئيس للبرلمان وبقية مؤسسات الدولة، ومن ثم قد يكون قرار إلغاء التجميد والعودة مرة أخرى مرهونًا بتعديلات أو إجراءات من شأنها تعزيز السلطة التنفيذية في يد الرئيس وتقليص دور البرلمان ومنحه دورًا رقابيًا أقل.
حملة اعتقالات تثير الشكوك
حملة الاعتقالات التي شنتها السلطات الأمنية التونسية بحق بعض أعضاء مجلس نواب الشعب، اليومين الماضيين، أثارت مخاوف البعض وعززت من الشكوك الخاصة بنوايا الرئيس، لا سيما أن المؤشرات العامة تذهب إلى أنه لن تتوقف عند نائبين برلمانيين فقط، مرجحة أن تمتد لتشمل آخرين.
وبحسب شهود عيان فقد اعتقلت قوات الأمن التونسية، أمس الجمعة، النائبين ياسر العياري وماهر زيد، في خطوة يمكن قراءتها في إطار رد الفعل الانتقامي حيال المعارضين لانقلاب الرئيس، وتعزيز مساعي تعطيل المؤسسة البرلمانية وكسب أكبر قدر ممكن من الوقت لتحقيق أهداف ما.
وكانت قوات الأمن قد اعتقلت زيد على خلفية قضية تمت تسويتها نهائيًا عام 2017، فيما رفضت السلطات الإفراج عنه رغم تقديم وثائق تؤكد الكف عن التفتيش عنه، وفق ما نقل مراسل “الجزيرة” عن محاميته حنان الخميري، أما العياري فقد تم اعتقاله عن طريق أفراد أمن بملابس مدنية.
زوجة العياري، سيرين الفيتوري، قالت في اتصال هاتفي أجرته معها وكالة “رويترز”: “قدم إلى البيت نحو 20 رجلًا بالزي المدني واعتقلوه عندما نزل لمقابلتهم”، لافتة إلى أن الاعتقال جاء بالقوة بينما كانت والدته تصرخ، وطلبوا منهم عدم التصوير بالهاتف.
وكالة الدولة العامة للقضاء العكسري التونسية (رسمية) بررت في بيان لها ظروف اعتقال العياري، موضحة أن التوقيف وإيداع النائب السجن المدني بالعاصمة إنما هو تنفيذ لحكم قضائي نافذ، صدر ضده عن محكمة الاستئناف العسكرية بتاريخ الـ6 من ديسمبر/كانون الأول 2018، مضيفة “هذا الحكم تم تأييده بقرار من محكمة التعقيب، ويقضي بسجن ياسين العياري لمدة شهرين اثنين جراء المشاركة في عمل يرمي إلى تحطيم معنويات الجيش بقصد الإضرار بالدفاع والمس بكرامة الجيش الوطني ومعنوياته”، حسب البيان.
حملة التوقيف لم تقتصر على نواب البرلمان فقط، فقد فتح القضاء تحقيقات موسعة مع 4 شخصيات على صلة بحزب “حركة النهضة”، أحدهم عضو بمجلس شورى الحركة، وعضوان على صلة بزعيمها ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، بدعوى محاولتهم ارتكاب أعمال عنف في أثناء الاحتجاج فجر الإثنين الماضي 26 من يوليو/تموز على قرارات الرئيس، وتم الإفراج عنهم بعد انتهاء التحقيقات بحسب مراسل الجزيرة.
الفراغ.. كارثة محققة
تتصاعد مخاوف الفراغ الذي أحدثته قرارات الأحد الماضي، يومًا تلو الآخر، في ظل الإرهاصات التي تشير إلى إطالة أمد هذا الفراغ، وما يمكن أن يحدثه من تعميق للأوضاع المتفاقمة التي تحياها البلاد في الوقت الراهن، حيث انهيار شبه كامل للوضعية الاقتصادية وترقب للحالة الأمنية وهلع متزايد من خروج وباء كورونا عن السيطرة مقارنة بالدول المجاورة.
أسبوع كامل تحياه تونس في حالة فراغ شبه كامل، فكل مؤسسات الدولة شبه معطلة، الحكومة والبرلمان وجزء كبير من مؤسسة القضاء بجانب المنظومة الإعلامية، هذا بخلاف الفوضى التي تخيم على الأجواء بسبب موجة الإقالات والتعيينات غير المستندة إلى آليات محددة، ما يمكن أن يُدخل المشهد برمته في مستنقع ضبابي مجهول الملامح.
في تقرير سابق لـ”نون بوست“تطرق إلى أن الأيام الحاليّة لا تعدو كونها مرحلة جس نبض بين الرئيس ومؤسسات الدولة المطاح بها، مستعرضًا بعض المؤشرات التي يجب مراقبتها الأيام القادمة، كونها ستفض حالة الاشتباك بشأن ما إذا كان سعيد يحاول الانفراد بالسلطة أم أنه يحاول حقًا إعادة ضبط الوضع والمضي قدمًا لتخفيف الأزمات السياسية والاقتصادية في البلاد.
التطورات اللاحقة لقرارات الـ25 من يوليو/تموز تبرهن يومًا بعد الآخر أن ما حدث لا يمكن أن يكون تصحيحًا لمسار الثورة كما يعزف أنصار سعيد
ومن بين تلك المؤشرات التي قدمها مركز الدراسات الإستراتيجية والأمنية الأمريكي “ستراتفور” وهو أحد أهم المؤسسات الخاصة التي تعني بقطاع الاستخبارات، ونشرها على موقعه الإلكتروني، مدى تعاون الرئيس مع البرلمان وإبداء حسن النوايا حياله، لافتًا إلى أنه إذا سارع سعيد بفتح حوار مباشر معهم، ليس شرطًا أن يكون بشخصه طرفًا فيه، ربما ممثلين عنه، فإن ذلك قد يبدد المخاوف من توسيع صلاحياته وسلطاته بما يهدد ديمقراطية الدولة واستقلال مؤسسات الحكم بها.
المركز الأمريكي رأى أن الرئيس لو وضع خطة سياسية بشأن استعدادات المرحلة المقبلة بالتحاور مع الغنوشي وقيادات البرلمان، فإنه بذلك ربما يحرج زعيم النهضة، ويحوله من معارض لتلك القرارات التي وصفها بـ”الانقلاب” إلى أحد أدوات تنفيذ قرارات الرئيس بدلًا من معارضتها والتجييش ضدها.
في الحقيقة أن التطورات اللاحقة لقرارات الـ25 من يوليو/تموز تبرهن يومًا بعد الآخر أن ما حدث لا يمكن أن يكون تصحيحًا لمسار الثورة كما يعزف أنصار سعيد، فالانقضاض على المؤسسة المنتخبة بإرادة الجماهير وبمشاركة أكثر من 40% من الشعب، ونزع الصلاحيات عن كل مؤسسات الدولة ومنحها للرئيس الذي بات المتصرف الوحيد في أمور البلاد، حيث لا حكومة ولا برلمان، لا يمكن أن يكون تصحيحًا لثورة قامت في الأساس على الديكتاتورية لتطالب بالتعددية واستقلال السلطات والديمقراطية واحترام الدستور.
بات من الواضح أن قيس سعيد، وبدعم خارجي لا شك فيه، يسعى بشكل حثيث لتغيير موازين القوى في البلاد، إذ يبدو أن النظام الحاليّ وبحسب دستور 2014 الذي يوزع السلطات بين الرئاسة والحكومة والبرلمان، لم يعد يروق للرئيس المهرول لإعادة تعريف قواعد اللعبة السياسية وفق أهواء وأجندات تخطط لأن تكون السلطة في يد الرئيس فقط وليس لأي مؤسسات أخرى أن تنازعه فيها كما هو الوضع حاليًّا.