قبل سنوات لم يكن يتصور أحد أن الهيدروجين سيصبح من أهم مصادر الطاقة، فلم يكن معروفًا في دوائر السياسة والاقتصاد الدولي، واقتصرت مناقشاته على دوائر شديدة التخصصية على المستوى الاقتصادي والبيئي بشكل تعقيدات حساباته البيئية في ظل قضية تغير المناخ التي تثير قلقًا دوليًا من تقلبات الطبيعة، لكن فجأة صعد الهيدروجين إلى اهتمامات بعض بلدان العالم، واجتذب من المنطقة بشكل لافت السعودية وخلفها الإمارات العربية المتحدة.
عن الهيدروجين
هو ناقل للطاقة يمكن إنتاجه كغاز أو سائل من مصادر متجددة عبر مسارات مختلفة، أكثرها نظافة يتم باستخدام الكهرباء لفصل الماء إلى هيدروجين وأكسجين من خلال محلل كهربائي يوجه كميات كبيرة من الكهرباء المتجددة إلى القطاعات التي يصعب فيها إزالة الكربون مثل الصناعة والمباني والنقل.
توجد أنواع عديدة من الهيدروجين، لكن الأبرز الأزرق والأخضر، والأخير هو النسخة الأنظف الذي تسوقه شركات التكنولوجيا للعالم باعتباره مُنتج طاقة صديق للبيئة، لا يطلق انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.
لكن الواقع يؤكد أن ما يقرب من 95% من إنتاج الهيدروجين في جميع أنحاء العالم حتى الآن، يأتي فقط وبشكل حصري من خلال الوقود الأحفوري الذي يعتمد على دورة الكربون في الطبيعة واحتراقها في الهواء مع الأكسجين لإنتاج حرارة تستخدم في المجالات كافة.
خلال السنوات القليلة الماضية بلغ الطلب العالمي على الهيدروجين نحو 8-10 أكساجول، والأكساجول هو وحدة قياس مشتقة من الطاقة في النظام الدولي للوحدات، ومعظم استخدامات الهيدروجين تستهلك في قطاع الكيماويات والوقود والنقل وتخزين الكهرباء، أو تحويله إلى مادة خام تستخدم في العمليات الصناعية الأخرى.
مخاوف عالمية
يتخوف خبراء من التوسع العالمي في سوق الهيدروجين، ويتصدر ساحة الرفض جماعات الضغط ودعاة البيئة الذين يرفضون الآراء التي تؤكد ملاءمة بعض أنواع الهيدروجين للبيئة، ويؤكدون أن إنتاج الهيدروجين الأزرق، الشائع في العالم، لن يتم إلا بتقسيم الغاز الطبيعي إلى هيدروجين وثاني أكسيد الكربون بكل ما في ذلك من مخاطر على المناخ.
قدمت تقارير اليابان قراءات تؤكد أن الهيدروجين النظيف سيتمتع لاحقًا بزخم سياسي وتجاري غير مسبوق
ضغوط نشطاء البيئة أدت في عام 2019 إلى تحرك حكومة اليابان خلال رئاستها لمجموعة العشرين لإصدار تقرير عن الوضع الحاليّ للهيدروجين وتقديم إرشادات عن تطوره المستقبلي يبدد أو يثبت المخاوف المتزايدة بشأنه.
قدمت تقارير اليابان قراءات تؤكد أن الهيدروجين النظيف سيتمتع لاحقًا بزخم سياسي وتجاري غير مسبوق، مع توسع سريع في عدد السياسات والمشاريع حول العالم، في ظل انخفاض تكلفته ما يسمح بتداوله على نطاق واسع لا سيما في الدول الصناعية دون التسبب في المزيد من الأضرار للبيئة.
بحسب التقرير، الهيدروجين سيدخل في صناعات شديدة الأهمية مثل تكرير النفط وإنتاج الأمونيا والميثانول والفولاذ، وسيعتمد عليه في المباني الشاهقة بالمدن ذات الكثافة السكانية العالية، وسيجري مزجه في شبكات وتوربينات الغاز الطبيعي لزيادة مرونة نظام الطاقة لا سيما المحطات التي تعمل بالفحم لتقليل الانبعاثات.
لكن هذه القراءات التي تخدم مصالح الدول الصناعية لم يقر بها دعاة البيئة والمناخ والطاقة النظيفة، وبصفة خاصة في أمريكا الشمالية وأوروبا، إذ وضع الاتحاد الأوروبي أهدافًا صارمة لحماية المناخ، ولم يستسلم للزخم المتزايد بشأن تحويل الهيدروجين إلى ناقل للطاقة وتسخيره بشكل حصري لإنتاج الوقود الأحفوري.
رفض مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية واتحاد العلماء المعنيين ومجموعة الطاقة النظيفة وأصدقاء الأرض ومنظمات بيئية أخرى هذه النتائج، وأكدوا أن الحديث الإيجابي الدائر عن دور الهيدروجين يحتاج إلى تحليل أعمق للمنافع البيئية المترتبة على التوسع في استخدامه.
ويبدو أن نشطاء البيئة على معرفة جيدة أن موردي التكنولوجيا وشركات النفط الكبرى وعمالقة الطاقة والغاز من مؤيدي التوسع في استخدام الهيدروجين يسعون في المقام الأول إلى تعزيز خط أنابيبهم المتصاعد من المشاريع القائمة عليه بسبب رخص ثمنه.
توسع نشطاء البيئة في نشر تخوفاتهم على نطاق واسع أدى إلى تصويت أعضاء مجلس مدينة مثل كاليفورنيا بالإجماع على حظر استخدام الغاز الطبيعي القائم على الهيدروجين في معظم الإنشاءات الجديدة، لتصبح أكبر بلدية أمريكية، تتبنى أنظمة لكهربة المباني من الطاقة البديلة.
كما تعرضت الشركات التي تزود مراكز الطاقة بالمدينة بتوربينات يغذيها الهيدروجين بنسبة تزيد على 30% إلى هجوم شديد، في ظل حالة الطوارئ المناخية التي يعيشها العالم بسبب تغير المناخ، واستندوا إلى منشورات لاتحاد العلماء يؤكد فيها أن التخزين طويل الأمد للطاقة باستخدام الهيدروجين سيؤدي إلى احتراق الكربون ما يسبب انبعاثات أكسيد النيتروجين الخطرة أو أكاسيد النيتروجين التي تحدث حتى مع الهيدروجين الأخضر حال التوسع في استخدامه.
يمكن القول إن الفوبيا الأوروبية من الهيدروجين تحكمها رغبة في أن تكون أول قارة خالية من الكربون بحلول عام 2050، وعلى المستوى العالمي يتفاءل معارضو الهيدروجين بإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، التي تملك طموحات مماثلة في حماية المناخ.
السعودية وصراع الهيدروجين
الجدل العالمي بشأن التوسع في استخدام الهيدروجين، لم يقيد المملكة العربية السعودية وأحلامها في زيادة إنتاجها من الأخضر والأزرق على حد سواء، لتصبح ضمن عدد قليل للغاية في اقتصادات مجموعة العشرين وأعضاء أوبك الذين أعلنوا استثمارهم بكثافة في الهيدروجين.
أنشأت المملكة أول مصنع للهيدروجين بتكلفة تقديرية 19 مليار ريال سعودي ـ 5 مليارات دولار ـ في نيوم، المدينة الضخمة الجديدة على طول الحدود بين مصر والأردن، وسيتم تشغيله بـ4 جيجاوات من طاقة الرياح والطاقة الشمسية ومن المقرر أن يبدأ الإنتاج عام 2025.
السرعة السعودية في اقتحام مجال لم يكن يجد رواجًا في العالم قبل سنوات قليلة، استقبلها بعض الباحثين المعنيين بالقضية بالكثير من المخاوف، واعتبروا أن العثور على الهيدروجين في شكله النقي أمر صعب للغاية في السعودية التي يتوافر فيها أكثر بحكم طبيعة الأرض الهيدروجين الرمادي الذي يستخدم فيه البخار لتكسير الميثان إلى ثاني أكسيد الكربون في عملية ملوثة للغاية.
تكمن المشكلة بالنسبة لهم في تحويل الهيدروجين إلى أمونيا لتسهيل عملية الشحن، ويجرون عملية حسابية معقدة لمصنع بطاقة 1.2 مليون طن سنويًا من الأمونيا، يحتوي طن واحد من الأمونيا على 177 كيلوغرامًا من الهيدروجين، وبمجرد الوصول إلى موقع السوق، سيتم فصل الأمونيا مرة أخرى إلى هيدروجين ونيتروجين.
يقول بن غالاغر كبير المحللين في شركة Wood Mackenzie العالمية للاستشارات: “لا أحد يعرف حقًا مدى جودة المملكة في تنفيذ هذا المشروع، فتحويل الهيدروجين إلى أمونيا والعودة مرة أخرى يضيف 3 ملايين طن سنويًا من ثاني أكسيد الكربون، بجانب الانبعاثات التي ستنتج عبر الميثان وتعادل الانبعاثات السنوية لأكثر من 700 ألف سيارة”.
سوق الطاقة العالمي بحسب خبراء، لن يخصص للهيدروجين أكثر من 15% مهما كانت النتائج أو صداقته للبيئة بسبب الخوف من تلويث القطاعات التي يعمل بها
المثير أن هذه الإشكالية تنبهت لها الإمارات العربية المتحدة، ومنافسة السعودية على نفس السوق، وأبرمت صفقة مع اليابان لتطوير الهيدروجين الأزرق بإضافة تقنية احتجاز الكربون – لم يتم اختبارها حتى الآن – لإضافة ميزة لها في إنتاج هيدروجين محايد كربونيًا يتميز في الجودة البيئية على هيدروجين المملكة، وإن كانت المشكلة المتعلقة بطبيعة الأرض لن تبارح الإمارات أيضًا.
ربما تكمن المشكلة الأساسية في قضية الهيدروجين اعتماده على تقنيات نظرية تمامًا بسبب حداثة عهده في سوق الطاقة، لهذا فالتوسع الكبير من المملكة في إنتاجه لن يكون مفيدًا لها إلا في السباق مع الإمارات على اقتحام كل ما هو جديد.
لكن سوق الطاقة العالمي بحسب خبراء، لن يخصص للهيدروجين أكثر من 15% مهما كانت النتائج أو صداقته للبيئة بسبب الخوف من تلويث القطاعات التي يعمل بها، إذ أصبح سوق الطاقة مُحملًا بمسؤولية كبيرة في عبء إنقاذ الكوكب من كوارث تغيير المناخ التي تهدد الحياة وتشكل خطرًا على مستقبل البشر في أنحاء المعمورة كافة.