ما زالت حالة الارتباك تخيم على المشهد التونسي على كل المسارات منذ القرارات التي أعلنها الرئيس قيس سعيد مساء الأحد الـ25 من يوليو/تموز الماضي، وسط تباين واضح في قراءتها، بين من يراها انقلابًا دستوريًا مكتمل الأركان وآخرين يعتبرونها تصحيحًا لمسار الثورة.
تأتي تلك الخطوة في وقت يعاني فيه الداخل التونسي من أزمات تلو الأخرى، في شتى الاتجاهات، ما تسبب في تصاعد موجة الاحتقان الشعبي ضد السلطة برئاسياتها الثلاثة (الرئيس والحكومة والبرلمان) وهي الحالة التي وظفها سعيد لتمرير قراراته التي تلاقت ورغبة الشارع في الإطاحة بالنخبة الحاليّة التي فشلت في تحقيق الحد الأدنى من احتياجاته لتوفير حياة كريمة.
عدوى القرارات الرئاسية الأخيرة انتقلت من المشهد السياسي العام إلى الجدار الحزبي على وجه الخصوص، حيث سيطرة الارتباك والانقسام على أجواء الأحزاب بشتى أيديولوجياتها (ما يقرب من 282 حزبًا في البلاد) ما وضع الكيانات الحزبية في مرمى الانتقادات وإعادة الهيكلة وترتيب الأولويات مرة أخرى.. فأي مصير في انتظار الخريطة الحزبية التونسية في أعقاب التطورات الأخيرة؟
انقسام حزبي
انقسمت مواقف الأحزاب إزاء قرارات الرئيس إلى 3 فرق رئيسية: الأول وهو الفريق الرافض لها ويصفها بالانقلاب الكامل على الدستور ومؤسسات الدولة والتخطيط للاستئثار بالحكم في أيدي شخص الرئيس وفقط، ويتصدر هذا التيار حزب “حركة النهضة” كما جاء على لسان زعيمه راشد الغنوشي، رئيس البرلمان: “ما قام به قيس سعيد هو انقلاب على الثورة والدستور وأنصار النهضة والشعب التونسي سيدافعون عن الثورة”.
وانضم لهذا الموقف العديد من الأحزاب والتيارات السياسية الأخرى، أبرزها “ائتلاف الكرامة” الذي اعتبر القرارات تهديدًا للشرعية الدستورية، كذلك “حزب قلب تونس” الذي وصفت كتلته البرلمانية ما حدث بأنه “الخرق الجسيم للدستور ولأحكام الفصل 80 وأسس الدولة المدنية وتجميعًا لكل السلطات في يد رئيس الجمهورية وعودةً بالجمهورية التونسية للحكم الفردي”.
بين هذا وذاك لجأ فريق ثالث إلى مسك العصا من المنتصف في انتظار ما ستؤول إليه الكفة
أما الفريق الثاني وهو الداعم والمؤيد للرئيس في خطوته المفاجئة، وفي المقدمة منه “حركة الشعب” التي اعتبرت قرارات سعيد “طريقًا لتصحيح مسار الثورة الذي انتهكته القوى المضادة لها وعلى رأسها حركة النهضة والمنظومة الحاكمة برمتها”، وهو الموقف ذاته الذي تبنته أحزاب الحزب الوطني الديمقراطي الاشتراكي والتيار الشعبي وحركة تونس إلى الأمام.
وبين هذا وذاك لجأ فريق ثالث إلى مسك العصا من المنتصف في انتظار ما ستؤول إليه الكفة، وهو موقف الحزب الوطني التونسي، آفاق تونس والبديل التونسي وقلب تونس، تلك الأحزاب التي لم ترفض قرارات الرئيس ولم تؤيدها، غير أنها شددت على “ضرورة إقرار خريطة طريق واضحة لإصلاح المنظومة السياسية (النظام السياسي والنظام الانتخابي وقانون الأحزاب…)”.
النهضة.. تصحيح مسار
كشفت قرارات الـ25 من يوليو/تموز عن حالة الارتباك التي تعاني منها حركة النهضة، والتباين الواضح في وجهات النظر والانقسامات داخل الحزب، هذا بخلاف الفجوة الكبيرة بين شباب الحركة وقادتها، إذ دعا أكثر من 130 شابًا من الحركة من بينهم خمسة نواب، إلى الإسراع باتخاذ إجراءات عاجلة لاستعادة ثقة الشارع التونسي.
وفي بيان تحت عنوان “تصحيح المسار” طالب النواب رئيس الحركة راشد الغنوشي إلى “تغليب المصلحة الوطنية واتخاذ ما يلزم من إجراءات من أجل تونس لتأمين عودة البرلمان إلى سيره العادي واستعادة الثقة في هذه المؤسسة”، هذا بجانب دعوة قيادات الحركة لتحمل المسؤولية الكاملة أمام الشعب عن التقصير في تحقيق مطالب الشعب التونسي، وتفهم حالة الاحتقان والغليان.
النواب طالبوا بمراجعات على المستوى الداخلي للحركة للقيام بإصلاحات وإعادة هيكلة للإبقاء على هذا الكيان سياسيًا في ظل حالة الغضب العارمة، لافتين إلى أن هناك سوء تقدير للمواقف تتطلب ثورة داخلية، لافتين إلى بعض الإجراءات التي ما كان لها أن تكون في الوقت الراهن مثل فتح ملفات بعينها، مثل ملف التعويضات وجبر الضرر.
البيان دعا مجلس شورى الحركة إلى “تحمل مسؤوليته وحل المكتب التنفيذي للحزب فورا وتكليف خلية أزمة لها الحد الأدنى من المقبوليَة الشعبية قادرة على التّعاطي مع الوضعية الحادة التي تعيشها تونس لتأمين العودة السريعة لنشاط المؤسسات الدستورية واستئناف المسار” وأمام تلك المطالبات أكد راشد الغنوشي في تصريحات له “الاستعداد لتقديم تنازلات شرط عودة المؤسسات وحماية المسار الديمقراطي”.
ثورة تصحيح داخلية
التصدعات في جدار الأحزاب لم تتوقف عن “النهضة” فقط كونه الحزب الأكثر حضورًا في المشهد، لكنها تجاوزت إلى بقية الأحزاب من التيارات كافة، فقد انقسم تحالف “الكتلة الديمقراطية” البرلمانية، الذي يمتلك 38 مقعدًا بالبرلمان، إلى قسمين: الأول يرى ما حدث تصحيحًا لمسار الثورة ويمثله “حركة الشعب” التي تمتلك 16 نائبًا، والثاني “التيار الديمقراطي” الذي عارض قرارات الرئيس واختلف معه في تأويل المادة 80 من الدستور التي استند إليها في اتخاذ تلك الخطوة.
أحزاب اليسار هي الأخرى تعرضت لهزة عنيفة جراء تلك القرارات، فقد رفض حزبا العمال والقطب هذا التحرك الرئاسي بشدة، إذ وصف الأمين العام لحزب العمال، حمة الهمامي، الرئيس سعيد بـ”الديكتاتور”، مطالبًا إياه بالتخلي عن منصبه.
الأمين العام عصام الشابي، المعروف بانحيازه للثورة والديمقراطية، يعتبر قرارات سعيد انقلابًا، في مقابل تيار آخر داخل مركزية الحزب يساند هذه الخطوة
وفي الجهة المقابلة غردت العديد من الأحزاب المنتمية لليسار بعيدًا عن قطبي هذا التيار الرافض لقرارات الرئيس، إذ رحبت ضمنيًا بقرارات سعيد، والإطاحة بمنظومة الحكم الحاليّة، منها حزب الوطنيين الموحد والتيار الشعبي والديمقراطي الاشتراكي وحزب تونس إلى الأمام.
حتى الأحزاب غير الممثلة في البرلمان، التي ربما لم تتأثر بشكل مباشر من هذا التحرك (تجميد المجلس وإسقاط العضوية عن النواب) واجهت هي الأخرى انقسامات حادة، كما هو حال الحزب الجمهوري المعارض، فقد اختلفت قيادته في قراءة ما حدث، فالأمين العام عصام الشابي، المعروف بانحيازه للثورة والديمقراطية، يعتبر قرارات سعيد انقلابًا، في مقابل تيار آخر داخل مركزية الحزب يساند هذه الخطوة.
الأحزاب التونسية.. إلى أين؟
تعاني الأحزاب التونسية من تهميش واضح، سواء على مستوى الشعبية المتراجعة أم فقدان التأثير عبر الاستبعاد من المشاركة في اتخاذ القرارات، وقد كشفت السنوات الثلاثة الأخيرة تحديدًا عن الواقع المتدني الذي تحياه تلك الكيانات التي أخطأت التقدير حين اعتبرت نفسها جزءًا من المشهد.
وهناك العديد من المؤشرات تكشف حجم التشويه الذي تعرضت له الصورة الحزبية في البلاد مؤخرًا، أبرزها نجاح الرئيس الحاليّ في انتخابات 2019، الرئيس القادم من عباءة ليست حزبية، وليس له ظهير حزبي كغيره من المنافسين، في رسالة واضحة تعكس حجم التأثير الحزبي في الشارع.
الأمر تكرر في العزوف الواضح عن التصويت في الانتخابات البلدية والتشريعية، وفي نتائج استطلاعات الرأي المتتالية التي فضحت ضآلة قوة ووجود وشعبية الأحزاب على الساحة، وهو الدرس الذي لم تستوعبه قيادات تلك الأحزاب التي مالت في غالب الأمر إلى المكاتب المكيفة بعيدًا عن الميدان، لتدفع الثمن باهظًا للغاية.
المشهد تكرر بصورة أكثر فداحة خلال قرارات سعيد الأخيرة، التي لم يراع فيها أي حسابات للأحزاب، إذ اتخذ ما اتخذه بصورة منفردة دون استشارة أي حزب من هنا أو هناك، ما يعكس دلالة واضحة لملامح نظرة رئيس الجمهورية للواقع الحزبي المترهل، الذي وظفه بصورة جيدة لخدمة أهدافه السياسية الخاصة.
وهنا باتت الأحزاب في موقف حرج للغاية، فبعيدًا عن تلك الأحزاب الصغيرة بطبيعة الحال والمتوقع أن ترتمي سريعًا في أحضان الرئيس على أمل الحصول على فضلات التورتة السياسية وفتات المكاسب والامتيازات المتوقعة عبر باب دعم سعيد في قرارته الأخيرة فإن أمام الأحزاب الكبيرة حزمة من التحديات التي تهدد مستقبلها إن ظلت على نفس المسار.
الكرة لا تزال في ملعب النخبة السياسية والأحزاب
لو أرادت تلك الأحزاب الاستمرار في المشهد السياسي فعليها إعادة النظر في هيكلتها وإستراتيجيتها وعلاقتها بالشارع، والانتصار أكثر لإرادة الجماهيرة وتغليب المصلحة الوطنية بعيدًا عن مصالح القيادات الخاصة، بجانب ضرورة تبني خطة عاجلة لتحسين الصورة عبر الإعلان عن تحمل المسؤولية ووضع جدول زمني لكسب ثقة المواطن مرة أخرى.
الشارع التونسي في معظمه – ماعدا الشريحة المؤدلجة – لا يحمل عداوة مسبقة لأي تيار سياسي، المصلحة العامة هي بوصلته في التعاطي مع تلك الأحزاب، وعليه فإن الحزب الذي يستطيع تلبية طموحات التونسيين فإنه سيكون الأجدر بكسب ثقتهم، والعكس صحيح.
وفي الأخير فإن الكرة لا تزال في ملعب النخبة السياسية والأحزاب، وربما عدم وجود ظهير حزبي – حتى كتابة هذه السطور – للرئيس سيسهل من مهمة الكيانات الحزبية في استعادة ثقة الشعب التونسي مرة أخرى، هذا إن نجحت في تصحيح الأوضاع وتلافي السلبيات والأخطاء التي وقعت فيها خلال السنوات الماضية.. فهل تنجح في ذلك قبل أن تتحول إلى بنايات مجهولة الهوية، يعلوها تراب التهميش على رصيف الحياة السياسية؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.