بشكل سرّي، ومن دون إعلانٍ في الوسائل الإعلامية كما هو متعارف عليها، اتخذت المملكة العربية السعودية إجراءات من شأنها مضاعفة معاناة المغتربين اليمنيين، وكذلك الاقتصاد المترنِّح نتيجة لما سيترتّب عن ذلك مستقبلًا.
وقالت وسائل إعلام عربية إن السلطات السعودية أمهلت مواطنيها 4 أشهر للتخلي عن جميع العاملين اليمنيين في المحافظات الجنوبية جازان ونجران وعسير (المتنازع عليها مع اليمن)، واستبدالهم بعمّال من جنسيات أخرى.
ورغم نفي مصادر سعودية لـ”نون بوست”، إلا أن عمالة يمنية يعملون بشكل رسمي في مناطق عسير والباحة ونجران وجيزان في السعودية، أكدوا أنهم تلقّوا إشعارات من السلطات السعودية بإنهاء التعاقد معهم من دون سابق إنذار، وضرورة إنهاء أعمالهم خلال 3 أشهر، ويتضمن ذلك إلغاء عقود مساكنهم المستأجرين فيها، وترحيل من لم يستطع الحصول على عقد عمل في مناطق أخرى بعيدًا عن هذه المناطق الجنوبية.
وأوضحت المصادر أن الإجراءات السعودية تشمل كافة الأساتذة الجامعيين اليمنيين في جميع الجامعات والمؤسسات السعودية في مناطق جنوب السعودية، في القطاعَين العام والخاص، كما تشمل كذلك اليمنيين الموظفين في المستشفيات والمنشآت الطبية والتجارية السعودية، بالإضافة إلى العمالة اليمنية في المنشآت التجارية المختلفة، الذين تلقّوا جميعًا بلاغات مشابهة بالاستغناء عنهم وتسريحهم من أعمالهم، وبالتالي الاستعداد لترحيلهم من البلاد.
لكن المصدر السعودي قال إن ما يحدث هو أن وزارة الموارد البشرية قنّنَت نسبة بعض عمالة الجنسيات التي يحق لها العمل في المنشآت، بما لا يتجاوز نسبة العمالة من الجنسية الهندية في المنشآت ذات الرقم الموحَّد على 40%، وتنطبق النسبة ذاتها على عمالة الجنسية البنغلاديشية، أما الجنسية اليمنية فالحدّ الأعلى لنسبة العمالة فيها هي 25%، والإثيوبية 1%.
استياءٌ شعبي يمني
خلقت القرارات السعودية موجة استياء عارمة في أوساط اليمنيين، على اعتبار أن ذلك سيخلق كارثة معيشية على العمالة اليمنية هناك، وعلى أُسرهم في اليمن الذين يدعمونهم ماديًّا، جراء انقطاع مصادر الدخل بسبب الحرب في البلاد، التي تلعب السعودية دورًا رئيسيًّا فيها.
منحَ القرار السعودي للعامل اليمني في الحد الجنوبي، خيارَين لا ثالث لهما.
وتتحكم السعودية فعليًّا بكل شاردة وواردة في اليمن، بينما هي بحاجة إلى خطوات إيجابية تُهدِئ النفوس وتكسب قلوب اليمنيين، خصوصًا أنها تعدّ من المتسبِّبين الرئيسيين في إطالة أمد الحرب اليمنية.
منح القرار السعودي للعامل اليمني في الحد الجنوبي، خيارَين لا ثالث لهما، إمّا القتال مع الحوثي وإمّا العمل في السعودية، وفقًا لما تحدّث به عمّال يمنيون داخل السعودية لموقع “نون بوست”.
جيزان ونجران وعسير يمنية وليست سعودية حتى يتم ترحيل سكانها الأصليين ، على كذا ضعوا يدكم بيد الحوثي وادخلوا لتحريرها من الاحتلال السعودي … لقد تطاول النظام السعودي على اليمنيين كثيرا ..
— صالح منصر اليافعي (@saleh_binali) July 29, 2021
عمليًّا، سيتكدّس اليمنيون العاملون في الحد الجنوبي مع المملكة العربية السعودية -خلال الأربعة الأشهر التي جعلتها السعودية مهلةً لليمنيين بتصحيح أوضاعهم والانتقال إلى مناطق أخرى أو الترحيل-، في مصلحة الهجرة والجوازات، ووزارة القوى العاملة، وفي الغالب لن يستطيعوا خلال هذه الفترة من النجاة من الترحيل، بسبب الإجراءات الوقائية بسبب فيروس كورونا، وكذلك القانون السعودي الذي يمنع الانتقال من عمل إلى آخر من دون موافقة الكفيل السعودي.
السعودية رئة اليمنيين
كما يُقال على المستوى الرسمي بين البلدَين، فإن علاقة اليمن بالمملكة العربية السعودية علاقة ذات أبعاد استراتيجية، توثّقت بروابط الدم والمصير المشترَك.
والدولتان تمتلكان تاريخًا قديمًا من التداخل، أثّر كل منهما في الآخر، وما زال هذا التأثير متواصلًا، غير أنه اليوم اتّخذَ أشكالًا أكثر ارتباطًا وتوثيقًا، ولم تكن يومًا مجرد علاقة جوار جغرافي فرضته الطبيعة.
ولأن المملكة العربية السعودية تعدّ المتنفس الرئيسي لليمنيين، فإن نحو 3 ملايين يمني يعملون في المملكة العربية السعودية، بهدف مساعدة أُسرهم على تجاوز محنة الحرب والاقتصاد الهشّ الذي تفاقم منذ عام 2014، بسبب الأوضاع السياسية واجتياح الحوثيين العاصمة اليمنية صنعاء.
والعدد الكبير من العمالة اليمنية في السعودية هي من رسائل الاحتجاج والرفض للحوثي ومشروعه، والتخلي عنهم سيجعل غالبيتهم يعودون إلى الصفوف الحوثية كمقاتلين ضد السعودية، واتخاذ مثل هذه الخطوة خطأ استراتيجي قاتل.
وبعيدًا عن الرسائل السياسية، فإن قيمة الحوالات المالية السنوية المتدفِّقة إلى اليمن من المغتربين اليمنيين الذين ينتشرون في 50 دولة، بلغت حوالي 8 مليارات دولار أميركي، يستفيد منها نصف سكّان اليمن تقريبًا.
يوفّر الدخل بالريال السعودي درجةً من الأمان المالي يعجز العمل في اليمن عن توفيرها.
وتقدَّر التحويلات النقدية لليمنيين المغتربين في السعودية فقط، بأكثر من 3 مليارات دولار، بنسبة 40% تقريبًا من إجمالي التحويلات التي يتم إرسالها سنويًّا.
لكن تقديرات البنك الدولي تشير إلى أن الحوالات المالية ظلت ثابتة إلى حد كبير منذ عام 2016 عند 3.77 مليار دولار سنويًّا، منها 61% (2.3 مليار دولار سنويًّا) تُرسَل من السعودية، و29% (1.1 مليار دولار سنويًّا) من بلدان الخليج العربي الأخرى، لا سيما الإمارات والكويت وقطر والبحرين.
وبناءً على تلك الإحصاءات، تعدّ التحويلات المالية المصدر الرئيسي للعملة الأجنبية في السوق المحلية اليمنية، منذ انفجار حرب الانقلاب الحوثي وتوقُّف اليمن عن تصدير النفط والإنتاج الزراعي والصناعي إلى الخارج.
ويوفِّر الدخل بالريال السعودي درجةً من الأمان المالي يعجز العمل في اليمن عن توفيرها، بعد أن خسرَ الريال اليمني أكثر من ثُلثَي قيمته منذ عام 2015، وفي الوقت نفسه تتّسم الأسعار في اليمن بالتقلُّب، وترتفع نتيجة تنافُس الأطراف المتحاربة لكسب مزايا اقتصادية، والسيطرة على الواردات الأساسية والسياسة النقدية.
تخفيف آثار الانهيار الاقتصادي
أدّت قرابة 6 سنوات من الحرب في اليمن إلى انهيار اقتصادي طالَ جميع قطاعات البلاد، يتّضح ذلك في خسارة تراكمية تقدَّر بنسبة 55% في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي من عام 2015 وحتى عام 2020، ونتيجة لذلك يعتمد ملايين اليمنيين على الحوالات المالية المرسَلة من السعودية وبلدان أخرى.
وعلاوة على أن تحويلات العمالة اليمنية تدعم ما يقارب أُسر نصف الشعب اليمني، أمست هذه المليارات المصدر الرئيسي للعملة الأجنبية في السوق المحلية، منذ توقُّف تصدير النفط تقريبًا بشكل كُلّي عام 2015، ما يجعلها أساسية في تمويل الواردات -كالأغذية وغيرها من المواد الأساسية- وتخفيف الضغط على الريال اليمني، وقد يكون لانخفاض الحوالات المالية بشكل كبير عواقب مدمِّرة.
ونظرًا إلى أن الحوالات المالية تعدّ عاملًا خارجيًّا رئيسيًّا في تخفيف آثار الانهيار الاقتصادي، ينبغي وضعها في حُسبان العلاقات اليمنية مع بلدان الخليج العربي، التي تستضيف أعدادًا كبيرة من العمال اليمنيين لكونهم تدخّلوا في الحرب، وعليهم الحفاظ على عدم انهيار حليفهم الرئيسي (الشعب اليمني) لمحاربة المدّ الشيعي الإيراني.
دوليًّا، وفي نماذج الحلفاء عبر الزمن، لم يحدث وأن فعل حليف بحليفه مثل ما تفعله السعودية بحق حلفائها اليمنيين، فالرئيس الذي لجأ إليها لم يعد إلى اليمن، والحكومة التي استنجدَت بها من انقلاب واحد صارت تعاني من انقلابَين (انقلاب حوثي في شمال اليمن وانقلاب المجلس الانتقالي المدعوم من الإمارات جنوبًا)، دون أن تحرِّكَ ساكنًا على أقل تقدير لتوحيد جهود اليمنيين، ومعاقبة المتسبِّبين في إطالة أمد الحرب، أو من يصنعون الأزمات داخل التحالف العربي.
ورغم ما يعانيه الريال اليمني من انهيار غير مسبوق حيث يساوي الدولار الواحد 1056 ريالًا يمنيًّا، بينما كان قبل الحرب يساوي 250 ريالًا يمنيًّا، ما أدّى إلى شلّ الاقتصاد وتفاقُم المعاناة؛ لم تتّخذ السعودية موقفًا لإنقاذ ذلك، بل زادت الطين بلة من خلال قراراتها الأخيرة في محاربة العمالة اليمنية المتواجدة على أراضيها.
أسباب
حتى الآن لم تُعرَف الأسباب التي دفعت بالرياض إلى اتخاذ هذا القرار، رغم نفي مسؤول في القوى العاملة السعودية، غير أن مصادر رجّحت أن تكون الرياض متخوِّفة من أن يُحدِثَ اليمنيون العاملون جنوب المملكة تأثيرًا في مواطني تلك المناطق، التي لا تزال محلّ نزاع بين اليمن والسعودية، وتسيطر الرياض على مناطق جنوب السعودية (نجران وجيزان وعسير) منذ عام 1932 من القرن الماضي.
تضييق السعودية على اليمنيين، سواء للعمالة أو من هم لاجئون إليها، سيكون له نتائج سياسية وعسكرية عكسية على السعودية والحكومة اليمنية.
يتحدث الحوثيون في دوراتهم الطائفية التي يقدمونها للناشئين والشباب والمجنّدين في المراكز الصيفية، أن هناك تنسيقًا بين يمنيين يتواجدون في الحد الجنوبي السعودي والمناطق الشرقية، لإحداث مظاهرات ستطوَّر إلى انتفاضة لما أطلقوا عليهم “المجاهدين”، في إشارة إلى الشيعة في السعودية، وهو ربما ما بلغَ المسؤولين السعوديين الذين اتخذوا مثل هذا الأمر، كخطوة استباقية ووقائية لضمان عدم نقل الحوثيين الحرب إلى الداخل.
لكن ألم يكن يفترض بالمملكة التي تقود تحالفًا عربيًا ضد الحوثيين، اتخاذ خطوات مغايرة لهذا، من قبيل دعم الاقتصاد اليمني، ومنع الانقسام السياسي والعسكري، والإسراع بالحسم العسكري.
الخلاصة
يُقدَّر عدد اليمنيين المغتربين في السعودية بنحو 3 ملايين تقريبًا، يشكِّلون عصب الاقتصاد اليمني خلال فترة الحرب، ونتيجة للحرب انقطعت كافة الموارد المادّية لليمن والمعيشية لليمنيين، عدا عائدات التحويلات المالية للمغتربين اليمنيين في الخارج وفي مقدمتها السعودية.
ويعيلُ كل مغترب في الخارج نحو 5 أُسر في الداخل، وبالتالي من المتوقّع أن يسهم هذا القرار بكارثة اقتصادية كبيرة على الوضع المعيشي لليمنيين، ما قد يتسبّب في موجة غضب عارمة في أوساط الشارع اليمني ضد السعودية، سوف تستثمره جماعة الحوثي لصالحها لمضاعفة الغضب الشعبي على الحكومة السعودية.
ومثل ما تدخلت بالحرب، وساهمت في إطالة أمدها، ما تسبّب في تفاقم الأزمة الإنسانية في اليمن، على المملكة العربية السعودية أن تميّز العمالة اليمنية في أراضيها، وتمنحهم امتيازات أكبر من أي عمالة أخرى وافدة إليها، بحُكم أن السعودية تقود حربًا على اليمن، وترفض محاسبة الفاسدين من القيادات العسكرية والسياسية اليمنية التي تعتمد عليهم في تسيير العملية السياسية أو العسكرية، لا أن تزيد في معاناة الشعب، ومحاربتهم في أرزاقهم وأعمالهم.
فتضييق السعودية على اليمنيين، سواء للعمالة أو من هم لاجئون إليها، سيكون له نتائج سياسية وعسكرية عكسية على السعودية والحكومة اليمنية، بالخصوص إذ ما استغل الحوثيون الإجراءات الأخيرة لإقناع اليمنيين الغاضبين للقتال في صفوفهم تحت مزاعم أنهم يقاتلون من أجل كرامة اليمنيين، وهو ما قد يعزز أيضًا من البروباغندا الحوثية من أن الشقيقة والجارة هي عدوة لليمنيين.