حين فتحَ الجيش الإسلامي بلاد الشام (633م-640م)، وصولًا إلى فتح بيت المقدس وتحريره من يد الروم، اقترحَ الصحابي الجليل عمرو بن العاص على الخليفة عمر بن الخطاب فتح مصر، بعدما باتَت ملاذ الروم الفارّين من الشام، ومن جانب آخر لتأمين تلك الفتوحات وحماية ظهر المسلمين من أي هجمات غادرة من جيوش الروم، التي تلقّت هزيمة نكراء على أيدي المسلمين.
وكانت تتميز أفريقيا في ذلك الوقت بالصحاري الشاسعة الممتدّة التي يصعب السيطرة عليها، ومن ثم إن دخول أي جيش إليها ربما يعرّضه للتيه وكتابة شهادة وفاته رسميًّا تحت رمال القارّة القاحلة، وعليه كان التردُّد في إرسال جيش المسلمين خشية التعرض لمصير العديد من الجيوش الأخرى التي لقت حتفها هناك.
وبعد مداولات ومباحثات واستشارة أهل العقد والحل من علماء المسلمين وخيارهم، وافقَ الفاروق عمر على مقترح ابن العاص بفتح مصر لتأمين الفتوحات الإسلامية، لتبدأ واحدة من أعظم فتوحات الإسلام في العالم، حين تحولت مصر بشعبها وتاريخها وحضارتها إلى أمة إسلامية، متحرِّرة من الاستعمار البيزنطي والروماني، وكان ذلك عام 640م.
كثير من المستشرقين والحاقدين على الإسلام وصفوا في كتابات لهم، الفتوحات الإسلامية بـ”الغزو” و”الاستعمار”، والادّعاء باستخدام السلاح في إجبار شعوب الدول على الدخول في الإسلام، وكان من بين الفتوحات التي سقطت أسيرة هذا الافتراء والكذب فتح مصر، خاصة منطقة النوبة الحدودية بين مصر والسودان.
في هذه الجولة السريعة، نلقي الضوء على الفتح الإسلامي للنوبة، وكيف قدّمَ الإسلام نموذجًا من أروع النماذج المشرقة في الدبلوماسية والحوار والتعايش السلمي وتبادل الخبرات بين شعبَين أحدهما لا يدين بالإسلام، وذلك من خلال المعاهدة الشهيرة “معاهدة البقط”، التي تعدّ مرجعًا في الدبلوماسية العصرية.
لماذا النوبة؟
منذ أن وطأ الجيش الإسلامي الفاتح تراب مصر، وضع عينه على حدودها الجنوبية تحديدًا، كونها البوابة الأكثر خطورة على المصريين من قبل جيوش الأمم الأخرى، ومن ثم ومع الأشهر الأولى للفتح كان التحرُّك صوب تلك المنطقة، والتي يُطلَق عليها “أرض النوابة”.
يستطيع من يفرض سيطرته على هذه البقعة الحيوية أن يتحكّم فيما يخرج من مصر وما يدخل إليها.
وتقع تلك المنطقة في مدار الشريط الذي يربط بين جنوب الأقصر من الناحية المصرية، وجنوب أبو حمد شمال السودان، وهي المنطقة المتنازَع عليها حتى اليوم بين البلدَين، حيث تتمسّك مصر بحقها الإداري والجغرافي فيها، بينما يؤكد السودانيون أنها تاريخيًّا ملك لهم.
ويستطيع من يفرض سيطرته على هذه البقعة الحيوية أن يتحكم فيما يخرج من مصر وما يدخل إليها، وعليه كان الاهتمام بضمّها سريعًا في زمرة صندوق الفتح الأكبر، حمايةً لمصر الإسلامية من جانب، وتوظيفها لنشر الدعوة الإسلامية إلى أعماق أفريقيا -وهو الهدف الأسمى- من جانب آخر.
حجر عثرة أمام جيش عقبة
كان يتميز النوبيون بالقوة الجسمانية ورباطة الجأش والبلاء الحسن في النزال، وكان يُطلَق عليهم “الأساود” نظرًا إلى قوتهم التي شهد بها الجميع في ذلك الوقت، وهو ما لم يكن في حُسبان الجيش الإسلامي حين فكّر في فتح تلك المنطقة، ومن ثم جاءت النتيجة بداية الأمر مخيّبة للآمال.
في السنة الأولى لفتح مصر أرسل عمرو بن العاص، والي البلاد وقتها، جيشًا كبيرًا ولّى عليه القيادي البارز عقبة بن نافع، لفتح النوبة ودخول أهلها في الإسلام، وظنَّ المسلمون وقتها أن المعركة أشبه بنزهة في ظل غياب المعلومات الكافية عن شعب النوبة.
وما أن وصل جيش عقبة وبدأت المعركة حتى فوجئوا بالسهام تنهال عليهم من كل جانب، كان الرمي غاية في الدقة حتى أنه تسبّب في فقء عيون الكثير من الجنود المسلمين (بعض المصادر ذكرت أن 150 جنديًّا مسلمًا عادوا بعيون مفقوءة)، ومن ثم جاءت تسمية المسلمين لهم بـ”رماة الحدق” نسبةً إلى دقّتهم في رمي السهام.
في الصفحة 234 من كتابه “فتوح البلدان“، يروي المؤلف أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري، نقلًا عن بعض المصادر شهادتهم حول مهارة النوبيين في الرماية، “فعن الواقدي قال: حدثنا ابراهيم بن جعفر عن عمر بن الحارث عن أبى قبيل حيى بن هاني المعافرى، عن شيخ من حمير قال: “شهدت النوبة مرتين في ولاية عمر بن الخطاب، فلم أرَ قومًا أحدّ في حرب منهم. لقد رأيت أحدهم يقول للمسلم: أين تحب أن أضع سهمي منك؟ فربما عبث الفتى منا فقال: في مكان كذا، فلا يخطئه، كانوا يكثرون الرمي بالنبل فما يكاد يرى من نبلهم في الأرض شيء فخرجوا إلينا ذات يوم فصافونا ونحن نريد أن نجعلها حملة واحدة بالسيوف، فما قدرنا على معالجتهم. رمونا حتى ذهبت الأعين فعدت مئة وخمسون عينًا مفقوءة. فقلنا: ما لهؤلاء خير من الصلح، إن سلبهم لقليل وإن نكابتهم لشديدة”.
وبعد عدة معارك خاضها المسلمون مع شعب النوبة، عادوا إلى القاهرة مرة أخرى دون تحقيق أي انتصارات تُذكر، لتبدأ مرحلة جديدة من الإعداد الجيّد على كافة المستويات، بعدما ثبت باليقين ورأي العين حجم ومدى قوة الخصوم، ليعود المسلمون مرة أخرى بعد عدة سنوات من أجل تحقيق الهدف نفسه.. فتح النوبة.
فتح النوبة
حاول عمرو بن العاص فتح النوبة أكثر من مرة بعد عودة جيش عقبة، لكنها ظلت مستعصية على الوالي المسلم قرابة 10 سنوات كاملة، حتى تولّي عبد الله بن سعد بن أبي السرح ولاية مصر عام 645م، كان ذلك في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفّان الذي خلفَ الفاروق عمر.
حرص جيش المسلمين على فتح الباب أمام أهل النوبة للسلم وتجنُّب الدخول في أتون حرب، إذ إن الغاية هي الدعوة للدخول إلى الإسلام دون إراقة الدماء.
في عهد السرح ظلَّ المصريون والنوبيون في ظلال صلح أشبه بمعاهدة سلام، لا يعتدي أحد من هنا أو هناك على الآخر، لكن سرعان ما نقضَ النوبيون العهد وهاجموا بعض المناطق في صعيد مصر، ليبدأ الوالي المسلم تجييش جيش جرّار لقتال أهل النوبة.
خرج القائد على رأس جيش قوامه أكثر من 20 ألف مقاتل، وتوجّه إلى عاصمة النوبيين وكانت تُسمّى وقتها “دنقلة”، حيث دكّها بالمجانيق (سلاح لرمي الحجارة المشتعلة بالنار) ثم حاصرها حصارًا شديدًا، حتى استسلم أهلها بعدما أُغلقت أمامهم كافة سُبل الدعم والإمداد.
حرصَ جيش المسلمين على فتح الباب أمام أهل النوبة للسلم، وتجنُّب الدخول في أتون حرب، إذ إن الغاية هي الدعوة للدخول إلى الإسلام دون إراقة الدماء، وما كان القتال إلا حين نقضَ النوبيون العهد واعتدوا على المصريين في الصعيد، ومن ثم حين طلب شعب النوبة الصلح مع عبد الله بن سعد لم يتردّد في الاستجابة لذلك، ومن هنا كانت المعاهدة الشهيرة التي عقدها الطرفان، والتي سُمّيت بـ”معاهدة البقط” في رمضان 651م.
دبلوماسية الإسلام الأولى
كانت تلك المعاهدة التي وقّعها المسلمون والنوبة أشبه بمعاهدة اقتصادية أمنية أكثر منها معاهدة عسكرية أو دينية، إذ كان كل بلد يقدّم للآخر بعضًا مما لديه من موارد، نظير الحصول على الموارد التي يحتاجها من البلد الآخر، فكان المصريون يقدِّمون الحبوب والعدس مثلًا فيما يرسل النوبيون بعض رقيقهم لأداء مهامٍّ ما في الدولة المصرية.
وضعت تلك الاتفاقية التي رسمَت ملامح العلاقة بين مصر والنوبة لقرابة 600 عام كاملة (تعدّ واحدة من أطول المعاهدات في التاريخ)، المبادئ الأولى لعلم الدبلوماسية في التعامُل مع غير المسلمين.
ومن أبرز البنود التي تضمّنتها المعاهدة التي كتبها المحدّث، عمرو بن شرحبيل: “إنكم معاشر النوبة، آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد النبي صلى الله عليه وسلم، أن لا نحاربكم، ولا ننصب لكم حربًا، ولا نغزوكم، ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم”، كما نصّت على دخول أهل كل بلد البلد الآخر “مجتازين غير مقيمين فيه” و”عليكم حفظ من نزل بلدكم، أو يطرقه من مسلم أو معاهد حتى يخرج عنكم”.
ومن البنود التي أثارت الجدل فيما بعد على أيدي الحاقدين على الإسلام: “وعليكم في كل سنة ثلاثمائة وستون رأسًا تدفعونها إلى إمام المسلمين، من أوسط رقيق بلادكم، غير المعيب، يكون فيها ذكران وإناث، ليس فيها شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم، تدفعون ذلك إلى والي أسوان”.
التأويل الخاطئ لهذا البند استخدمه البعض للترويج أن المسلمين أجبروا أهل النوبة على بيع أبنائهم لهم، نظير البقاء على قيد الحياة أو اتّقاء شر الجيش الإسلامي، لكن القراءة الصحيحة تشير إلى أن البند ذكر أن الـ”360 رأسًا” الواجب على النوبيين دفعها لإمام المسلمين، تتعلق بالعبيد “من أوسط رقيق بلادكم” وليس من أبناء النوبة وأحرارها، لا سيما أن النوبيين ما كانوا يملكون شيئًا يقايضون به المصريين غير العبيد، وهنا جاءت المقايضة عادلة، رقيق نظير أغذية وبضائع، لتعكس أن البلدَين على قدم المساواة.
تعدّ المعاهدة واحدة من أكثر الأدلة الدامغة على انتشار الإسلام بالدبلوماسية والدعوة الحسنة، بعيدًا عن أي تأويلات عنصرية تكشف حقدًا دفينًا ضد هذا الدين السماوي.
المفكر الإسلامي المعروف سليم العوا، الأمين العام الأسبق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في مقال له جاء تحت عنوان “دخول الإسلام النوبة” تعليقًا على تلك الاتفاقية، قال إن “هذه المعاهدة دليل على مرونة الأحكام الإسلامية فى التعامل مع غير المسلمين، وأنه ليس هناك شكل واحد لا يتغير للمعاهدات معهم، وإنما تتغير شروطها بحسب تغيُّر الظروف والأحوال”.
وتابع العوا: “وجود المسجد فى بلاد النوبة، قبل الصلح بين المسلمين وبين أهلها دليل على أن المسلمين لم توقفهم العداوة، أو حال الحرب، عن العبور من أرض النوبة إلى ما ورائها من بلاد السودان، وأنهم آمنوا الغدر والخيانة من أهل النوبة الذين لا تزال جمهرتهم تشتهر بحسن الخلق والأمانة والوفاء، وكأن ذلك من ميراث الأجداد والآباء”.
وفي الأخير إن “معاهدة البقط” تعدّ واحدة من أكثر الأدلة الدامغة على انتشار الإسلام بالدبلوماسية والدعوة الحسنة، بعيدًا عن أي تأويلات عنصرية تكشف حقدًا دفينًا ضد هذا الدين السماوي، ليواصلَ الإسلام يومًا تلو الآخر براهينه المدوية على قوة حجّته، وصدق رسالته، وعالمية تأثيره.