وضع الرئيس التونسي قيس سعيّد بلاده أمام منعرج غير مسبوق منذ الثورة الشعبية عام 2011، وذلك إثر قراره يوم عيد الجمهورية في 25 يوليو/ تموز المنقضي، تجميد عمل المؤسسة البرلمانية اتكاءً على تأويل قانوني.
وضعه هذا القرار في موقف لا يُحسَد عليه، ليس من حيث الأعباء التي عليه مواجهتها شبه منفرد مع كثرة المعارضين للانقلاب في الداخل، بل نظرًا أيضًا إلى تزايد الضغوط الخارجية المطالِبة إيّاه بالعودة إلى المسار الدستوري الديمقراطي، وتحديد سقف زمني لوقف العمل بالإجراءات الاستثنائية المتّخذة.
نكسةُ الثورة
لم يكد يجني التونسيون قطاف الثورة الشعبية التي أدارت أنظار العالم إليها، وانتشر لهيبها الحماسي لدى الشباب العربي للنسج على منوالها، حتى صُدِم قطاع واسع من شباب تونس الذي ارتكز عليه قيس سعيّد في حملته الانتخابية تطوّعًا كما قالوا، لا لشيء إلا لتحقيق انتظارات “الانفجار الثوري” كما يسميه قيس سعيّد نفسه.
ويعدّ ارتداد هذه الصدمة كبيرًا، لكون الانقلاب يأتي بعد انتخابات عوّلَ عليها الشارع التونسي في تحقيق النمو والازدهار والاستقرار، خاصة بعد إعطاء الجانب السياسي أكثر ممّا يستحق، ما يفترض أنه قد تعبّد وتعمّد بالحريات والتعددية بشكل صار من المستحيل معه العودة بالشعب إلى مربّعات الاستبداد والدكتاتورية.
رمزية الربيع
ما من شكٍّ أن صورة انقلاب قيس سعيّد عصفت بتونس كرمز يُضرَب به المثل في المنطقة، بل الأدهى من ذلك وأمرّ هو أن يخيّب الرئيس انتظارات وأحلام الحالمين بالربيع العربي في أن يزهر في ربعه ومهده تونس الخضراء.
فلا غرابة والحال كذلك أن يحبط سعيّد أولئك الذين لا يزالون يعلّقون أحلامهم ويضربون أمثالهم بنجاح تونس ونحتها شكلًا عربيًّا متفرِّدًا في التوافق، حتى صارت قدوة للثورات المتعثِّرة في ليبيا وسوريا واليمن.
وعليه يأسى المتعلِّق بالتجربة التونسية على انطفاء جذوتها وشعلتها على يد رئيسها المنتخَب من أبناء الوطن ليأكلهم، كما لو أكلتهم ثورة مضادة.
آمال التراجُع
لا شك أن شعوبًا قدّمت تضحيات ودماء من أجل أفكار سامية، تسهل عليها التضحية لمزيد ترسيخها وإزاحة العقبات في طريق تحقيقها.
وقد أشار قيس سعيّد ليلة انقلابه إلى مواجهة المناوئين له بـ”وابل من رصاص” في أسلوب عسكري ليس بالجديد، بعد توعّده بإطلاق الصواريخ من منصّاتها في مناسبات سابقة، لكن يبدو أن الطرف المقابل، رئيس البرلمان راشد الغنوشي، قد آثر ردّ السيف إلى غمده لتحييد الشارع وتهدئة الخواطر، خاصة أنه أمام الجيش التونسي وسمعته التي لا يُراد الإساءة إليها، وإلى ذلك بدا قيس سعيّد في خطابه الجديد حريصًا كل الحرص على عدم “إراقة أي قطرة دماء”.
الرفض الداخلي
رغم التطمينات التي قدّمها رئيس الجمهورية قيس سعيّد للشعب، آخرها ما صرّحَ به في لقائه بصحفيي صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية بقصر قرطاج، حيث نفى أن يبدأ مرحلة دكتاتورية في عمره الحالي.
إلا أن ذلك غير كافٍ لتهدئة الخواطر القلقة من انحسار الحريات مثلًا، فالصحفية نفسها التي نقلت تلك التصريحات أكّدت منعها من طرح سؤال عن الرئيس، وهو الذي تعهّد بالحفاظ على حرية الصحافة كما قالت الصحفية، وهذا يأتي بعد اقتحام أحد المكاتب الإعلامية لإحدى القنوات العربية، ومنع أخرى من تغطية اعتصامَي المتظاهرين الموالين والمناوئين لحلِّ الحكومة والبرلمان.
لم يتأخر الردّ الخارجي الرافض لضرب الانتقال الديمقراطي التونسي، وقد كانتا دولتا الجوار ليبيا والجزائر من أوائل الدول التي توجّهت نحو تونس مع خطوة سعيّد.
هذا يضاف إلى التخوفات من حملة الاعتقالات الأخيرة لبرلمانيين، وما ورائها من توظيف القضاء العسكري في محاكمات المدنيين.
وقد رفضت جمعية القضاة احتكار النيابة العامة بيد الرئيس، داعيةً إياه إلى سرعة إنهاء العمل بالتدابير الاستثنائية، فضلًا عن منظمات وجميعات أخرى حذّرت بقوة من تمديد الإجراءات الاستثنائية، والالتزام بمدتها وهي شهر، لإنهاء العمل بها مع مراعاة الجوانب الحقوقية العامة والفردية، واحترام استقلالية القضاء والنيابة العامة.
هذا دون إغفال دور المنظمة النقابية الأساسي، الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي وعدَ بتقديم خارطة طريق لرئاسة الجمهورية في الأيام المقبلة، تُخرِج البلاد من حالة الانسداد، بعد أن عارضَ خطوة الرئيس في الذهاب نحو إجراءات من دون ضمانات توضِّح الرؤية المستقبلية.
الرفض الإقليمي والدولي
لم يتأخر الرد الخارجي الرافض لضرب الانتقال الديمقراطي التونسي، وقد كانتا دولتا الجوار ليبيا والجزائر من أوائل الدول التي توجّهت نحو تونس مع خطوة سعيّد.
وتعكس تهنئة اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر لقيس سعيّد رغبته الجامحة في حشد التأييد إلى جانبه، خاصة بعد المواقف الجزائرية القوية المناوئة له، التي جاءت مؤخّرًا على لسان الرئيس عبد المجيد تبون وقائد أركان الجيش الجزائري، اللذين هدّدا حفتر من الاقتراب من الحدود، واعتبار تبون في تصريح له أن طرابلس كانت خطًّا أحمر لن تسمح لحفتر بتجاوزه.
وهذا يفسِّر سرعة تحرُّك وزير الخارجية الجزائري الذي زارَ قصر قرطاج، بالتزامن مع زيارة لنظيره المغربي اللذين تلعبان بلادهما دورًا مهمًّا في حلّ الأزمة الليبية مغاربيًّا، بعيدًا عن أي تدخل إماراتي أو مصري، وهي كلها ضغوط واستجابة سريعة لدرء أي انزلاقات قد تتسبّب فيها الخطوة التونسية، وما لها من تداعيات مباشرة على المغرب والجزائر وليبيا، وهي البلدان الثلاثة التي تأثرت بموجة الربيع العربي من خلال التعددية السياسية فيها.
وفي الإطار نفسه، شجب رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي، والمتحدِّث باسم الرئاسة التركية، تعليق العملية الديمقراطية في تونس، قبل أيام من دعوة قطرية لانتهاج سبيل للاستقرار.
وقد ذهبت بعض الدول الصديقة إلى التلويح بسحب ودائعها المالية، في حال تأزُّم الوضع التونسي وغياب رؤية واضحة، كما إن حالة عدم الاطمئنان جعلت الجميع يطالِب قيس سعيّد بالعودة إلى المسار الدستوري، آخرها دعوة وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان.
لكن الولايات المتحدة ولو جاء موقفها متأخِّرًا نوعًا ما، إلا إنه كان الأكثر صرامة وحزمًا من حيث بقية الردود لدواعٍ إنسانية وقانونية وسياسية، لذلك انتظرت لتحكم على طبيعة قرارات الرئيس التونسي، ولترى ما إذا كانت انقلابًا فعليًّا، لاتخاذ ما يناسبها من إجراءات بخصوص مواصلة التعاون والمساعدات أو مراجعة ذلك.
ثم تبلورَ الموقف أكثر من عدة مستويات، فوزير الخارجية أنتوني بلينكن أعربَ عن تمسُّك بلاده بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان كأساسٍ للحُكم في تونس، والأهم من ذلك هو دعوة مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان لقيس سعيّد في مكالمة مطوّلة إلى عودة العمل بالدستور والمؤسسات.
الخبر الذي تجاهله موقع الرئاسة التونسية.. ترى لماذا؟!:
حث مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان الرئيس قيس سعيد في مكالمة دامت ساعة كاملة على رسم خطة للعودة السريعة “للمسار الديمقراطي” وضرورة “الإسراع بتشكيل حكومة جديدة وعودة البرلمان المنتخب في الوقت المناسب”.#تونس #قيس_سعيد— محمد كريشان (@MhamedKrichen) August 1, 2021
ومعلوم أن توجُّهات الإدارة الديمقراطية الحالية تشجِّع على قِيَم الحرية والحقوق في البلدان العربية، التي هي جزء من وعود بايدن قبيل حملته الانتخابية، خاصة فيما يخصّ وضع مصر والسعودية، وبالتالي لن تسمح بلاده بتدهورها في تونس (على خلاف موقف إدارة الديمقراطي أوباما، التي لم تعترف بانقلاب السيسي لاعتبارات أخرى).
وتعدّ انتقادات الموظف السامي السابق في الخارجية الأميركية وليام لورانس، التي أشار فيها إلى أن تدابير سعيّد تعدّ انتهاكًا للقوانين الديمقراطية والدستور؛ خيرَ دليل، دون اعتبار تجربة الديمقراطيين السيّئة مع الرئيس ترامب خلال هجومه على مبنى البرلمان، وهو ما تذكّرهم به الحالة التونسية.
ملامح المشهد
لا يمكن تقديم أيّ طرح يحظى بنوع من الإجماع ما لم تتّضح معالم المنعرج الحاسم، الذي كان صدمةً للجميع، فالأمر شديد الارتباط بالتطورات الحينية، لذلك تبقى الأعين مركّزة على تصرُّفات قيس سعيّد الآنية، في وقت تكاد تنعدم فيه الخطوط الاتصالية مع القصر التي تتوقف عند ما تجود به صفحة رئاسة الجمهورية على موقع فيسبوك.
وتبعًا لذلك، يمكن تصوّر 3 توقعات لا رابع لها، فإما أن ينجح الانقلاب الدستوري ولو على مراحل، عبر استغلال عامل الوقت، ليحكمَ سيطرته على مفاصل السُّلط التنفيذية والتشريعية والقضائية، يساعده في ذلك خفوت حدّة الرفض لكل أشكال التفرُّد بالسلطة.
هذا الملمح السوداوي المتصلّب الذي قد يئِد الربيع العربي في مهده، إذا ما مضى الرئيس قدمًا في سياسة الهروب إلى الأمام، وزيادة الشرخ بين الطيف السياسي على قاعدة إقصائية بمبدأ “فرّق تسُد”، وهو منهج يمهِّد الأرضية لديكتاتورية وليدة قد تكون أسوأ ممّا سبقها، سمتها ضرب المؤسسات وتعطيلها ونشر الجيش في المرافق الحيوية على طريقة ما تمَّ لمقرّ البرلمان، ثم القيام بتنقيح دستوري وإكمال الانقلاب على دستور الثورة برمّته، وإرجاع النظام الرئاسي المتسلِّط.
أما الملمح الثاني للمشهد فقد يتحقق في حالة اصطدام السقف العالي الذي رسمه سعيّد بصخرة المعارضة، من ساسة ونقابات وشخصيات ومدوِّنين ومجتمع مدني، وهي حزمة مواقف ربما تثبط عزيمة الانقلاب، مع إمكانية تجاوز القرارت لمدة 30 يومًا، وهو أمر وارد مع تجاهُل سعيّد لدعوات الإفصاح عن برنامجه هذا، ناهيك عن إحراج مؤسسة الجيش حسنة السمعة مع الشعب، في تعطيل عمل المؤسسات.
إلى كل ذلك يُضاف احتمال رفض الإجراءات الرئاسية أو تراجُع المؤيّدين مع مضي الوقت، خاصة أنها بدأت تتبلور فعليًّا من عدة سياسيين، وستكون مؤثِّرة أكثر على الرئاسة إذا جاءت من الحزام الداعم للرئيس، على غرار التصريحات العديدة لممثّلي التيار الديمقراطي الرافضة بشدة للإجراءات الاستثنائية، وعودة الاعتقالات العشوائية وضرب الحريات ووضع الخطوط الحمراء.
ويبقى هذان الملمحان مفتوحَين على مشهد ثالث وسط يبدو الأكثر حظوظًا، بالنظر إلى طبيعة التجربة التونسية المتغيّرة دائمًا والمفاجئة للجميع منذ الثورة، تقود ولا تقاد، تصنع ولا تستنسِخ التجارب، فهي صبغة تونسية استثنائية لا هي انقلابية دموية على الطريقة المصرية ولا تركية محبِطة للانقلابات.
وأهم تمظهرات هذا الملمح تتمثّل في تجميد حيني لعمل الأحزاب، والتضييق على بعض الحريات إلى حين انقضاء “الخطر الداهم”، الذي على أساسه قامَ الرئيس بتأويل الفصل الدستوري.
وقد نكون في أقصى الحالات أمام تعليق وتجميد أعمال وأنشطة الأحزاب إلى حين، وبالتالي قد تتشكّل منظومة جديدة بطريقة مغايرة عن طريق تدخُّل الدولة العميقة لحفظ الوطن والمواطن والمؤسسات، حتى تتبلور رؤى إصلاحية للنظام الانتخابي الذي كان أحد أسباب الانسداد وضيق الأفق الحالي.
وعمومًا، وبالمنطق غير التعسُّفي للفصل 80 من الدستور، ستعود تونس إلى مسارها بمجرد توفير التطعيمات اللازمة لمعظم التونسيين، وتوفُّر حد أدنى من تعافي الوضع، وهو الخطر الداهم الذي قدّره قيس سعيّد.
وبناء على ذلك قد يذهب نحو عدم تمديد تجميد عمل البرلمان، ووقف الأحكام الاستثنائية بعد تشكيل الحكومة، لكن مع ذلك تبقى الخشية مطروحة بقوة عبر ثني رئيس الدولة من أطراف لم تخفِ للوهلة الأولى أي تحفُّظ بشأن تأويل النص الدستوري، بُغية الذهاب نحو مشروع إقصائي لتصفية خصوم سياسيين أشبه بانقلاب ناعم.