الصورة: من داخل متحف “على خط التماس”
عندما كنت في سنتي الثانية من دراستي الجامعية، ذهبت في جولة إلى متحف سُمي “على خط التماس” والذي يقع على شارع رقم (1) في القدس المحتلة، كانت الجولة إجبارية ضمن مساق أكاديمي، وكان علينا أن نقدم وظيفة نهائية تتعلق بالمتحف.
في هذا اليوم، كان هناك معرض خاص في المتحف يتمحور حول العنف ضد الحيوانات، بعد انتهاء الجولة والتي شاهدنا من خلالها مشاهد قاسية وغريبة تصف العنف ضد الحيوانات، اجتمعنا مع مدير المتحف، فروى لنا عن المبادئ التي تقف من وراء فكرة المتحف، وهي المبادئ التي جعلته، على حد قوله، يرفض أي تمويل من الحكومة ويرفض التعاون مع المؤسسة العسكرية.
روى لنا عن عقيدته التي يؤمن بها، وهي أن الفن هو نشاط سياسي قبل أي شيء، وعليه أن يسعى إلى تغيير اجتماعي وسياسي، استفاض وتحدث عن المعارض المختلفة التي نظمها في المتحف، ومنها كان معرض عن هدم البيوت.
ظننت بسذاجة تامة أنه لأول مرة يمكننا أن نرى متحفًا إسرائيليًا لديه أهداف غير صهيونية، السذاجة كانت حينها أنني لم أدرك بعد أن المتحف هو مبنى كان يتبع لـ”إفلين وأنضوني برامكي”، الذي سكنت فيه العديد من العائلات الفلسطينية قبل أن تهاجمه قوات الاحتلال وتحوله إلى مقر عسكري عام 48، هذا المتحف الذي يحمل الشعار “حدودنا ستكون أشجار زيتون” على مدخله، هو متحف يقع على أنقاض بيت عائلات فلسطينية، وهذا المبنى هو المبنى الذي حاول أنضوني برامكي أن يسترجعه مرات عديدة لكن مطالبه كان تجابه بالرفض، وتتفاقم سذاجتي عندما ظننت أن المشروع هو فقط إسرائيلي غير صهيوني.
عندما تيقنت أن هذا المبنى كان يتبع لعائلات فلسطينية، وبُني على يد المهندس الفلسطيني أنضوني، كانت هذه لحظات مؤلمة، لأني استوعبت أنني قد قدمت الوظيفة النهائية في المساق دون أن أذكر هذا التناقض الرهيب بين “الأخلاق” التي تقف من وراء المتحف والحقيقة، وهي أن هذا المتحف هو جزء من الاستعمار الصهيوني، كيف لم تراودني الشكوك حينها وهو يُسمى “على خط التماس”، أي الخط الذي يفصل القدس “الشرقية” عن “الغربية”؟! كيف يمكن لمتحف يحمل مشروعًا سياسيًا وإنسانيًا، حسب ادعائهم، أن يقوم على أنقاض بيوت سُلبت وهُجرت عائلاتها؟! وأن تُبدّل العمارة الفلسطينية وتتحول إلى مفهوم مادي استعماري؟! كيف يُمكن أن يعرض هذا المتحف قضية هدم البيوت؟! وكيف لم يجول بخاطري أن أقرأ عن تاريخ المبنى؟!
يروي المحاضر في جامعة بير زيت، عبد الرحيم الشيخ، رواية جابي برامكي، ابن أنضوني برامكي، ويروي قصته مع البيت المسلوب، يقول: “يستذكر برامكي أثاث البيت، وزواياه، وغيرها من التفاصيل، ويحتفظ بقالب الحلوى الذي أخذته العائلة قبل المغادرة، ويستذكر لحظة دخوله بيت عائلته (الذي صادره حارس أملاك الغائبين، ولم تتمكن العائلة من الوصول إليه قبل العام 1967) الذي صار متحفًا استعماريًا على (خط التماس) بين شطري مدينة القدس العربية، ينجح برامكي في دخول بيت عائلته – المتحف – دون أن يدفع رسوم الدخول”، إن هذا البيت الذي لم تستدرج أية ذكرى دموع الراحل برامكي كما استدرجته ذكراه لا يزال قائمًا كمتحف استعماري تمارس فيه المؤسسة الثقافية الصهيونية ذات الوقاحة والنكران كما مارستها تجاه مؤسسات التعليم العالي الفلسطيني وأكثر.
من الجدير بالذكر أن جابي برامكي عمل كأستاذ في جامعة بير زيت، كما نشط في الحملة العالمية لمقاطعة دولة الاحتلال، التي أصدرت نداءً بالإنجليزية، بعنوان: “بيت (آل) برامكي: الحاضر/ الغائب” هذه ترجمته:
“إننا في الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل (PACBI) نطالب مؤسسات المجتمع المدني الدولية دعم جهودنا لإعادة بيت (آل) برامكي في القدس إلى أصحابه الحقيقيين، عائلة برامكي”.
بالإضافة إلى النداء، تجدون في موقع PACBI بيان حول جابي برامكي بعنوان “جابي برامكي .. جذور العطاء التي لا تجف”، يقول:
“عندما قررنا إطلاق حملة ضد متحف إسرائيلي مقام في منزل عائلة برامكي في القدس والذي صودر من والده خلال نكبة عام 1948، كنا نبحث تفاصيل قصة نهب البيت، كبيوت عشرات آلاف الفلسطينيين الذين اقتلعتهم وهجرتهم العصابات الصهيونية وبعدها دولة الاحتلال، التفاصيل الجمالية المعمارية الخاصة للبيت، تفاصيل تهجير العائلة إلى ما بات يعرف بالقدس الشرقية… كان جابي يشارك في التفكير والتخطيط بتجرّد من علاقته المباشرة مع القصة، استمر ذلك حتى وصف لنا جابي كيف كان والده، مهندس البيت وصاحبه، يذهب كل يوم إلى الحدّ الفاصل بين شطري المدينة المقدسة المنكوبة، ليجلس ساعات يراقب بيته المنهوب، بصمت، بحرقة، وبإصرار على التواصل معه، على الأقل روحيًا، وقتها تغلّب الحزن لوهلة على رباطة جأش جابي، ولكن فقط لوهلة”.
لقد كانت هذه التجربة بالنسبة لي صفعة قوية على الخد، إذ أنها ذكرتني بأهمية البحث عن جذورنا، ومعرفة تاريخ الأماكن التي نمر بجانبها ولو لمرة واحدة في الأسبوع على الأقل.
جعلتني هذه التجربة أتذكر دومًا أن وراء كل مبنى وكل زقاق وكل شارع تقع حكاية حزينة، حكاية نكبة شعب سُلبت أراضيه وهُجر من بيوته، وراء كل مكتبة “وطنية” تقع كتب فلسطينية مسروقة، ككتب المربّي الفلسطيني “خليل السكاكيني” ابن مدينة القدس، ووراء كل شجرة زيتون شهدت على الجريمة تقف الآن مشاريع صهيونية، بالإضافة إلى ذلك، لهذه المباني دلالات عديدة أخرى، إذ أنها تعرّي “اليسار الإسرائيلي” وتكشف زيفه، لو كان مدير المتحف إنسانيًا فعلاً كما يدعي، فلماذا لا يُرجع هذا المبنى إلى أبناء أنضوني برامكي؟! (وأعود إلى التفكير بسذاجة مرة أخرى)، والمضحك فعلاً هو أن المتحف لا يتنكر لهذا الحقائق التاريخية، بل إنك تجد قسمًا من هذه الرواية في الصفحة الرئيسية، ويُذكر هناك أن البيت يتبع لعائلة البرامكي، لكن وفق “منطق” المتحف، يكفي أن يكون المتحف “إنسانيًا” و”يسعى إلى التغيير وفحص الصراعات في المنطقة” كي يزيل المسئولية عن نفسه.
المباني ليست كومة أحجار مجتمعة، بل هي هناك لتذكرنا بنكبتنا المستمرة، وهي تُذكّر المُستعمِر أن وجوده غير طبيعي. المبنى الفلسطيني يضعضع الخطاب الاعتيادي، فهو يجعلك تتوقف للحظة، تعود إلى المشهد مرة أخرى، وتنتبه إليه بعمق، فها هو المتحف يقف هناك خلف شجرة الزيتون، مبنى عربي فلسطيني، يقع خلف القطار الاستيطاني السريع، بجانب بيوت يرفرف علم دولة الاحتلال على سطحها، ومهما أراد الاستعمار أن يخفي الفلسطيني، لا يستطيع، لأن فيه ما يكفي من الواقع كي يضعضع الكيان الكولونيالي الذي طالما حاول إقناع نفسه أنه طبيعي، إن المبنى كالحجر الذي يرميه الطفل الفلسطيني على القطار أو على الحافلة، فهو يهز كيان الراكب المُستَعمِر، ويذكره أن ذلك الجسد والكيان الفلسطيني لن يختفي.
هذه قصة بيت واحد من بين ملايين البيوت التي تم تهجيرها في النكبة، ولا ننسى البيوت الجميلة في حي الطالبية والقطمون والبقعة وغيرها من الأحياء المقدسية، ولكل واحد من بيوتها حكاية، وكل واحد منهم أصبح الآن مبنى يخدم أحد المشاريع الصهيونية، أو يسكنه غريب، ربما من أهم الأفعال الوطنية التي قد نقوم بها في مسيرتنا هي قراءة تاريخ الأماكن والبيوت الفلسطينية وتاريخ العائلات الفلسطينية التي سكنت فيها، فهكذا نحارب الخطاب اليومي الذي يقصينا ويتجاهل وجودنا، ربما هي فعل هام أيضًا لأنها تجعلنا نذكر هذه الأمور في الوظائف النهائية التي نقوم بتسليمها.