ترجمة وتحرير: نون بوست
في تونس، أغمض الرجل، الذي حذّر المنتقدون من أنه من الممكن أن يصبح ديكتاتور تونس القادم، عينيه وردّد قائلا: “مرحبا بكم في تونس، حيث تبقى حرية التعبير محمية دون أي تدخل في الحريات الشخصية على الإطلاق”.
كنا متواجدين في غرفة استقبال رسمية في القصر الرئاسي في تونس العاصمة قرابة منتصف نهار يوم الجمعة، وهي غرفة كلها شمعدانات كريستالية وكراسي ذات حواف من الذهب. بعد ذلك، دعاني إلى هناك الرئيس قيس سعيّد، الذي أقال رئيس الوزراء قبل خمسة أيام، وجمّد البرلمان وسيطر على البلد الذي اندلعت فيه الثورات ضد الحكم الاستبدادي الذي أطلق عليه الربيع العربي قبل 10 سنوات.
قال الرئيس اقتباسا عن شارل ديغول، الزعيم الفرنسي الذي أعاد بناء الديمقراطية بعد الاحتلال النازي لفرنسا: “لماذا تعتقد أنه في سن 67، سأبدأ مسيرتي المهنية كديكتاتور؟” وتعهد السيد سعيّد بأنه لن يسلب الحريات التي تم الحصول عليها بشق الأنفس في تونس، والتي تمثّل الديمقراطية الوحيدة التي انبثقت عن الانتفاضات العربية. وعد الرئيس، البالغ من العمر 63 عاما، الشعب قائلا: “لا خوف من فقدان حرية التعبير، ولا خوف من سلب حق الناس في الاحتجاج”.
في المقابل، منع الرئيس التجمعات العامة لأكثر من ثلاثة أشخاص، بينما أغلقت قوات الأمن المكتب المحلي لقناة الجزيرة الإخبارية العربية. وفي شوارع تونس لم أجد أيّة رغبة تذكر للاحتجاج، حيث لم يكن هناك شعور بالخوف تجاه مصير الديمقراطية التونسية، فكنت أتجول وأنا أشعر بغياب هذه العقليّة كما لو كانت طرفا وهميا.
استمر الهدوء في تونس؛ حيث يتجوّل المتسوّقون في الشوارع، ويستلقي البعض على الشواطئ، لم تكن هناك سوى بعض أجهزة راديو سيارات الأجرة التي تنقل الأخبار. بدا الناس راضين عن الانتظار ليروا ما سيفعله الرجل الذين ائتمنوه على بلدهم لإصلاحها. كان عليك أن تتساءل عما إذا كانت الديمقراطية بالطريقة التي يراها الغرب هي ما أراده الكثير منهم في المقام الأول، أم أنهم كانوا فقط يرغبون في العيش بشكل أفضل وبكرامة متمتّعين بمزيد من الحريات.
كان يفترض أن تكون تونس آخر أمل عظيم للربيع العربي، إذ كان صمود ديمقراطيتها على الرغم من معاناة باقي الدول من الحرب الأهلية أو الثورة المضادة، إلهاما للناس في جميع أنحاء المنطقة وللكثيرين في الغرب. في المقابل، قضى عقد من الزمن من البطالة المستعصية والفقر المتزايد والفساد المنتشر والمأزق السياسي والآن الوباء، على ثقة الناس في الحكومة. فخلال الشهر الماضي، خرج التونسيون مرة أخرى إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير، مما منح السيد سعيّد فرصة للاستيلاء على السلطة.
لقد قضيت عدة أيام في العاصمة عندما تلقيت فجأة مكالمة إلى جانب صحفيين آخرين يعملان في صحيفة نيويورك تايمز لمقابلة الرئيس. اعتقدت أن هذه الزيارة قد تكون فرصتي لاجراء مقابلة، لكن كما اتضح، وقعت دعوتنا لإلقاء محاضرة. كان الرئيس أستاذ سابق في القانون، وكان صوته مدويا للغاية وخطابه لا تشوبه شائبة لدرجة أنني كنت أتخيله على الفور كما لو كان في قاعة محاضراته القديمة. وارتدّت لغته العربية الرسمية على الأرضيات الرخامية كما لو أن الغرفة شُيّدت وفقا لمواصفاته الصوتية.
في إحدى اللحظات، التقط السيد سعيّد حزمة من الأوراق من طاولة رخامية صغيرة ذهبية اللون وُضعت على يمينه. لقد كانت نسخة مطبوعة من دستور الولايات المتحدة الذي فقد هيبته إلى حد ما بسبب تجميع أوراقه بواسطة مشبك ورقي. لقد حدّد جزءا منه باللون الأصفر، حيث قرأه هذه المرة باللغة الفرنسية، وجاء فيه: “نحن شعب الولايات المتحدة، من أجل تشكيل اتحاد أكثر كمالا….”. وتابع السيد سعيّد حديثه قائلا إنه: “درس ودرّس الوثيقة لأكثر من ثلاثة عقود، ولطالما كان يحترم فحواها، لقد كان دستورًا “عظيمًا”. وأفاد السيد سعيّد أنه مثلما اضطر القادة الأمريكيون على غرار أبراهام لنكولن إلى اتخاذ إجراءات متطرفة للحفاظ على النظام، توجب عليه أيضا فعل ذلك.
عندما بدأ أحد زملائي بترجمة ما يقوله، أُمر بالتوقف. وتجدر الإشارة إلى أن طاقم تصوير حكومي صوّر المقابلة، وأدركنا أنه سيقع نشر مقطع فيديو للقاء كاملا على صفحة الرئيس الرسمية على فيسبوك، وربما لهذا السبب كان من المهم أن نلتزم، نحن الجمهور، بالصمت. وعندما بدأنا في طرح الأسئلة، قال إن “هذا اللقاء ليس مقابلة صحفية”، على الرغم من أنه وعد بالإجابة على جميع الأسئلة.
عندما كنت أقيم في القاهرة، حرصت على السفر إلى تونس العاصمة في أقرب وقت ممكن، بعد أن أعلن الرئيس عن استيلائه على السلطة على شاشة التلفزيون ليلة الأحد الماضي. كنت أتوقع وجود اضطرابات حاشدة عندما أصل إلى تونس. بحلول ذلك الوقت، كان من الصعب تنظيم المظاهرات؛ حيث حاصر الجنود البرلمان، وحظر مرسوم رئاسي التجمعات لأكثر من ثلاثة أشخاص. وعلى الرغم من ذلك، بدا أن القليل منهم يميلون إلى الاحتجاج. تقريبا، أبدى كل تونسي تحدثت معه عن شعوره بالسعادة القصوى بما فعله السيد سعيّد، وهو ما يعكس حالة الاستياء التي بلغوها من الوضع السابق. حينها، سألني شاب تونسي قائلا: “ماذا فعلت لنا الديمقراطية؟”
تربّع السيد سعيّد على عرش السلطة من خلال صندوق الاقتراع في سنة 2019. وبدا أنه ليس شعبويا، لاسيما بين الناخبين الشباب الذين عززوا حملته على فيسبوك. في الواقع، لُقّب السيد سعيّد “بروبوكوب” بسبب عادته في التحدث بلغة عربية رسمية صارمة، عندما يتحدث عن القضايا الدستورية، لقد بدا أكبر من سنّه الحقيقي.
في المقابل، كان السيد سعيّد دخيلا على النخبة السياسية المحتقرة. لقد عاش في حي شعبي لسنوات وشرب قهوته في المقاهي الشعبية مثل جيرانه. وانتخب بأغلبية ساحقة. طوال الأسبوع، حاولنا تحليل تحركات السيد سعيّد من أجل التنبؤ بمستقبل تونس. ففي يوم الجمعة، أُلقي القبض على عضو صريح في البرلمان مؤيد للثورة ومنتقد متكرر للجيش. بعد ذلك، جاء مرسوم رئاسي ينص على إمكانية تمديد إجراءات الطوارئ إلى ما بعد الثلاثين يومًا التي أعلنها السيد سعيّد في البداية. من ناحية أخرى، كان لا يزال يشارك في محادثات تبدو مدنية مع النقابات العمالية والسياسيين الرئيسيين الآخرين.
يوم الأربعاء، أصبحت أنا وزملائي جزءا من القصة عن طريق الخطأ عندما قبضت علينا الشرطة بينما كنا نأخذ آراء التونسيين. لقد احتجزونا في المحطة المحلية وفحصوا جوازات سفرنا واستجواب أحد زملائي. بعد مرور ساعتين، سمحوا لنا بالذهاب مع تحذيرنا بالتوقف عن التصوير في الحي.
لم يكن لدينا تفويض رسمي، ولم يعد هناك مكتب لرئيس الوزراء لإصدار التقارير. مع ذلك، صُدم الصحفيون المحليون بتجاربنا. في جميع أنحاء المنطقة، يخضع الصحفيون لرقابة مشددة ويُمنعون من تقديم التقارير الأساسية، ويُعتقلون في بعض الأحيان. من جانبهم، أفاد هؤلاء الصحفيون أن ذلك لم يحدث في تونس بعد الربيع العربي، حيث كان من المفترض أن تكون تونس مختلفة.
على الرغم من أننا طلبنا إجراء مقابلة مع الرئيس في وقت سابق من الأسبوع، إلا أنه لم يتصل بي رئيس التشريفات الخاص بالسيد سعيّد صباح يوم الجمعة إلا بعد أن اكتسحت أخبار ما كان يسمى “اعتقالنا” موقع تويتر والدوائر السياسية المحلية. فهل يمكن أن نكون في القصر في غضون ساعة واحدة بالضبط مُرتدين ملابس مناسبة؟ كنتيجة لذلك، وجدنا أنفسنا في غرفة انتظار مزخرفة بعد ظهر يوم الجمعة، وتلقينا تعليمات بشأن مكان الوقوف والجلوس وتوقيت الجلوس مرة واحدة عندما نكون في حضرة الرئيس. وقبل أن ندخل، رأيت رئيس التشريفات وهو يلقي نظرة خاطفة على صندلي. لقد أرسل لي حذاء مستعارا ذو كعب عالي ومقاس كبير للغاية حتّى أرتديه.
بمجرد جلوسنا، وضعت ساقا فوق الأخرى على كرسي مذهّب، ولم أجرؤ على الجلوس فيه بوضعية أقل من المثالية. نهض رئيس التشريفات ولوح بيديه لي من الزاوية خلف الرئيس. أدركت أنه كان يخبرني ألا أضع الساق فوق الأخرى. كان السيد سعيّد، الذي لم يتفطن للدراما التي حصلت بسبب وضعية جلوسي، يقول إن “الصعوبات” التي واجهناها نحن وسائل الإعلام الإخبارية كانت غير مقصودة. وقال إنها حدثت لأن “البعض يعتزم جعل الرئاسة تبدو سيئة”. لكنه كان السيد سعيّد أكثر عزما على القول إن أفعاله ليلة الأحد الماضي كانت دستورية. وقال إن كل ذلك كان وفقا للمادة 80 من دستور تونس 2014 الذي يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات استثنائيّة في حالات “الخطر الوشيك” على البلاد.
تساءل النقاد والخبراء الدستوريّون والمعارضون السياسيّون عما إذا تجاوز السيد سعيّد المادة 80. في المقابل، دون المحكمة الدستورية التي من المفترض أن تنشئها تونس، لا يوجد أحد للفصل في النزاع. في هذا السياق، قال السيد سعيّد، الذي نصب نفسه نائبا عاما، إنه “سيحترم جميع الإجراءات القضائية”، ولكنه حذر من أنه لن يترك أي شخص “ينهب الشعب التونسي”، وهو إعلان يشير إلى أنه ينوي محاسبة السياسيين الفاسدين، حيث كان الفساد الرسمي من الأسباب التي استشهد بها للاستيلاء على السلطة.
بعد ذلك، أشار السيد سعيّد باختصار إلى المشاكل الداخلية للولايات المتحدة، قائلا: “ربما رأيتم مثال واشنطن وكيفية إراقة الدماء”، مقارنا بشكل غير مباشر أحداث الشغب في الكونغرس في السادس من كانون الثاني/يناير “باللصوص” في البرلمان التونسي الذين “عبثوا” بالمؤسسات والحقوق التونسية. وكانت المفارقات أكثر من واضحة: صحفي من بلد تتعرض فيه الديمقراطية لضغوط كبيرة ليبلغ عن تهديد لديمقراطية دولة أخرى، فقط ليذكره الرجل نفسه الذي قد يهددها بالفجوة بين المثل الأمريكية والواقع الأمريكي. ومساء الجمعة، ظهر فيديو الاجتماع على صفحة السيد سعيّد على الفيسبوك. لم يذكر اعتقالنا ولم يظهرنا ونحن نحاول طرح الأسئلة. كنا مجرد دعائم. بالإضافة إلى ذلك، استعنت بأحد الزملاء في ترجمة بعض التعليقات. لقد كان جميعهم تقريبا موافقين حتى أن أحدهم أفاد قائلا: “علّمهم معنى الحرية”.
المصدر: نيويورك تايمز