عاد ملف اللاجئين في تركيا إلى مسرح الأحداث السياسية والاجتماعية مجددًا، وذلك تزامنًا مع انتشار العديد من الصور والفيديوهات على المواقع الصحفية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي توثّق عبور المئات من اللاجئين الأفغان للحدود التركية بطريقة غير قانونية يوميًّا.
فبعد الفراغ الأمني وجوّ عدم الاستقرار الذي تركته قوات حلف الناتو، مع بدء عملية انسحابها من أفغانستان بعد 20 عامًا على تواجدها هناك، وعودة حركة طالبان لتسيطرَ البلاد، نزحَ الأفغان باتجاه الدول المحيطة، باكستان وإيران، وعدد كبير سلكَ طريقه نحو تركيا.
وفي الآونة الأخيرة، فجّر التزايد الكبير في أعداد الأفغان الذي يعبرون الحدود التركية الإيرانية كل يوم بطريقة غير قانونية، جدلًا اجتماعيًّا واسعًا بين أطياف الشعب التركي، وسياسيًّا حادًّا بين حزب العدالة والتنمية الحاكم وأحزاب المعارضة، فضلًا عن إطلاق البعض لتحذيرات من خطورة وتبعات الظاهرة، مشبّهين إياها بأزمة اللاجئين السوريين التي حصلت مدار الـ 10 سنوات الماضية.
وفي هذا الصدد، اتّهمت الأحزاب السياسية وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة التركية، حكومة العدالة والتنمية بالتقاعُس عن حماية حدود البلاد، وعدم قيامها بإجراءات حقيقية لوضع حدٍّ للهجرة غير القانونية عبر الحدود مع إيران.
كما ندّدَ سياسيون وصحفيون بطريقة تعامُل إيران مع الأزمة، وسط تشكيك بوجود أي مساعٍ حقيقية للحدّ من وصول اللاجئين إلى الحدود التركية، حتى وصل الأمر إلى درجة توجيه البعض منهم اتهامات مباشرة، تفيد بأن السلطات الإيرانية تقوم بتشجيع وتسهيل حركة اللاجئين عبر أراضيها، ومساعدتهم للوصول إلى الحدود التركية.
الطريق إلى تركيا
عقب تصاعُد أعمال العنف بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان، وسيطرة الأخيرة على معظم أراضي البلاد قبل أن تسيطر يوم أمس فعليًا على الدولة بوصولها إلى قصر الرئاسة في كابل، بدأت موجات هجرة كبيرة داخليًّا وخارجيًّا، فبحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، فإن ما يقارب 270 ألف أفغاني نزحوا داخل البلاد منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، ليصل إجمالي عدد النازحين إلى أكثر من 3.5 مليون.
فبينما نزح عدد كبير منهم إلى الدول المحيط، وعلى رأسها إيران وباكستان، حلَّت تركيا كمحطة ثانية سواءً للأفغان القادمين باتجاه تركيا بشكل مباشر، أو للاجئين الأفغان الذي استقروا بإيران لفترة من الزمن وقرروا الهجرة لتركيا بفعل المضايقات والإجراءات التحفيزية التي تتّبعها السلطات الإيرانية، من خلال تشجيعهم ومساعدتهم للوصول إلى الحدود التركية.
لكثرة الصعاب وقسوة الطريق، لا ينجح سوى قلة قليلة بالوصول إلى وجهاتهم في تركيا.
ورغم التقارير الإخبارية التي تفيد بعبور ما معدّله ألف أفغاني بشكل غير قانوني الحدود الإيرانية بتجاه تركيا يوميًّا، إلّا إن الرحلة إلى تركيا ما هي إلا رحلة معاناة مليئة بالمخاطر والصعاب.
فخلال مسار الرحلة الطويل البالغ أكثر من 1200 ميل، والذي يستغرِق قطعه نحو شهر كامل سيرًا على الأقدام، يتعرض اللاجئون لأقصى الظروف الجوية والجغرافية، فضلًا عن الأمراض والحيوانات المفترِسة وقطّاع الطرق ورجال الأمن الذين يتربصون بهم على طول الطريق.
ولكثرة الصعاب وقسوة الطريق، لا ينجح سوى قلة قليلة بالوصول إلى وجهاتهم في تركيا. وفي هذا الصدد أجرت صحيفة “ديلي تلغراف” حوارًا صحفيًّا مع بعض اللاجئين الذي نجحوا بالوصول إلى تركيا، قالت فيه لاجئة أفغانية إن “من بين مجموعتها المكوَّنة من 200 شخص بدأوا الرحلة، نجح 50 منهم فقط في العبور، حيث أصيب العديد منهم بالمرض وتُركوا وراءهم أو اعتقلتهم شرطة الحدود”.
جدل سياسي واحتقان شعبي
اتهمت أحزاب المعارضة التركية الحكومة التركية برئاسة أردوغان، بالتقاعس والفشل بعدم اتخاذ الإجراءات الكافية لوقف عبور الأفغان للحدود الإيرانية التركية بطريقة غير قانونية.
كما لفتت إلى أن وزارة الداخلية تقف عاجزة أمام موجة الهجرة الأفغانية، وأنها لا تعلم الأعداد الحقيقية للاجئين على الأراضي التركية ولا هوياتهم، فضلًا عن أماكن تواجدهم وعمّا إذا كانوا إرهابين أم لا.
وأشار ساسة من المعارضة إلى أن غالبية الأفغان الذين يعبرون الحدود الإيرانية إلى تركيا، هم رجال تتراوح أعمارهم بين 16 و25 عامًا يأتون إلى تركيا لوحدهم دون عائلاتهم، وذلك دلالة على أن القادمين إلى تركيا لا يهربون من الحرب، وأن الأوضاع في أفغانستان آمنة لترك عائلاتهم وأطفالهم خلفهم، وأن الهدف هو إما العمل في تركيا والاستقرار وجلب العائلة لاحقًا، وإما الهجرة إلى أوروبا بعد اتخاذ تركيا محطة مرحلية للمكوث والعمل من أجل جمع المال اللازم للدفع للمهرّبين.
وإلى جانب السياسيين، شارك صحفيون ونشطاء بارزون على وسائل التواصل الاجتماعي، العديد من الفيديوهات التي تكشف عن عبور الأفغان للحدود التركية، سواء سيرًا على الأقدام أو من خلال شاحنات حملت أعدادًا كبيرة منهم في ظروف غير إنسانية.
وبينما علّقت الأغلبية منتقدة دور الحكومة في الحد من هذه الظاهرة وتأثيراتها على البنية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، وتحديدًا في ظل تصاعد الأزمة الاقتصادية وتزايد معدلات البطالة، غرّد البقية عن الظروف الصعبة التي يعاني منها اللاجئون للقدوم إلى تركيا، فضلًا عن الظروف غير الإنسانية التي يعملون بها في تركيا، حيث يعملون لساعات طويلة دون الحد الأدنى للأجور، محرومين من أبسط الحقوق الصحية والخدماتية.
وفي السياق ذاته، ندّد قادة المعارضة بتصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وبعض رؤساء دول الاتحاد الأوروبي، التي جاء فيها أن على تركيا الحفاظ على اللاجئين الأفغان داخل أراضيها، ومنع هجرتهم تجاه دول الاتحاد، مقابل زيادة ميزانية مكافحة الهجرة غير الشرعية المخصَّصة لتركيا.
وطالبت المعارضة التركية من الدول الغربية تحمُّل تبعات أفعالهم بأفغانستان ودول الشرق الأوسط، ورفضت أن تكون تركيا سجنًا للاجئين، ولذلك طالبت أردوغان باتخاذ مواقف حازمة بهذا الشأن، وعدم المتاجرة باللاجئين مقابل حفنة من اليوروهات على حساب أمن تركيا وسلمها الاجتماعي.
قامت الحكومة التركية بالعديد من الإجراءات لتعزيز أمن حدودها، مستغلة جزءًا من الميزانية التي خصّصها الاتحاد الأوروبي لمساعدة أنقرة في مكافحة الهجرة غير الشرعية.
حاولت الحكومة التركية من جانبها التخفيف من حدة الاحتقان الشعبي وانتقادات أحزاب المعارضة، ومن أبرز تلك المحاولات ما كتبه وزير الداخلية التركي سليمان صويلو عبر تويتر: “تركيا تدير ملف الهجرة رغم كل ما يحدث في الجغرافيا المحيطة، وتقوم بما يليق بأمتنا الأصيلة وجيراننا ووجداننا.. لن نعطي فرصة للفتنة والعداء والفساد”.
فالحكومة التركية اليوم تجدُ نفسها أمام أمرَين أساسيَّين، الأول: يتمثل بإقناع الشارع التركي بأنها تحارب الظاهرة خوفًا من أن يؤثر ذلك سلبًا على شعبية الحزب في الانتخابات القادمة، والثاني: حفاظها على الالتزام بالقانون الدولي وحقوق الإنسان فيما يخص سياسات استقبال أو إعادة ترحيل اللاجئين إلى بلدانهم، التي قد تكون غير آمنة لهم.
تركيا تحاول الحد من الظاهرة
وعقب الاتهامات التي وُجِّهت للحكومة بعدم اتخاذها لإجراءات حقيقية من أجل صد موجة الهجرة على حدود البلاد مع إيران، أعلنت الحكومة التركية عن قيامها بإرسال تعزيزات على الحدود الإيرانية من أجل وقف الهجرة غير القانونية على الحدود، ومكافحة أعمال التهريب.
فقد زادت وزارة الداخلية من حدة الإجراءات الأمنية، من خلال نشرها لـ 35 فريقًا أمنيًّا إضافيًّا ونحو 750 عنصرًا من شرطة العمليات الخاصة في ولاية وان شرقي تركيا، فضلًا عن استخدام الطائرات المسيّرة في مهام مراقبة الحدود ونشر خفر السواحل في بحيرة وان.
ولأجل القضاء على ظاهرة عبور الحدود إلى تركيا بشكل غير قانوني، قامت الحكومة التركية بالعديد من الإجراءات لتعزيز أمن حدودها، مستغلة جزءًا من الميزانية التي خصّصها الاتحاد الأوروبي لمساعدة أنقرة في مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى دول الاتحاد عبر حدودها.
ومن أبرز تلك الإجراءات البدء ببناء جدار أمني وأبراج مراقبة بصرية وإلكترونية، وطريق للدوريات على طول الحدود الإيرانية والعراقية، ويُذكر أن أعمال بناء الجدار قد تسارعَت في الفترة الأخيرة، تزامنًا مع اكتمال أعمال البناء على طول 149 كيلومترًا من الحدود، والانتهاء من إقامة 90% من أبراج المراقبة البصرية وأجهزة الاستشعار الإلكترونية.
وإلى جانب الإجراءات والاحترازات الأمنية، تعلنُ وزارة الداخلية التركية باستمرار عن اعتقال الآلاف من اللاجئين غير الشرعيين أسبوعيًّا على الحدود الشرقية للبلاد، وحجزهم في مخيمات الترحيل بعد التأكُّد من حالتهم الصحية استعدادًا لإعادة ترحيلهم إلى بلدانهم، فضلاً عن اعتقال العشرات من أفراد العصابات العاملين في عمليات تهريب البشر عبر الحدود إلى تركيا.
ورغم محاولات الحكومة التركية لمكافحة هذه الظاهرة، إلا أن تركيا من أكثر البلدان تضرُّرًا من موجات الهجرة غير الشرعية، فبحسب الإحصاءات الرسمية يبلغ عدد اللاجئين على الأراضي التركية قرابة الـ 4 مليون لاجئ، معظمهم من سوريا وعددهم نحو 3.6 مليون لاجئ، فيما يتوزع بقيتهم على اللاجئين القادمين من أفغانستان وبنغلاديش وباكستان والعراق وبعض الدول العربية والأفريقية.
ويُذكَر أن الإحصاءات غير الرسمية تفيد بوجود ضُعف هذه الأرقام على الأراضي التركية، أكثر من نصفهم غير مسجّلين لدى الدوائر الرسمية.