لم تكن عبارة تالا الشيخ، ابنة وزير الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية حسين الشيخ، “هذه البلد إلنا”، قبل بضع سنوات، حينما اصطدمت مع أحد البائعين في كشكه الصغير حول موقف السيارات، بمعزل عن عقلية السلطة الفلسطينية كمؤسسة وليدة صنعتها أوسلو عام 1993، ومنحت قياداتها امتيازات اقتصادية ومعيشية، وتصاريح إسرائيلية للدخول إلى الأراضي المحتلة عام 1948، بينما يكابد الفلسطينيون من أبناء العامة أشد أنواع الفحص والتدقيق في سبيل استصدار تصريح قد ينتهي بالرفض أحيانًا.
وفي الوقت الذي تشهد فيه الضفة الغربية المحتلة نِسَب بطالة متزايدة سنويًّا بين صفوف خريجي الجامعات الشباب، تُفتَح أبواب الوظائف على مصراعَيها أمام أبناء القيادات في السلطة الفلسطينية وكبار الشخصيات في حركة فتح، دون الرجوع إلى سند قانوني في ذلك، ويتولى بذلك الإدارات العامّة، ووكالات الوزارات، والمناصب حساسة في القضاء أقارب قيادات السلطة الفلسطينية، لوجود أحقية قانونية لتوظيفهم أو ترقيتهم.
انتقاءُ القانون “الأنسب”
يتيح قانون رقم (4) الخاص بالخدمة المدنية، والصادر عام 1998، للرئيس الفلسطيني محمود عباس تعيين كبار موظفي المؤسسات العامة والحكومية، وذلك وفق بند التعيينات الذي ينصّ على أنه يتم “تعيين الوكلاء والمديرين العامين من موظفي الفئة الأولى بقرار من رئيس السلطة الوطنية وبناءً على تنسيب من مجلس الوزراء”.
في حديثه لموقع “نون بوست”، يقول المستشار القانوني للائتلاف من أجل النزاهة والشفافية (أمان)، إن “السلطة تستند في تعييناتها على قانون الخدمة المدنية، وهذا طبعًا يخالف المادة (69) من القانون الأساسي، الذي يجعل صلاحية تعيين كبار الموظفين، ورؤساء المؤسسات العامة والوكلاء، بيد مجلس الوزراء وليس الرئيس”.
وبالعودة إلى ترتيب الهرم التشريعي في فلسطين المحتلة، يأتي قانون الخدمة المدنية في مرتبة أدنى من القانون الأساسي، إلا أن السلطة في الضفة تتجاهل هذه الحقيقة وتختار ما يناسبها.
في السياق، تتبّعَ تحقيقٌ أعدّته شبكة قدس الإخبارية، وشبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية) في شهر يونيو/ حزيران الماضي عددًا من التعيينات الحكومية والترقيات التي تمّت بالاستناد على قانون الخدمة المدنية، أو استثناءات منحَها الرئيس محمود عباس.
وينص كتاب الترقيات صراحة على أن الترقية تمّت باستثناء من رئيس السلطة، وهو ما يراه البرغوثي تجاوزًا للقانون وبصورة صارخة، موضّحًا: “القانون يضع شروط معينة للترقية، من أبرزها أن يكون هناك مدة زمنية قضاها الموظف في الوظيفة حتى يستحق الترقية للدرجة الأعلى، واستثناءات الرئيس مخالفة للقانون الأساسي وقانون الخدمة المدنية حتى”.
التعيينات على أساس القرابة: فساد ومحسوبية
“إذا ما جئنا لتعريف الواسطة والمحسوبية وفق ما جاء بقانون مكافحة الفساد رقم (1) لسنة 2005، تمثِّل هذه الإجراءات فسادًا وواسطة ومحسوبية ومحاباة، عندما يكون التعيين مخالِفًا للقانون وبصورة استثنائية، وعندما نرى التعيينات في هذه الوظائف العليا غالبًا ما يكون الانتماء السياسي أحد الاعتبارات الرئيسية التي تستند عليها الاستثناءات”، يقول المستشار القانوني.
يشكِّل التعيين على أساس القرابة انتهاكًا للمادة (25) في القانون الأساسي، فيما يتعلق بالحق في تقلُّد الوظائف على قاعدة تكافؤ الفرص، وانتهاكًا صارخًا للقانون الدستوري في المادتَين (9، 25)، وأيضًا لما نصَّ عليه قانون الخدمة المدنية.
وبحسب البرغوثي فإن هذه التعيينات تنتهك -من ضمن ما تنتهكه- الاتفاقات الدولية التي وقّعت عليها السلطة الفلسطينية عندما أصبحت دولةً في الأمم المتحدة، ومن ضمنها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وأيضًا ميثاق إعلان حقوق الإنسان العالمي، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد عام 2014 التي تؤكد على أن يكون هناك تكافؤ فرص في تقلُّد الوظائف.
ليس الوظائف فحسب!
ولا يقتصر انتفاع السلطة الفلسطينية من الوظائف فحسب، بل ينتفع كبار الشخصيات فيها من الأموال العامة، مع وجود رواتب بمبالغ ضخمة تُصرَف للمقرّبين من حركة فتح والسلطة الفلسطينية.
يتم ذلك في الوقت الذي عانى فيه الشارع الفلسطيني من ضيق اقتصادي مع تصاعد أزمة فيروس كورونا عام 2020، وما رافقها حينها من احتجاز “إسرائيل” لأموال الضرائب الفلسطينية “المقاصة” التي تغطّي السلطة رواتب موظفيها منها، فلجأت الحكومة إلى إعلان سياسات اقتصادية تمثلت في تأجيل جزء من راتب الموظفين عدة أشهر، بينما لم تُمسَّ رواتب قياداتها بأي اقتطاع أو تأجيل.
وفي سلسلة إجراءات مكافحة كورونا، أعلنت الحكومة الفلسطينية برئاسة محمد اشتية إجراءات للحدّ من انتشار الفيروس، منها إغلاق قاعات الأفراح ومنع التجمُّعات وحفلات الزفاف تحت طائلة المسؤولية والمحاسبة، إلا أن عدسات الهواتف ما لبثت أن وثّقت مقاطع من حفلات زفاف أحد أبناء المسؤولين، كما وثّقت التجمعات السياسية التي عقدتها حركة فتح للدعم والحشد والتأكيد على شرعية الرئيس.
لم يكشفْ عام 2020 عن وباء كورونا فحسب، بل كشفَ عن ضعف المنظومة الصحية في فلسطين المحتلة، فبينما اصطفَّ الفلسطيني في حشود أمام المستشفيات الحكومية على أمل تلقّي العلاج، مع وجود حالات نقص أسرّة وعبوات الأكسجين فيها، لم يكن أسهل على الرئيس محمود عباس من التحليق بطائرته نحو ألمانيا لتلقي العلاج في أرقى المستشفيات الأوروبية.
ومع الإعلان عن نجاح عدة لقاحات في العالم للوقاية من فيروس كورونا، بدأت الحكومات في أغلب الدول الديمقراطية بوضع سياسات التطعيم على أساس العمر والحالة الصحية، ولم يكن حقًّا لرئيس أو قيادي شاب أن يتطعّم قبيل مواطن بسيط هو في حاجة إلى اللقاح، إلا أنه في الضفة الغربية المحتلة نال القيادات وأبناؤهم لقاح فايزر قبيل الإعلان حتى عن وصول اللقاح للأراضي الفلسطينية.
تبع ذلك ما كشفه الإعلام الإسرائيلي في يونيو/ حزيران الماضي، حول شراء السلطة الفلسطينية لقاحات منتهية الصلاحية من “إسرائيل”، في فضيحة هزت الشارع الفلسطيني، وكانت أحد الأسباب في اغتيال الناشط المعارض نزار بنات في نهاية الشهر ذاته، بعدما قام بتسجيل مقطع مصوَّر انتقد فيه السلطة على هذه الصفقة.
في الأثناء، تتفرد هيئة خاصة لمكافحة الفساد في الأراضي الفلسطينية، التي من المفترض أن تُعنى بتتبّع الفساد المستشري في المؤسسات العامة والحكومية، بإعطاء جرعة لقاح فايز لموظفيها دون الاستناد على معايير عمرية أو صحّية.
عندما يستلم الأفراد الحكم لأكثر من 15 عامًا دون تداول للسلطات، يشرعون بالاعتقاد أن البلد ومنتفعاته أصبحت “مزرعتهم” الخاصة، التي يحق لهم وحدهم دون غيرهم الانتفاع منها وتوريثها لأبنائهم.
وفي الوقت ذاته يُشعرون المواطن بالمِنّة على ما يفترض أنه حقه الخالص في هذه الأرض، ويلاحقون المعارضين والمنتقدين، ويمنعون إجراء أي انتخابات تحت حجج يمكن تجاوزها، في سبيل البقاء أكبر وقت ممكن على مقتدرات “المزرعة”.