أنهى وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة الأحد الماضي، جولة أفريقية قادته لدول تونس وإثيوبيا والسودان ومصر، حيث كان ملف سد النهضة أهم محاور لقاءاته مع المسؤولين الأفارقة، خاصة من الدول الثلاث المعنية بهذه القضية.
أتى ذلك في أولى محاولات الجزائر لقيادة وساطة قد تنهي الخلاف الذي يزداد تأزُّمًا بين دول حوض النيل الثلاث، لكن هل ستكون المهمة سهلة أم أن تعقيد الملف وارتباطه بتدخلات أجنبية وإقليمية قد تجعل تحقيق الهدف المنشود صعبًا؟
وببروز هذه المهمة الجديدة للجزائر، يتبيّن أن تعيين الدبلوماسي المحنّك رمطان لعمامرة وزيرًا جديدًا للخارجية، كان بالأساس هدفه عودة الجزائر للعب دور في منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل، بالنظر إلى علاقاته وخبرته القارّية والأممية في حلِّ الأزمات.
وساطة
ما كان مجرد فكرة قد أصبح حقيقة، فالخارجية الجزائرية كانت قد أعلنت في بيانها الأول المتعلِّق بجولة رمطان لعمامرة الأفريقية، أن سدَّ النهضة سيكون أبرز المحاور التي سيركّز عليها وزير الخارجية في مهمته التي امتدت لقرابة الأسبوع، لكنها لم تشِرْ إلى قيادتها مبادرة وساطة بين الدول الثلاث.
واستطاع رمطان لعمامرة لدى حلوله بإثيوبيا التي كانت المحطة الأولى، أن يحصل على صكّ قيام الجزائر بهذه الوساطة بعد أن فشلت حتى الآن كل المبادرات، سواء الدولية أو العربية أو الأفريقية، في إنهاء أزمة سد النهضة.
وفي أديس أبابا، التقى لعمامرة نائب رئيس الوزراء الإثيوبي ديميكي ميكونين، ورئيسة إثيوبيا ساهيل وارك زودي، حيث دعا ميكونين الجزائر إلى لعب دور بنّاء في ما أسماه “تصحيح التصورات الخاطئة لجامعة الدول العربية بشأن سد النهضة”، مؤكّدًا “نية إثيوبيا الاستخدام العادل والمنصف لمياه النيل”.
محادثات مثمرة وغداء عمل ودي في جو حميمي وأخوي رفقة الصديق والأخ الفاضل أحمد أبو الغيط وفريقه. ملتزمون بالتنسيق الوثيق والتحضير المتميز للاستحقاقات المقبلة بغية تحقيق الآفاق الواعدة للعمل العربي المشترك من خلال دور جزائري ريادي. pic.twitter.com/RTQvGTKmyw
— Ramtane Lamamra | رمطان لعمامرة (@Lamamra_dz) August 1, 2021
وحسب المسؤول الإثيوبي، فإن بلاده ملتزمة بـ”استئناف المفاوضات الثلاثية بشأن سد النهضة برعاية الاتحاد الأفريقي”.
وبعد الطلب الإثيوبي الذي كان منتظرًا، بما أن أديس أبابا الطرف المتَّهم في خلاف سد النهضة، نقلَ لعمامرة مبادرته للسودان التي تجمعها علاقات وطيدة مع الجزائر، وكانت في أعلى مستوياتها خلال حكم الرئيس السابق عمر البشير.
واستثمر لعمامرة في العلاقات المتقدمة للجزائر مع المسؤولين في الخرطوم، حيث حصل على دعم منها للمضي في تنفيذ مبادرة الوساطة، كما أجرى رئيس الدبلوماسية الجزائرية مباحثات مع رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، ومع وزيرة الخارجية مريم الصادق المهدى.
وأصدر مجلس السيادة الانتقالي بيانًا قال فيه إن “القيادة في السودان رحّبت بالمبادرة الجزائرية الداعية إلى عقد لقاء مباشر بين الدول الثلاث للتوصُّل إلى حلٍّ لخلافاتها حول سد النهضة”.
وأكدت السودان أن المبادرة الجزائرية تستندُ على خلفية قانونية، فهي تأتى متوافقة مع المادة (10) من إعلان المبادئ الموقَّع بين الدول المعنية في الخرطوم.
ولم تعلن الجزائر رسميًّا عن تقديمها مبادرة للوساطة بشأن حلّ الخلاف بين الدول الثلاث، كما لم تكشِفْ حتى اليوم عن تفاصيل هذه المبادرة التي قُدِّمت للبلدان المعنية خلال جولة لعمامرة.
غير أن تصريحات وزير الخارجية في مصر، أكدت أن الجزائر ماضية في تقديم مبادرة للدول الثلاث، فقد قالَ لعمامرة خلال ندوة صحفية بالقاهرة مع نظيره سامح شكري، إن علاقات أطراف السد مصر وإثيوبيا والسودان “تمرُّ بمرحلة دقيقة”، مبيّنًا أنه “من الأهمية الوصول لحلول مرضية لكل طرف، ما له من حقوق، وما يجب أن يتخذ من واجبات”.
وأكد أن الجزائر “مهتمة بقضية السد، وحريصة ألا تعرّض العلاقات العربية والأفريقية لمخاطر نحن في غنى عنها”، مشيرًا إلى أنه استمع من أطراف السد إلى “معلومات وتطلُّعات”، وأن بلاده ترغب “في توفير الشروط والمناخ لأن تكون جزءًا من الحل في الملفات الوجودية التي تهمّ الأشقاء”.
ويُفهَم من تصريح لعمامرة أن جولته الأولى كانت استطلاعية، تضمّنت تقديم مقترح لعودة الدول الثلاث إلى طاولة الحوار لتوفير الظروف المناسبة، لتقديم ورقة طريق جزائرية من شأنها إنهاء حالة الخلاف بين إثيوبيا ودولتَي المصبّ، ما يعني أن الجزائر لا تريد دخول وساطة لا تتوفر فيها مقومات نجاحها.
نقاط قوة
قد يتساءل البعض: ما دخل الجزائر المثقلة بالهموم الداخلية والرهانات على حدودها من كل الجوانب في أزمة بعيدة عن أراضيها، وهي المعروفة بعدم تدخُّلها في الشؤون الداخلية للدول، وتفضيلها النأي بنفسها عن كل الخلافات البينية؟ إلّا إنه بالعودة إلى التاريخ القريب، يتبيّن أنها تملك تجربةً هامة في حل النزاعات الإقليمية، خاصة بالمنطقة الأفريقية.
تربط الجزائر علاقات قوية مع كل الدول الثلاث، سواء إثيوبيا أو السودان أو مصر التي تظل علاقات هذين البلدَين التاريخية لا تحتاج إلى تذكير، إضافة إلى التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما، فالجزائر تحتضن استثمارات مصرية لا بأس بها، إضافة إلى وجود عمالة مصرية قد تكون الأولى بين العرب في الجزائر.
ويتمثّل العامل الثاني في نجاح الجزائر سابقًا في مفاوضات كانت طرفها إثيوبيا، فقد استطاعت الوساطة الجزائرية في ديسمبر/ كانون الأول 2000 أن تجمع إثيوبيا وإريتريا على طاولة المفاوضات للتوقيع على اتفاقية الجزائر، التي وضعت حدًّا للحرب التي اندلعت بين الجانبَين عام 1998 بسبب الخلاف المتعلّقة خصوصًا بالحدود المشتركة بينهما.
لا تبدو المهمة الجزائرية بالسهلة، بالنظر إلى تمسُّك كل طرف بموقفه، فإثيوبيا مصمِّمة على عملية الملء الثاني لسد النهضة.
ومن الشروط التي قد تجعل الوساطة الجزائرية تكلَّل بالنجاح، هو أن المهمة يقودها دبلوماسي بحجم رمطان لعمامرة الذي عمل سابقًا سفيرًا بأديس أبابا، أي أن له علاقات مع مختلف المسؤولين الإثيوبيين.
وقال السيناتور الجزائري فؤاد سبوتة لوكالة أنباء “الأناضول”، إن لعمامرة ساهم في عودة السلم إلى أكثر من 40 منطقة في العالم خاصة في أفريقيا، ولعلّ أبرزها ليبيريا ومدغشقر ومالي.
ويعدّ لعمامرة اسمًا بارزًا في أروقة الاتحاد الأفريقي ومنظمة الأمم المتحدة، فقد سبق له أن شغلَ منصب الممثل السامي للاتحاد الأفريقي من أجل إسكات البنادق في أفريقيا، وهو عضو حتى الآن بالمجلس الاستشاري رفيع المستوى للأمين العام للأمم المتحدة المعني بالوساطة.
كما أنه اسم يُعتَدّ به في مراكز الدراسات ذات المرجعية العالمية، مثل مجموعة الأزمات الدولية، ومعهد ستوكهولم للسلام، وهي كلها مؤهِّلات تجعل تحرُّكه لإنجاح المبادرة الجزائرية بشأن أزمة سد النهضة ممكنًا بالنظر إلى علاقاته الأممية والأفريقية.
عقبات
لا تبدو المهمة الجزائرية بالسهلة، بالنظر إلى تمسُّك كل طرف بموقفه، فإثيوبيا مصمِّمة على عملية الملء الثانية لسد النهضة، في حين تتمسك دولتا المصبّ بعدم التنازل عن حقوقها التاريخية، وتريدان اتفاقًا ملزمًا لجميع الأطراف.
ترى أديس أبابا ذلك على أنه لا يتناسب مع ظروف الوقت الحالي، كون تلك الحقوق تعود بحسبها للعهد الاستعماري، ولا تتناسب مع ارتفاع عدد سكّان البلدان الثلاثة، ففي كلٍّ من مصر وإثيوبيا تعدّى الرقم 100 مليون نسمة، ويزيد عن 40 مليون نسمة في السودان، وهي أرقام بعيدة بكثير عمّا كانت قبل أكثر من 50 سنة.
وتعمل الجزائر على أن تشكِّل المادة 10 من اتفاق المبادئ الموقّع عام 2015 منطلقًا للتفاوض بين الدول الثلاث، ولوساطتها، كونها تفتح المجال للوساطة الدولية بموافقة الدول المعنية، ولذلك ستكون المبادرة الجزائرية بديلًا أو شبه ممثِّل للاتحاد الأفريقي الذي فشلت رئاسته الدورية ممثلةً بالكونغو الديمقراطية في إنهاء هذه الأزمة، ولقيت انتقادًا خاصة من طرف دولتَي مصبّ نهر النيل.
لكن فتح هذا الباب يتطلّب العمل على تليين مواقف كل طرف، فعلى سبيل المثال ظهرَ أن مصر لا ترغب في ذلك من خلال بيان الرئاسة المصرية الصادر عقب لقاء رمطان لعمامرة بعبد الفتاح السيسي.
ويظهر ذلك من خلال بيان الرئاسة المصرية، فقد جاءت الفقرة المتعلقة بسد النهضة في آخر البيان رغم أهميتها للقاهرة اقتصاديًّا ولأمنها القومي، ولم يحمل البيان أي إشارة للوساطة الجزائرية سواء بالسلب والإيجاب.
الأكيد أن تعقيدات ملف سد النهضة سيجعل الجزائر ترمي بكل ثقلها الدبلوماسي والسياسي، وسيكون نجاحه ضمن أولويات الرئيس تبون في المرحلة القادمة.
وتضمّن بيان الرئاسة المصرية الفقرة التالية: “كما تم استعراض آخر تطورات ملف سد النهضة، حيث أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي موقف مصر الثابت بالتمسُّك بحقوقها التاريخية من مياه النيل وبالحفاظ على الأمن المائي لمصر، مع التشديد في هذا الإطار على أهمية قيام كافة الأطراف المعنية بالانخراط في عملية التفاوض بجدّية وبإرادة سياسية حقيقية للوصول لاتفاق شامل وملزم قانونًا حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة”.
وبالنسبة إلى القاهرة، فإنها من جهة تجدُ نفسها محرَجة في رفض المبادرة الجزائرية بالنظر إلى العلاقات التي تربط البلدَين، وكذا بالنظر إلى حاجتها لإنهاء هذا الملف الذي توجّهَ بشأنه انتقادات لعبد الفتاح السيسي، لكنها في الوقت ذاته لا تحبّذ كثيرًا أن تكون الوساطة من الجزائر التي توجد معها خلافات بشأن الأزمة الليبية وإصلاح الجامعة العربية، إضافة إلى التنافس بين البلدَين حول من هو الأحقّ بالزعامة العربية في الاتحاد الأفريقي.
رغم هذا، أكدت مصادر مصرية لصحيفة “العربي الجديد” أن السودان ومصر وافقا مبدئيًّا على المقترح الجزائري، “باعتبارهما يقبلان أي جهد إقليمي أو دولي لحل الأزمة، وتعهّدا بإبداء المرونة تجاه الأفكار المختلفة التي قد تساهم في التوصل إلى اتفاق”.
وبدورها، لا تفوِّت إثيوبيا في كل مرة الفرصة لإبقاء الوضع على حاله، بما أنها المستفيد الأول من ذلك لحدّ الآن، فقد قال السفير الإثيوبي في السودان يبلتال أميرو إن بلاده لن توقّع على أي اتفاقية تقييدية تهدِّد استخدامها المستقبلي لمياه النيل، وتبقي “حصص المياه الحالية غير العادلة”، وذلك رغم موافقتها المبدئية على مبادرة الجزائر، ولأول مرة لوساطة خارج الاتحاد الأفريقي.
والأكيد أن تعقيدات ملف سد النهضة سيجعل الجزائر ترمي بكل ثقلها الدبلوماسي والسياسي، وسيكون نجاحه ضمن أولويات الرئيس تبون في المرحلة القادمة لتحقيق مكاسب خارجية تثري ولايته الرئاسية الحالية، خاصة في ظل صعوبة الوضع الداخلي، وهو الثقل الذي ستعتمد فيه على تجربة رمطان لعمامرة الأفريقية والأممية، الذي سيكون هو الآخر في اختبار حقيقي ستُظهِر الأيام المقبلة مدى نجاحه فيه من عدمه.