لا يزال غزو العراق للكويت أحد الألغاز التي لم يتم حلّها بصورة كاملة حتى الآن.
فمع كل الأحداث والمُلابسات التي رافقت الحدث، لا يمكن القطع بالسبب الحقيقي الكامن وراء هذا القرار الكارثي، الذي تغيّرت معه المنطقة كلها وليس العراق فقط، بل ليس من المبالغة القول إن الصيغة التي انتهت بها تلك الحرب، كانت إحدى علامات نهاية الحرب الباردة بين القوتَين العظميَين.
لقد كان يمكن أن يُقال إن الاستفزازات الكويتية وخفض أسعار النفط، هي ما دفعت صدام لاتخاذ القرار، باعتبار أنها أدخلت العراق أزمة خانقة بالفعل، خاصة أنه قد خرج للتوّ من حربٍ طاحنة استمرّت لـ 8 أعوام مع إيران، وهو قول يمكن أن يكون تبريرًا كافيًا لولا حقيقة أن العراق دخل حصارًا طاحنًا بعد ذلك، استطاع النجاة منه حتى من دون النفط أو الموارد الأخرى التي كانت متوفِّرة قبل الغزو.
وكان يمكن أن يُقال إنها الإساءات الكويتية للنساء العراقيات في البصرة، وفي هذا مغالطة كبيرة في السياسة، فلا يمكن فهم احتلال دولة بأكملها، لمجرد تصريح من مسؤول في تلك الدولة.
وكان يمكن أن يُقال إن العراق تعرّض للخداع على يد السفيرة الأميركية أبريل غلاسبي، التي حرّضت صدام على غزو الكويت بقولها إنه ليس لديها ما تقوله بخصوص الخلاف الحدودي بين العراق والكويت، وهذا يُمكن أن يكون أيضًا مبرِّرًا للحرب، لولا أن صدام وما عُرف عن شخصيته وفطنته وشكّه، يمنع من تصديق أن يكون الأمر سببًا الغزو.
هل صدّق بالفعل أن الغرب سيسمح له ببساطة أن يسيطرَ على 15% من احتياطي النفط العالمي؟
لكن، ماذا لو أنه كان يعرف كل ذلك؟ ماذا لو أنه كان يريد التخلُّص من الجيش بالفعل، بزجّه في حرب غير متكافئة، هل هي نظرية مبالغ فيها؟ قد تكون كذلك.. لولا أن هناك كثيرًا ممّا يدعمها من الحقائق!
الخوف من الجيش
لنثبت أولًا بعض الحقائق اللازمة لفهم الوضع آنذاك:
1. خرجَ العراق من الحرب مع إيران وهو يمتلك رابع أكبر جيش في العالم، بـ 55 فرقة (أكثر من مليون جندي)، كما إنه كان مجهّزًا بأحدث الأسلحة والمعدّات التي حصل عليها من الغرب خلال فترة الحرب.
كما كان الجيش يضمّ قادةً على مستوى عالٍ من الكفاءة، مع خبرة ميدانية لا تقدَّر بثمن، ومثل هذه الجيوش تشكّل خطرًا على قادة الأنظمة الشمولية، وكان العراق أحدها بالطبع.
بعد انتهاء الحرب، لم يتم تسريح الجيش رغم الضغوطات الأميركية والإشارات الواضحة بربط تسريح الجيش العراقي مع قانون الحاصلات الزراعية الأميركي.
2. إن صدام بالأخص كان شكاكًا ميّالًا للتصرُّف على الشك والتخلص من الخطر قبل حصوله وليس بعد ذلك. تخلّصَ صدام خلال السبعينيات من كثير من الخصوم بهذه الطريقة حين كان نائبًا، ثم تخلّص من كثير من الرفاق حين أصبح رئيسًا! كل ذلك كي لا ينافسه أحد -أو يمكن أن ينافسه أحد- مستقبلًا.
3. كان الجيش العراقي، ومنذ انقلاب عام 1958 الذي قامت الجمهورية به، هو مصدر التغيير السياسي إلى حين تولّي صدام حسين السلطة. قد لا يكون من المبالغة القول إن صدام دخل الحرب مع إيران لإشغال الجيش نفسه، وعدم فسح المجال لقادته لأي عمل سياسي.
4. حتى خلال فترة الحرب مع إيران، كان صدام فعليًّا هو الذي يتولى قيادة الجيش في المعارك. لم يترك هذا الأمر إلا بدءًا من العام 1986 حين سقطت الفاو، وعبرَ الإيرانيون بعدها بُحيرة السمك التي أقامها العراق كحاجز دفاعي أمام البصرة. حينها فقط تولّى القادة العسكريون الحرب فعليًّا، بتولي الفريق الركن نزار الخزرجي رئاسة أركان الجيش.
صدام إذًا، كان يخشى الجيش ويحسب له حسابًا كبيرًا، وفي الوقت نفسه كان بحاجة كبيرة إليه خلال المواجهة مع إيران. ولأسباب كانت تتعلق بالحرب نفسها، كان يجب أن يكون الجيش احترافيًّا وليس مؤدلجًا حزبيًّا، وهو ما يعني أنه ليس بعثيًّا بالكامل، وإن كان البعث متغلغلًا في كل فوج فيه.
تظهر أول آثار خوف صدام من الجيش، في اجتماع عُقد في العام 1982، حيث يقول وزير الدولة للشؤون الخارجية الأسبق حامد الجبوري، إنه حضر اجتماعًا رفقة وزير الدفاع ومدير المخابرات برئاسة صدام حسين، لبحث كيفية التعامُل مع الجيش العراقي بعد انتهاء الحرب.
يقول: “كانت المشكلة مركّبة بالفعل، فإما أن العراق سيبقى على هذا الجيش بكل ما يعنيه من ثقل اقتصادي، أو يقوم بتسريحه، وهو ما يعني ترك نصف مليون أو أكثر من الجنود بلا عمل، باعتبار أن العمالة المصرية كانت تغطي أغلب القطاعات التي كان الشباب العراقي غائبًا عنها بفعل تواجده في الجبهات، حيث كان هناك 3 مليون عامل مصري في العراق”.
بعد انتهاء الحرب، لم يتم تسريح الجيش رغم الضغوطات الأميركية والإشارات الواضحة بربط تسريح الجيش العراقي مع قانون الحاصلات الزراعية الأميركي، الذي كان يحصل فيه العراق على حاصلات زراعية بالعملة العراقية، كجزء من السياسة الأميركية المساندة للعراق خلال الحرب.
خلال هذه الفترة، وقعت أولى الحوادث التي تؤكد شكوك صدام في الجيش، ففي 5 مايو/ أيار 1989 سقطت طائرة وزير الدفاع عدنان خير الله في حادث مريب، حيث تقول كثير من التحليلات إنه يعود لرغبة الرئيس صدام بالتخلُّص منه، لشعبيته الكبيرة ليس في أوساط الجيش وإنما في أوساط الشعب أيضًا.
لم يكن الأمر مقتصرًا على عدنان خير الله فحسب، حيث كان هناك الكثير من الضباط الكبار الذين تمَّ التخلص منهم منذ انتهاء الحرب العراقية الإيرانية وصولًا إلى العام 1991، من بينهم على سبيل المثال لا الحصر اللواء الركن قوات خاصة بارق الحاج حنطة، وهو أحد أبرز القادة العسكريين العراقيين.
ثم جاءت عملية غزو الكويت.
غزو الكويت: إرسال الجيش إلى المحرقة
كانت النقطة التي تثير الشكوك خلال الغزو، حجم ونوع القوات العراقية المشاركة فيه بعيدًا عن خطوط إمدادها.
قد يُفهم أن العدد الكبير من القوات المشاركة في النسق الأول للهجوم (100 ألف جندي بـ 7 فرق، 3 منها مدرّعة)، جاء لمنع الكويتيين من التصدّي للغزو، وبالتالي تقليل الخسائر في الطرفَين، لكن ما لا يمكن فهمه بعد ذلك زيادة عدد القوات المتمركزة في الكويت، رغم استتباب الوضع هناك، حيث وضع العراق معظم قواته (قرابة نصف مليون جندي) دون حاجة فعلية لذلك.
الأنظمة الشمولية كالتي يحكمها صدام حسين والقذافي، تسير في كل سياساتها وأدق تفاصيلها بناءً على أوامر شخص واحد لا يفكر إلا بالبقاء في السلطة.
يقول الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان القوات المصرية الأسبق، في كتابه “الحرب الصليبية الثامنة: تدمير أقوى جيش بناه المسلمون عبر التاريخ”: “لقد نشر العراق الجزء الأكبر من قدراته القتالية داخل الكويت وجنوب نهر الفرات (78% من الدبابات، 84% من المدافع)، ونشرُ القوات بهذه الصورة لا يتناسب مع طبيعة العدو وطبيعة الأرض”.
ويكمل: “فبالإضافة إلى الأعباء الإدارية الضخمة لتلبية وإمداد نصف مليون جندي تحت تفوق جوّي معادٍ، فإن هذا التوزيع وفق طبيعة الأرض يشجِّع على تطويق هذه القوات، وكان من الأفضل للعراق أن لا يخصّص أكثر من 20% من قواته، حيث كنت قد توقعت في وقت سابق أن لا ينشر العراق أكثر من 1000 دبابة -لا تشكل إلا 18% من مجموع الدبابات العاملة-“.
لقد كان نشر هذا الكمّ الكبير من القوات مفاجئًا للأميركيين أيضًا، حيث يقول وزير الدفاع الأميركي في تلك الفترة، كولن باول، في مذكراته: “حين رأيت الخرائط وصور الأقمار الصناعية عن القوات التي عبرت الحدود، تفاجأت بعددها الكبير، فقد كان بإمكان العراقيين احتلال الكويت بقوات صغيرة من الشرطة”.
لكن ما سرّ زجّ معظم الجيش في معركة لم تكن نتيجتها لتخفى على مثل صدام؟ لقد كانت وسيلة مناسِبة للتخلُّص من هذه الجيش الكبير، وكسر شوكة قادته بزجّهم في معركة لا يمكنهم الفوز فيها، وحتى لو لم تكن المعركة لتحصل، سيكون الجيش مشغولًا بشكل كبير في الأزمة.
قد يكون هذا التفسير متطرّفًا نوعًا ما، لكنه لن يكون غريبًا بالنسبة إلى رجل مهووس بالسلطة، يواجه تهديدًا حقيقيًّا من مصدر أصيل لتغيير الحكم، وكان الجيش علاوة على شعبيته الفطرية عند المواطنين، قد تمتّع بشعبية إضافية بعد انتصاره بالحرب، خاصة مع تملمُل كبير من شرائح المجتمع من سياسات الرئيس صدام.
إن سياسة التخلُّص من خطر الجيش بهذه الطريقة، لم تكن وليدة اللحظة ولم يسبق بها صدام بالتأكيد، فقد فعلَها القذافي من قبل في معركة وادي الدوم في تشاد، حين أصرَّ بأوامر مباشرة منه على دفع القوة العسكرية الليبية الموجودة في قاعدة وادي الدوم (نخبة الجيش الليبي)، إلى الهجوم على منطقة فادا شرقي تشاد، عن طريق منطقة وادي كوران غربي تشاد.
أدى ذلك إلى تكبُّد القوة العسكرية خسائر كبيرة وسقوط ما تبقّى منها في الأَسر، فيحصل على ما يريد من كسر الجيش، ثم التخلُّص من قادة عسكريين كبار إما برميهم في المحرقة وإما اعتقالهم بتهمة التقصير في أداء الخدمة العسكرية، وهو التفسير الذي يذهب إليه مجموعة من القادة العسكريين الليبيين الذين كانوا متواجدين في قاعدة وادي الدوم الحصينة.
إن الأنظمة الشمولية كالتي يحكمها صدام حسين والقذافي، تسيرُ في كل سياساتها وأدق تفاصيلها بناءً على أوامر شخص واحد لا يفكر إلا بالبقاء في السلطة، وليس مستغرَبًا أن يزجَّ صدام جيشه في حرب لأجل تحجيمه، بحيث لا يشكِّل أي خطر عليه وعلى كرسيه.
مهما يكن من أمر، تظلُّ هذه الحرب كارثة كبيرة غيّرت وجه العراق والمنطقة، ولا يزال الشرق الأوسط حتى الآن يدفع ثمن هذه المغامرة غير المحسوبة.. أو المحسوبة وفق ميزان صدام حسين ربما!