تمثل الأزمة التي تحياها تونس منذ ليل الـ25 من يوليو/تموز الماضي في أعقاب القرارات التي أعلنها الرئيس قيس سعيد أول اختبار حقيقي تواجهه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن فيما يتعلق بالزود عن الديمقراطية ومناهضة أي مساعي للنيل منها، وهي المبادئ التي تعهد بالحفاظ عليها خلال حملته الرئاسية في الانتخابات التي فاز بها نهاية العام الماضي.
وبينما وجدت قرارت سعيد، التي تباينت قراءتها بين انقلاب على الدستور وتصحيح المسار الثوري، صداها لدى الشارع الأمريكي، إعلامًا ومراكز أبحاث، كان الموقف الرسمي أكثر حذرًا، فقد اكتفت الإدارة ببيانات دبلوماسية لا تعكس توجهًا محددًا، ممسكة العصا من المنتصف لا تميل إلى أي من أطراف الأزمة.
أثار هذا الموقف البارد نسبيًا، مقارنة بنظيره في بلدان أخرى كمصر وتركيا، الكثير من التساؤلات عن محددات إدارة بايدن في تعاطيها مع هذه الأزمة، لا سيما في ظل النفوذ الكبير الذي تتمتع به الولايات المتحدة في الداخل التونسي الذي يسمح لها باتخاذ موقف أكثر وضوحًا وصرامةً بعيدًا عن الدبلوماسية الباهتة.
الموقف الرسمي.. تعامل حذر
البداية كانت ببيان للمتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكي، نيد برايس، نشره موقع سفارة الولايات المتحدة في تونس، بتاريخ 26 من يوليو/تموز، أي بعد ساعات قليلة من القرارات المثيرة للجدل، وأشار البيان إلى أن واشنطن تراقب عن كثب التطورات في تونس، وأن هناك تواصلًا مع المسؤولين في الحكومة التونسية “للتأكيد أن حلول المشاكل السياسية والاقتصادية في تونس يجب أن تستند إلى الدستور التونسي ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية”.
وأضاف البيان “كنا واضحين في حث جميع الأطراف على تجنب اتخاذ أي إجراءات من شأنها أن تخنق الخطاب الديمقراطي أو تؤدي إلى العنف. نحن منزعجون بشكل خاص من التقارير التي تفيد بإغلاق مكاتب وسائل الإعلام ونحث على الاحترام الدقيق لحرية التعبير وغيرها من الحقوق المدنية”، مختتمًا بحث تونس “ألا تضيّع مكاسبها الديمقراطية، وستواصل الولايات المتحدة الوقوف إلى جانب الديمقراطية التونسية”.
البيت الأبيض وعلى لسان المتحدثة باسمه، جين ساكي، أعرب هو الآخر عن قلق الإدارة الأمريكية بشأن ما يحدث في الشارع التونسي، مضيفًة “كل من البيت الأبيض ووزارة الخارجية على اتصال مع القادة التونسيين لمعرفة المزيد عن تطور الوضع”.
وفي اتصال هاتفي استغرق قرابة الساعة، أجراه مستشار بايدن للأمن القومي، جيك سوليفان، مع الرئيس سعيد، شدد على “دعم الإدارة الأمريكية للديمقراطية التونسية القائمة على الحقوق الأساسية والمؤسسات القوية والالتزام بسيادة القانون والحاجة الضرورية كي يرسم قادة البلاد الخطوط العريضة لعودة سريعة إلى المسار الديمقراطي”.
وفي نفس اليوم، أجرى وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، اتصالًا هاتفيًا مع الرئيس التونسي، أكد من خلاله على الشراكة القوية بين البلدين، ودعم بلاده للشعب التونسي في مواجهة التحديات التي تواجهه المتمثلة في الأزمة الاقتصادية ووباء كورونا المستجد (كوفيد 19)، الاتصال تضمن كذلك حث سعيد على “التمسك بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تشكل أساس الحكم في تونس”.
الإعلام الأمريكي.. انخراط أكثر فاعلية
وعلى عكس الموقف الرسمي الباهت جاءت مواقف وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث أكثر وضوحًا وحسمًا، فتحت عنوان “الديمقراطية التونسية في أزمة بعد إطاحة الرئيس بالحكومة”، نشرت شبكة “سي إن إن” تقريرها في 27 من يوليو/تموز أشارت فيه إلى أن تونس تواجه أكبر أزمة ديمقراطية طيلة السنوات العشرة الماضية وذلك بعد إطاحته بالحكومة وتجميده لعمل المؤسسة التشريعية.
أما إذاعة “صوت أمريكا” وهي الإذاعة الرسمية للبلاد، فأشارات في تقرير لها في نفس اليوم إلى أن الديمقراطية التونسية بات ينظر إليها على أنها هشة بعد إقالة الرئيس للحكومة وتعليق عمل البرلمان، لافتة إلى أن قيس سعيد متهم – بالقرارات التي اتخذها – بانقلاب على دستور بلاده.
وتحت عنوان “الديمقراطية في تونس على وشك الانهيار مع تحرك الرئيس لتولي السيطرة” نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرها في 26 من يوليو/تموز الماضي، كشفت فيه أن التجربة الديمقراطية التونسية الوحيدة الباقية من ثورات الربيع العربي باتت على شفا الانهيار بعد سعي الرئيس للسيطرة على مفاصل السلطة والاستئثار بالرئاسيات الثلاثة في يده.
وخلص التقرير إلى أن “الانقسامات في تونس تعكس انقسامًا أوسع في الشرق الأوسط بين القوى الإقليمية التي دعمت الثورات العربية والجماعات الإسلامية السياسية التي وصلت إلى السلطة (تركيا وقطر)، وتلك التي واجهت الانتفاضات (السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر)”.
فيما ذهبت صحيفة “وول ستريت جورنال” إلى أن إحكام الرئيس التونسي قبضته على السلطة سيتسبب في تفاقم الأزمة السياسية في البلاد، مضيفة أن هذا البلد “غرق بشكل أعمق في كارثة سياسية يوم الإثنين، فقد شدد الرئيس قيس سعيد قبضته على السلطة، (..) في تحرك دراماتيكي وصفه المعارضون بأنه محاولة انقلاب”.
وعن ضرورة ما يجب على الإدارة الأمريكية فعله إزاء ما حدث، نشرت صحيفة “واشنطن بوست“، بعد يوم واحد فقط من قرارات الرئيس التونسي، تقريرًا تحت عنوان “يجب على بايدن أن يبذل قصارى جهده لوقف الانقلاب في تونس”، لفتت من خلاله إلى تحذير واشنطن من التورط في ممارسات تجهض التجربة الديمقراطية التونسية، منوهة أن الرئيس التونسي بقرارت الـ25 من يوليو/تموز يختبر التزام بايدن بوعده الذي قطعه للرئيس التونسي السابق الباجي قائد السبسي بشأن الأهمية التي توليها واشنطن من أجل ضمان نجاح الديمقراطية في تونس.
المراكز البحثية كانت هي الأخرى حاضرة بقوة في المشهد التونسي، دراسةً وتحليلًا، فقد أشار الباحث شاران جريوال في دراسة نشرها معهد “بروكنجز” تحت عنوان “انتزاع قيس سعيد للسلطة في تونس” إلى أن قرارات الرئيس التونسي تمثل اختبارًا صعبًا ورئيسيًا للديمقراطية في بلاده، لافتًا إلى أن رد فعل الشعب التونسي هو ما سيحدد ملامح المرحلة المقبلة.
وفي السياق ذاته حذرت منظمة “هيومان رايتس ووتش” في دراستها المعنونة بـ”تونس: استحواذ الرئيس على السلطات يهدد الحقوق” من مغبة قرارات الرئيس الأخيرة التي وصفتها بـ”الخطيرة”، مناشدة سعيد بعدم توظيف حالة الإحباط الشعبي لتمرير قرارات بعينها، وطالبته بحماية حقوق الإنسان لجميع التونسيين وإلغاء أي إجراءات قمعية.
الضغط على بايدن
الخطاب الإعلامي والبحثي الأمريكي الداعم للديمقراطية التونسية والمحذر من عودة عقارب الساعة التونسية للوراء مرة أخرى لما قبل 2011، فضلًا عن الأصوات السياسية لا سيما البرلمانية (أبرزهم السيناتور ليندسي جراهام والنائب جو ويلسون) المطالبة بضرورة اتخاذ موقف جاد تجاه التغول البين على المسار الديمقراطي في البلد العربي الذي يمثل أهمية إستراتيجية لمصالح الولايات المتحدة في الشمال الإفريقي، بات يمثل ضغطًا كبيرًا على إدارة بايدن للتخلي عن سياسة مسك العصا من المنتصف إزاء تلك التطورات.
يجد الرئيس الديمقراطي الأمريكي (الذي لم يهاتف نظيره التونسي رغم مرور أكثر من أسبوع على ما حدث) نفسه في موقف حرج سياسيًا أمام أنصار حزبه تحديدًا، فالرجل الذي تعهد أكثر من مرة بضمان الديمقراطيات والدفاع عنها، يقف مكتوف الأيدي حيال مساعي وأد واحدة من التجارب الشرق أوسطية التي أثارت إعجاب العالم كله.
التخوف من تداعيات انهيار التجربة الديمقراطية التونسية وتهديدها للاستقرار الإقليمي بما ينعكس سلبًا على المصالح الأمريكية في هذا البلد هو الباعث الأكبر لتلك الضغوط التي تطالب بايدن بالتدخل للحد من مساعي الرئيس التونسي إحكام السيطرة على الحكم دون ترك متنفس لأي تيارات أخرى.
أنصار هذا الاتجاه يعتبرون تخاذل الإدارة الأمريكية لا ينطوي على تهديد للأمن القومي لبلادهم والشراكات الاقتصادية في شمال إفريقيا فحسب، بل ربما يحمل بين ثناياه مساهمة بشكل أو بآخر في توفير بيئة مناسبة لعدم الاتزان، ما يمكن توظيفه من الكيانات والتنظيمات المتطرفة لاستعادة نشاطها مرة أخرى، الأمر الذي يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة برمتها.
مجلة “فورين بوليسي” تساءلت في تقرير لها تحت عنوان “تحتاج الديمقراطية في تونس إلى المساعدة، هل سيتدخل بايدن؟” لافتة إلى أن الدولة صاحبة محطة الانطلاق الأولى لقطار الربيع العربي باتت الاختبار الأكثر حساسية للإدارة الأمريكية الجديدة، فهل تنجح في هذا الاختبار أم تكتفي بالاستمرار في سياسة التركيز على الصين والمحيطين الهادئ والهندي تاركة الشرق الأوسط والشمال الإفريقي بتركته الثقيلة.
أدوات النفوذ الأمريكي في تونس
تنطلق دعوات الضغط على بايدن لاتخاذ موقف داعم للديمقراطية التونسية من خلال مسارات النفوذ المتعددة للولايات المتحدة في الداخل التونسي التي يمكن توظيفها من أجل دفع الرئيس التونسي لإعادة النظر في القرارات المتخذة والإسراع بالعودة إلى المسار الديمقراطي مرة أخرى.
وتتمتع أمريكا بنفوذ متشعب في الدولة العربية، أولها على المستوى الاقتصادي حيث المساعدات والمنح المقدمة من واشنطن للنظام التونسي التي تشكل العصب الأساسي لتجاوز المرحلة الحرجة التي تحياها البلاد خلال السنوات الأخيرة، ويذكر أن الولايات المتحددة خصصت أكثر من 1.4 مليار دولار لدعم التحول في تونس منذ 2011 وحتى اليوم، ولعل الاتفاقية الموقعة العام الماضي التي قدمت أمريكا من خلالها منحة قدرها 500 مليون دولار آخر حلقات هذا الدعم.
أما على المستوى السياسي فتتمتع العلاقات بين البلدين بفترة رخاء غير مسبوقة، ففي 2015 صنفت واشنطن تونس على أنها حليفة رئيسة للولايات المتحدة من خارج حلف “الناتو”، وهو الباب الأكثر اتساعًا لتعزيز مجالات التعاون بين البلدين لتشمل كل المجالات وعلى رأسها العسكرية.
عسكريًا.. وقعت أمريكا وتونس في أكتوبر/تشرين الأول 2020 اتفاقًا للتعاون العسكري بين البلدين، الاتفاق مدته 10 سنوات، ويشمل تدريب القوات التونسية وتسليح الجيش وخدمات صيانة الأسلحة، فضلًا عن التعاون في مجال مكافحة الإرهاب وإجراء المناورات المشتركة.
وعليه فإن استخدام تلك الأوراق الإستراتيجية – بحسب الفريق المطالب بايدن باتخاذ موقف حاسم – يمكن أن يكون عامل ضغط قوي على الرئيس التونسي الذي يعي جيدًا صعوبة المشهد الداخلي وعدم قدرته على تحمل أعباء أو هزات جديدة لا سيما على المستوى الاقتصادي.
ومن ثم تتصاعد المطالب باستخدام الثقل متعدد الجوانب الذي تتمتع به الولايات المتحدة من خلال توظيف ورقة المساعدات (الاقتصادية والعسكرية والسياسية) لبعث رسالة مباشرة للرئيس التونسي بأن التدفق المستمر لتلك المساعدات يجب أن يكون مشروطًا بالممارسة الديمقراطية
تقييم وبلورة الموقف
تباين الموقف الأمريكي، الرسمي وغير الرسمي، حيال المستجدات في تونس، لا يعكس حالة التضاد أو التناقض كما ذهب البعض، قدر ما هو إشارة واضحة للرغبة الواضحة في تقييم المشهد وبلورة موقف واضح إزاء ما حدث، فمن المستبعد أن تظل الاتجاهات ضبابية بهذا الشكل لفترة طويلة، كونه يعرض سمعة البلاد وصورتها الدولية للاهتزاز.
من المرجح أن يكون الشهر الذي أعلنه الرئيس التونسي كمرحلة انتقالية لقرارات التجميد البرلماني والحل الحكومي وحملة الاعتقالات والتوقيفات التي يقودها منذ 25 من يوليو/حزيران وحتى اليوم، مرحلة التقييم من واشنطن لتحديد المسار الذي سوف تسلكه فيما بعد.
ورغم دراية الجانب الأمريكي بأن الديمقراطية التونسية باتت في خطر، جراء حالة الفوضى والاضطرابات السياسية داخل الشارع التونسي خلال الآونة الأخيرة بسبب النزاع بين الرئاسيات الثلاثة ما نجم عنها تفاقم في الأوضاع المعيشية للمواطن، وتوقع تصاعد حالة الاحتقان والغضب حيالها، لكن في الوقت ذاته لا ترغب في وأد تلك التجربة، والعمل على صيرورتها مهما كانت التحديات.
وعليه.. باتت الكرة في ملعب الرئيس التونسي، فإن لم يضع خريطة طريق واضحة خلال الـ22 يومًا القادمة، وهي الفترة المتبقية من المهلة المحددة، لإنهاء حالة الضبابية والفراغ الذي تحياه البلاد، من المتوقع أن يكون هناك ردود فعل دولية أكثر حزمًا، وفي المقدمة منها أمريكا – توازيًا مع تعقيد المشهد الداخلي كذلك – تجنبًا لولوج الدولة في آتون الفوضى وعدم الاستقرار الذي سيدفع ثمنه الجميع، داخل تونس وخارجها.