تتوالى المواقف المعارضة لتحركات الرئيس التونسي قيس سعيد الفردية، داخليًا وخارجيًا، آخر هذه المواقف ما صدر عن المحامين الذين هبوا أمس بالمئات نصرةً لزميل لهم أرادت عناصر أمنية اعتقاله إلى جانب نواب ائتلاف الكرامة المعارضين لانقلاب الرئيس على دستور البلاد ومؤسساتها.
هبة ذكرت التونسيين بنضال المحامين زمن بن علي والحكم الاستبدادي الديكتاتوري، ما أعاد لهم بعض الأمل في منظمات بلادهم للتصدي لانقلاب قيس سعيد على الدستور ومؤسسات الدولة المنتخبة، فهل يكون المحامون سدًا منيعًا أمام مشروع سعيد الاستبدادي؟
هبة المحامين
ظهر أمس الإثنين، تجمع العشرات من الأمنيين أمام مقر هيئة المحامين بقصر العدالة بتونس العاصمة، بهدف القبض على المحامي التونسي المهدي زقروبة، على خلفية القضية المعروفة إعلاميًا بـ”حادث المطار”.
أراد هؤلاء القبض على المهدي زقروبة، دون احترام الإجراءات القانونية الواجب اتباعها، وهو ما جعله يتحصن بمقر هيئة المحامين، فهو يرفض الاعتراف بمحاكمات المدنيين أمام المحاكم العسكرية، ولا يقبل بتصفية الانقلاب لخصومه باستعمال القضاء العسكري، وفق النائب سيف الدين مخلوف.
يذكر أن هذه القضية التي رفعت ضد زقروبة تشمل أيضًا 4 أعضاء عن كتلة “ائتلاف الكرامة” البرلمانية، وتعود أطوار القضية إلى شهر مارس/آذار الماضي، حين شهد مطار تونس قرطاج الدولي، شجارًا بين عناصر من أمن المطار ونواب في “ائتلاف الكرامة” إثر محاولة نواب الائتلاف الدفاع عن مسافرة منعت من مغادرة البلاد دون وجه حق.
بالتزامن مع تحركهم أمام المحكمة، أسس عدد من المحامين مجموعة أطلقت على نفسها “محامون لحماية الحقوق والحريات”
تحصن المحامي في هيئة المحامين، فهب إليه المئات من زملائه لنصرته والوقوف معه، للحيلولة دون اعتقاله، فهم يرون أن هذه الإجراءات غير قانونية ومدخل لحكم فردي استبدادي، يقوض ملامح الديمقراطية التونسية التي ناضلوا كثيرًا من أجلها.
عقب هذا التحرك الكبير للمحامين، سارعت المحكمة العسكرية في تونس إلى إلغاء أمر إلقاء القبض على المحامي، فضلًا عن إلغاء القبض أيضًا على نواب ائتلاف الكرامة الأربع المتابعين في نفس القضية، في انتظار استكمال الإجراءات القانونية بحقهم.
التصدي لتغول سعيد
يرى العديد من التونسيين، أن هبة المحامين لنصرة زميلهم والوقوف إلى جانبه أمام محاولات القبض عليه بطرق غير قانونية، من شأنها أن تعيد إليهم الأمل في عودة بلادهم لمسارها الدستوري والديمقراطي ووقف تحركات سعيد الانفرادية.
في هذا الشأن قال المفكر والمحلل التونسي الحبيب بوعجيلة في تدوينة له على صفحته الخاصة: “شكرًا للمحامين الأحرار الذين أخرجوا النواب من أنياب حكم الأمر الواقع، هكذا كنتم سندنا في سنوات الاستبداد فتحركنا وكنا نعرف أن أسود ولبؤات البارو لن يتركوك”.
بدوره كتب المحامي والنائب في البرلمان التونسي حبيب بنسيدهم تعقيبًا على هبة المحامين: “قدر المحاماة أن تكون درعًا للوطن، عاشت المحاماة.. عاشت الحرية.. المجد للشهداء.. الخلود للعدالة.. رحم الله من حررونا.. رحم الله شهداء تونس”.
من جهتها أكدت المحامية حنان الخميري أن المحامين الذين كانوا في المحكمة أمس، صنعوا ملحمةً سيخلدها التاريخ، ملحمة أرجعت للمحاماة مجدها وبريقها، وكانت الخميري قد اعتصمت هي الأخرى إلى جانب العديد من المحامين في محكمة منوبة تنديدًا بالممارسات القمعية في حق النواب.
بالتزامن مع تحركهم أمام المحكمة، أسس عدد من المحامين مجموعة أطلقت على نفسها “محامون لحماية الحقوق والحريات”، لرصد الانتهاكات والتجاوزات الماسة بالحقوق الفردية والعامة والتصدي لها بكل الوسائل القانونية والمشروعة.
وفي أول بيان لها نددت المجموعة بالانتهاكات والتجاوزات التي عقبت القرارات اللادستورية التي اتخذتها رئاسة الجمهورية من ذلك الإيقافات العشوائية والمداهمات الليلية واستهداف الصحفيين ومحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية وملاحقة بعض المحامين وقمع حرية الرأي والتعبير.
وحذر المحامون من استمرار مثل هذه التجاوزات والانتهاكات وتبريرها أو الصمت المريب عنها ورأى هؤلاء أن في استمرارها خطوة أولى للعودة إلى الديكتاتورية والاستبداد وقمع الحقوق والحريات، داعين كل الأحرار والمنظمات الدولية والوطنية إلى مراقبة ما يحصل في تونس والتصدي لكل الانتهاكات والتجاوزات الحاصلة بها.
منحهم حضورهم في مختلف المحطات النضالية والتاريخ الطويل من مقاومة الديكتاتورية شرعية رمزية متنامية
تعيش تونس منذ أيام على وقع انقلاب يقوده الرئيس قيس سعيد على دستور البلاد ومؤسساتها المنتخبة، إذ أقال رئيس الحكومة وجمد عمل البرلمان ورفع الحصانة على النواب وفرض حالة الطوارئ وأعفى العديد من المسؤولين في الدولة، كما أعطى تعليمات للقوات الأمنية بقيادة حملة اعتقالات في صفوف نواب ومدونين مناهضين له.
مشروعية نضالية
يستمد المحامون قوتهم من مشروعيتهم النضالية زمن القمع والاستبداد، فبقدر ما كان سلك المحاماة يضم عناصر موالية للنظام قبل الثورة، فقد ضم أيضًا محامين معارضين، برزوا في أثناء العديد من التحركات الاجتماعية المناهضة للنظام، من ذلك أحداث الحوض المنجمي لعام 2008.
في تلك الأحداث، ساند العديد من المحامين تحركات الأهالي رغم اعتماد نظام بن علي جملة من الأساليب لاحتواء قطاع المحاماة، كما يعرف عن المحامين التونسيين المشاركة الفاعلة في الدفاع عن حقوق الإنسان خاصة في محاكمات الرأي الكبرى التي شهدتها البلاد نتيجة الانغلاق السياسي في عهدي بورقيبة وبن علي.
دون أن ننسى التعبئة حول المحامي المعارض محمد عبو دعمًا له زمن بن علي، وانتخاب عميد قريب من الإسلاميين (عبد الرزاق الكيلاني) عام 2010، وتصدرهم المظاهرات المناهضة لبن علي سنة 2011، فكانوا في الصفوف الأمامية خلال تلك المظاهرات الشعبية التي أسقطت نظام بن علي ومنحت تونس فرصة الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية.
منحهم هذا الحضور في مختلف المحطات النضالية والتاريخ الطويل من مقاومة الديكتاتورية شرعية رمزية متنامية، لذلك فإن التونسيين يعولون كثيرًا على سلك المحاماة للوقوف في وجه ديكتاتورية قيس سعيد الوليدة، ذلك أن هذا السلك هو هيكل قوي وله مكانة كبرى عند التونسيين.
في هذا الشأن يقول المحلل السياسي التونسي سعيد عطية لنون بوست: “لطالما قدمت المحاماة التونسية الدروس في كل الحقبات في الانتصار لدولة القانون وحقوق الإنسان حتى في عهدي بورقيبة وبن علي وما وقع بالأمس من الدفاع على تطبيق القانون والتصدي للخروقات التي أراد البعض فرضها بالقوة تماهيًا مع انقلاب 25 جويلية الدستوري ما هي إلا جولة في هذا المسار”.
ويرى عطية في حديثه لنون بوست أن أمام المحاماة فرصةً تاريخيةً للانتصار لدولة القانون والمؤسسات والتصدي لكل الانحرافات الممكنة بالسلطتين التنفيذية والقضائية، بعد الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيد بعد انقلابه الدستوري.
يشارك العديد من التونسيين سعيد عطية رؤيته، فهم يرون أن الفرصة مواتية أمام المحامين لتصدر جبهة مناهضة للتحركات والقرارات الانقلابية التي يقوم بها قيس سعيد منذ أكثر من أسبوع، فالرئيس وحاشيته يسعون لفرض نظام ديكتاتوري في تونس، لذلك وجب التصدي لهم واستثمار كل الفرص المتاحة لذلك.