دخل قرار مجلس الشيوخ الباكستاني (البرلمان) الخاص بجعل تدريس اللغة العربية إلزاميًّا، في مراحل التعليم الأساسية من الابتدائية وحتى المرحلة الثانوية، حيّز التنفيذ بدءًا من أول أغسطس/ آب الجاري، في خطوة ربما هي الأهم في تاريخ الدولة الباكستانية خلال العقدَين الأخيرَين.
البداية بحسب مشروع القانون المقدَّم في فبراير/ شباط الماضي ستكون في مدارس العاصمة إسلام آباد، حيث يتمّ تدريس أساسيات اللغة العربية من الصف الأول الابتدائي وحتى الخامس، فيما يتم تدريس قواعد النحو والصرف من الصف الخامس وحتى نهاية الثانوية العامة، ثم تعمَّم التجربة على بقية المدن.
الخطوة هي الأولى من نوعها في ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد المسلمين، إذ بها ما يزيد عن 200 مليون مسلم، لتصبح اللغة العربية على قدم المساواة جنبًا إلى جنب مع اللغات الأساسية في البلاد، الإنجليزية والأردية، وتعدّ تتويجًا للجهود المبذولة لتعزيز حضور اللغة العربية على المستوى الداخلي.
ورغم ما يحمله هذا التحرك من توسيع رقعة انتشار اللغة العربية، لتتجاوز الحدود الجغرافية الضيّقة للدول العربية الـ 22 إلى آفاق أرحب، إلا أن ردود الفعل لم تكن على مستوى الحدث، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول هذا التجاهل وغياب الدعم لمثل تلك الخطوات، أسوة بما يتم التعامُل به مع العديد من الملفات والمسائل الأقل أهمية.
رغبة شعبية وانتقاد علماني
في الوقت الذي كانت تعرقل فيه حكومات البلاد المتعاقبة تمرير هذا القانون، في ظل ما تتعرض له من ضغوط داخلية، علمانية وأصولية على حد سواء، كان للشارع كلمة أخرى، مرحِّبًا بأي تحرك من شأنه أن يوسِّع من رقعة انتشار اللغة العربية، وأن يفرضها كلُغة رسمية في الدولة التي تضم ما يقارب 11% من سكان العالم من المسلمين.
وتزخر باكستان بالعديد من المبادرات والمشاريع الخاصة بتعليم اللغة العربية، إذ يعدّ هذا القانون ترجمةً لسنوات طويلة من العمل الشاق لتعزيز مكانة لغة القرآن الكريم على المستوى الشعبي، بحسب رئيس قسم اللغة العربية في جامعة العلامة إقبال، الدكتور سميع الله زبيري.
واجهَ القانون في بداية عرضه على البرلمان موجة انتقادات لاذعة من الأحزاب العلمانية، التي اتّهمت حكومة الرئيس عمران خان بالتخطيط لأسلمة التعليم.
ويؤكد زبيري أن القسم الذي يرأسه بالجامعة درّبَ أكثر من 100 ألف خريج لتدريس اللغة العربية خلال السنوات الماضية، لافتًا إلى تجاوز عدد المتحدثين بالعربية في بلاده إلى أكثر من 10 مليون مواطن، الأمر الذي يجعل من اللغة العربية عاملًا مؤثِّرًا في تشكيل ثقافة الدولة الآسيوية الكبيرة.
وفي المقابل واجهَ القانون في بداية عرضه على البرلمان موجة انتقادات لاذعة من الأحزاب العلمانية، التي اتّهمت حكومة الرئيس عمران خان بالتخطيط لأسلمة التعليم وتحويل البلاد إلى دولة أصولية، تعجُّ مناهجها بالمحتوى الديني بعيدًا عن مجالات العلوم الأخرى، ومن جهة أخرى هناك من اتّهم الحكومة بتوظيف هذا الملف في الوقت الراهن، لغضِّ الطرف عن الفشل في المجالات الأخرى على رأسها المجال الاقتصادي.
العربية.. أهمية كبرى لباكستان
تحتل اللغة العربية مرتبة متقدِّمة في قائمة أولويات الشعب الباكستاني، كذلك حكومة الدولة، إذ تنصّ المادة 31 من الدستور الرسمي للبلاد على أن “الحكومة تهتم بتعليم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بطريقة صحيحة”، ومن ثم تنتشر مراكز تعليمها بصورة كبيرة مقارنة بغيرها من اللغات الأخرى.
مؤسِّس معهد اللغة العربية في باكستان، محمد بشير سيالكوتي، والذي قضى قرابة نصف قرن في تعليم اللغة العربية في بلاده، يقول إن “باكستان متعطشة للغة العربية”، فبخلاف أنها دولة إسلامية، ويحب أهلها لغة القرآن الكريم، فإن اللغة في حد ذاتها هدف استراتيجي لما يترتّب على عدم تعلمها من خسائر كبيرة، للأفراد والحكومات على حد سواء.
ويضيف شيخ اللغة العربية كما يلقَّب في باكستان، أن أساتذة المعهد الذي يرأسه يبتكرون طُرُقًا جذابة لتعليم النَّشء قواعد اللغة، معتمدين في الأساس على آيات القرآن الكريم، منوِّهًا أن تلك الطُّرق تمكِّن الدارس خلال 30 يومًا فقط من فهم القرآن، واستيعاب 60% من اللغة العربية.
واختتم بشير حديثه بالإشارة إلى ضرورة تطوير الجهود التي تبذلها المؤسسات والجامعات الباكستانية لتعليم العربية، مؤكّدًا أن بلاده لن تصبح دولة قوية دون اللغة العربية، ولا بد من طرح هذا الملف على مائدة النقاش على أعلى المستويات، رغم التحديات والعراقيل التي تهدِّد تحول هذا الحلم إلى حقيقة.
بُعد اقتصادي
الاهتمام بالعربية لا ينحصر فقط على البُعد الثقافي والديني فحسب، بل له أبعاد اقتصادية في المقام الأول، لا تقلّ عن بواعث الاهتمامات الأخرى، وتتضح الصورة بشكل أعمق حين نشير إلى أن هناك أكثر من 5 ملايين باكستاني يعملون في الدول العربية، لا سيما الخليج.
بلغت تحويلات العمالة الباكستانية العاملة في الخارج قرابة 2.3 مليار دولار بحسب البنك المركزي الباكستاني.
وتتمركز الكتلة العمالية الباكستانية في السعودية والإمارات على وجه التحديد، إذ تشير التقديرات إلى وجود 2 مليون في السعودية و1.6 مليون في الإمارات، هذا بجانب ما يقارب 150 ألف في قطر ونظيرهم في البحرين والكويت وسلطنة عُمان، الأمر الذي يجعل من تعلم العربية بابًا كبيرًا للنجاح في تلك الدول التي يذهب إليها الباكستانيون لتحسين مستويات دخولهم.
وعلى المستوى الوطني، فإن تلك العمالة بالخارج تنعش خزانة الدولة في صورة تحويلات، يتم إرسالها بصورة منتظمة شهريًّا، ويعتمد عليها الاقتصاد الرسمي للبلاد في تعزيز احتياطه النقدي من جانب، وإنعاش العديد من مجالات الإنتاج والتسويق والعمالة الداخلية من جانب آخر.
وقد بلغت تحويلات العمالة الباكستانية العاملة في الخارج قرابة 2.3 مليار دولار بحسب البنك المركزي الباكستاني، 48.5% منها من السعودية والإمارات، فيما يبلغ إجمالي التحويلات من دول مجلس التعاون الخليجي 1.3 مليار دولار نظير 1 مليار دولار من الدول الأوروبية، وهو ما يفسِّر الإقبال على تعلم العربية والاهتمام الشعبي بها.
تحديات وعقبات
تمرير قانون إلزام تعليم العربية في المدارس الحكومية أول خطوة نحو تحقيق الحلم إلى حقيقة، لكن الطريق ما زال مفروشًا بالعراقيل والتحديات التي يجب التعاطي معها بشيء من المرونة، حتى لا تفقد تلك الخطوة تأثيرها وقيمتها، خاصة أن هناك الكثير من المتربّصين بمثل تلك التحرُّكات.
العقبة الأولى أمام ترجمة هذا الحلم إلى واقع تتمثل في الكلفة الاقتصادية، فالقانون المفترض تطبيقه على كافة أنحاء البلاد يحتاج إلى ميزانيات ضخمة، وعليه كان الاكتفاء بالعاصمة إسلام آباد كتجربة أوّلية لتقييم المشروع، وفي حال نجاحها وتوفير الموارد المالية سيتم التعميم على بقية المدن، والعكس صحيح.
العقبة الثانية تتعلق بالمناهج المعتمدة لتعليم العربية في البلاد، فالمناهج التي يتم تدريسها حاليًّا، مناهج عقيمة عفا عليها الزمن، وتحتاج إلى تطوير وثورة شاملة في المناهج على أيدي خبراء وأكاديميين متخصّصين، وهنا يرى البعض أن البرلمان ألقى بالكرة في ملعب وزارة التربية، كما ذهب رئيس قسم اللغة العربية في جامعة العلامة إقبال، الدكتور سميع الله زبيري.
ثم تأتي العقبة الثالثة التي تقع على عاتق الحكومة، والمتمثلة في تهيئة سوق العمل المناسب للخريجين من دارسي اللغة العربية، وتجاوز حاجز العمل خارج البلاد في الدول العربية فحسب، إلى خلق سوق داخلي يغري المستثمرين العرب لتدشين مشاريع داخل باكستان تحتاج إلى متحدثين للعربية، وهو ما سيكون له تأثيره الكبير على تحفيز الشباب والدراسين على تعلُّم اللغة.
ماذا عن الدعم العربي؟
السؤال الذي بدأ يفرض نفسه مع تشريع قانون تعليم اللغة العربية الإلزامي داخل المدارس الباكستانية.. ماذا عن الدول العربية؟ وهل ستدعم الحكومات والمنظمات العربية هذه الخطوة التي يفترض أنها تعدّ نجاحًا كبيرًا في مسيرة الثقافة العربية على المستوى العالمي؟
لا شك أن هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الدول العربية في نشر لغتها الأم، وبعيدًا عن المبادرات الشعبية التي قد تقوم بها بعض الكيانات المجتمعية لدعم هذه الخطوة، فإن على الحكومات والأنظمة مسؤولية أكبر، تتمحور في تقديم كافة أشكال الدعم لإنجاح هذه التجربة وتعميمها قبل التراجع عنها حال فشل مرحلتها الأولى بالعاصمة.
يجب أن يستقرَّ في مخيلة الأنظمة العربية أن مناهضة الخصوم السياسيين في المنطقة لا تتوقف عند حاجز المواجهات العسكرية والتفوق التسليحي والاقتصادي فقط.
ويأخذ الدعم العربي إزاء هذا الملف بُعدَين، الأول هو البُعد المادي، حيث تقديم المنح والمساعدات المادية لوزارة التربية والتعليم الباكستانية لتنفيذ المشروع عمليًّا، سواء فيما يتعلق بالبنية التحتية من فصول ومدارس، أو طباعة الكتب وتحمُّل كلفتها ورواتب المعلمين وحوافز الدارسين وما إلى غير ذلك من مشمولات الدعم المادي، بحيث يتم سدّ كافة الثغرات التي من الممكن أن تندس منها أصوات العلمانيين المنددين بتلك الخطوة.
أما البُعد الثاني في منظومة الدعم العربي المقترحة فتتعلق بالدعم الفني، وهنا تقع المسؤولية على عاتق وزارات التعليم في الدول العربية وجامعة الأزهر الشريف وكليات اللغة العربية في شتى بلدان العالم العربي، للمساعدة في وضع المناهج المعاصرة وتأهيل الكوادر التعليمية الباكستانية للقيام بمهامها الجديدة، وإلا فإن القانون سيظل حبيس الأدراج دون أي تحرُّك جدّي في مياهه الراكدة.
هناك بُعد ثالث يمكن الاستناد عليه عند الضرورة لتحفيز العقلية العربية على تبنّي هذا المشروع، لكنه بُعد سياسي في المقام الأول، والخطاب هنا ربما يكون موجّهًا بصورة أكثر تحديدًا للشارع الخليجي.
فعلى حكومات دول الخليج العربي أن تعي أنها أمام فرصة تاريخية لتعزيز نفوذها الإقليمي ثقافيًّا، أمام النفوذ الإيراني، إذ أنشأ الإيرانيون مئات المراكز الثقافية في شتى المدن الباكستانية لنشر اللغة الفارسية وتدريس الثقافة الإيرانية.
وفي النهاية يجب أن يستقرَّ في مخيلة الأنظمة العربية أن مناهضة الخصوم السياسيين في المنطقة لا تتوقف عند حاجز المواجهات العسكرية والتفوق التسليحي والاقتصادي فقط، لكن كذلك بهزيمتهم ثقافيًّا من خلال التفوق اللغوي والثقافي في مختلف الساحات والمعارك الخارجية، وليس هناك أهم من الملعب الباكستاني كساحة نزال لاستعراض التفوق العربي، من خلال تعزيز القوة الناعمة العربية الأكثر حضورًا وتأثيرًا، وهي اللغة الأمّ.