تشهد مدينة درعا في الآونة الأخيرة سلسلة من الأحداث الساخنة، نتيجة حصار فرضته قوات النظام على أحياء درعا البلد وطريق السد والمخيم، ومحاولات مستمرّة لاقتحام أحياء المدينة من قبل قوات الفرقة الرابعة والميليشيات المرافقة لها لفرض سيطرته على المدينة، عاشَ على إثرها الأهالي في درعا ترقبًا وخوفًا خشيةً من عمليات التعفيش والانتقام منهم، بسبب مواقفهم المناهضة للنظام السوري.
هذه الأحداث التي تجري في المحافظة التي تُعتبر مهد الثورة السورية هي الأولى من نوعها، منذ اتفاق التسوية الذي حصل مع قوات النظام في شهر يوليو/ تموز 2018، وكانت تسوية الجنوب السوري استثنائية من بين الاتفاقيات مع المدن والبلدات الأخرى في عموم سوريا، إذا بقيَ كثير من مقاتلي المعارضة ونشطاء الثورة في مدنهم وقراهم مع سلاحهم الخفيف، وكل ذلك بضمانة روسية.
كانت درعا في آخر سنتَين في صُلب اهتمام روسيا وإيران ونشاط واضح لحزب الله وميليشيات شيعية، بالإضافة إلى ترقب إسرائيلي مستمر، وتحركات دائمة للنظام لاستعادة سيطرته الكاملة، وهو ما لم يحصل بسبب تعقد الحالة الإقليمية للمنطقة المحاذية لـ”إسرائيل”.
إضافةً إلى أن أهل درعا ما زالوا متمسّكين بقِيَم الثورة ويخرجون بمظاهرات مناهضة للنظام، كما أنهم قاطعوا مسرحية الانتخابات وقاموا بإضراب شمل غالب مدن وبلدات المحافظة في ذلك اليوم.
ما الذي يحدث الآن
فرضت قوات النظام متمثِّلة بالفرقة الرابعة والميليشيات الإيرانية المصاحبة لها، حصارًا على درعا البلد بدأ بتاريخ 24 يونيو/ حزيران الحالي، عبر إغلاق معظم الطرق المؤدية إليها بالسواتر الترابية والحواجز العسكرية التي تمركز معظمها في النقاط العسكرية القريبة من المدينة، رغم التوصُّل لاتفاق بين اللجنة المركزية للأهالي والنظام.
يقضي الاتفاق بفكّ الحصار عن أحياء درعا البلد، عبر فتح الطرقات بين درعا البلد ومركز المحافظة على مدار 3 أيام، يجري خلالها تسليم عدد محدود من الأسلحة الفردية، والسماح بإقامة 3 نقاط عسكرية داخلها، إضافة إلى إجراء تسوية جديدة لنحو 100 شاب في درعا البلد، وتسوية للأشخاص الذين لم يجروا عملية التسوية سابقًا في يوليو/ تموز من العام 2018.
على إثر خرق قوات النظام لاتفاق التهدئة، تجددت الاشتباكات بين قوات من النظام السوري وميليشيات متعددة مرافقة لها كالحرس القومي العربي.
ونصَّ الاتفاق على ضبط اللجان المحلية التابعة للأفرع الأمنية داخل المربّع الأمني في درعا المحطة، وتطبيق القانون بحق أي مسيء من أي طرف كان، بالإضافة إلى سحب السلاح غير المنضبط من اللجان المحلية والقوات الرديفة المنتمية إلى النظام السوري.
تجدُّد الاشتباك
على إثر خرق قوات النظام لاتفاق التهدئة، تجددت الاشتباكات بين قوات من النظام السوري وميليشيات متعددة مرافقة لها كالحرس القومي العربي، الذي يعدّ إحدى أذرع الحرس الثوري الإيراني، وبين مقاتلين محليين من أهالي مدينة درعا، أدت إلى اقتحام مدينة درعا يوم الخميس الفائت، وسط قصف مكثَّف بالرشاشات الثقيلة والهاون والمدفعية وصواريخ “فيل” محلية الصنع.
كما نشر موقع “تجمع أحرار حوران”، أن أرتالًا عسكرية ضخمة شوهدت على أوتوستراد “دمشق-درعا” قادمة من العاصمة دمشق، تمّ استدعاء معظمها من بادية السخنة في ريف حمص الشرقي، استقرَّ قسم منها في حي الضاحية على مدخل مدينة درعا الغربي، في حين توزّع الآخر على الثكنات والنقاط العسكرية داخل وخارج مدينة درعا.
تحتوي الأرتال العسكرية على مئات العناصر من ميليشيات الفرقة الرابعة، والفرقة 25 المعروفة باسم “قوات النمر”، بالإضافة إلى عشرات الدبابات والمدافع الميدانية وراجمات الصواريخ بحسب التجمع.
حاولت قوات النظام التقدم على عدة محاور رئيسية ضمن حملتها الأخيرة، وهي محور حاجز قصاد ومحورَي مناطق النخلة والقبة، حيث استقدمت تعزيزات عسكرية من مختلف المناطق إلى جبهات محافظة درعا، وسط تحليق لطيران الاستطلاع في المدينة وريفها.
مناورات واسعة النطاق
تصدّى مقاتلون محليون من أبناء درعا البلد لهجمات النظام والميليشيات المرافقة يوم الخميس الماضي 30 يوليو/ تموز، ومنعوهم من التقدم تجاه الأحياء السكنية في المدينة، واقتصر تواجد عناصر النظام على الأطراف الشرقية والجنوبية للمدينة، وتكبّدت المجموعات المهاجمة خسائر في الأرواح أثناء محاولتها التقدم من المحاور الشرقية للمدينة.
ردًّا على هجوم قوات النظام والميليشيات المرافقة لها، قام عدد من المقاتلين المحليين في قرى وبلدات درعا بالهجوم على الحواجز المتواجدة في ريفَي درعا الشرقي والغربي، حيث قطعت مجموعة من أبناء بلدة صيدا شرقي درعا الأوتوستراد الدولي “دمشق-عمان” أمام مجموعات النظام العسكرية القادمة إلى المحافظة.
كما سيطرت المجموعة هذه على حاجز المساكن العسكرية التابع للأمن العسكري، ومفرزة الأمن العسكري والحاجز الواقع أمامها، إضافة إلى حاجز مشفى صيدا، بعد اشتباكات دارت مع قوات النظام فيها، وأسروا عددًا من الضبّاط والعناصر.
في حين سيطر بعض المقاتلين من بلدة أم المياذن شرق درعا على حاجزَين للنظام في البلدة، إضافة إلى حاجزَين في بلدة كحيل، وتمّ اغتنام دبابة وأسلحة متنوعة أخرى، وأسر العناصر الموجودين بالحواجز، ليصبح عدد الأسرى نحو 70 عنصرًا.
في بلدة النعيمة المجاورة لبلدتَي صيدا وأم المياذن، سيطر أبناء المنطقة على حواجز الرادار والسرو وحاجز مزرعة النعام، كما استطاعوا السيطرة على الحاجز المتمركز بين بلدتَي صيدا والطيبة والحواجز العسكرية في بلدة الجيزة المجاورة.
في منطقة اللجاة هاجم أبناء المنطقة حاجز قيراطة وقتلوا العديد من العناصر على الحاجز، لينسحب فيما بعد من تبقّى من عناصر النظام خارج المنطقة.
امتدت رقعت السيطرة على الحواجز العسكرية للنظام حتى مدينة الحراك بريف درعا الشرقي، التي سيطر مقاتلون محليون فيها على الحواجز العسكرية فيها وأسروا عددًا من عناصر المخابرات الجوية.
في المنطقة الغربية لم يختلف الحال كثيرًا عن المنطقة الشرقية، حيث سيطرت مجموعة من ثوار المنطقة الغربية على حاجز “البكار” التابع لقوات النظام، والواقع بين بلدة البكار ومدينة تسيل بريف درعا الغربي، وعلى مركز للمخابرات الجوية في البلدة، وحاجز يفصل بينها وبين بلدة سحم الجولان غرب درعا، وتمكنوا من أسر أكثر من 30 عنصرًا.
كما سيطر الثوار على معسكر زيزون ومعسكر الصاعقة وحاجز الكنسروة بريف درعا الغربي، بعد انسحاب عناصر قوات النظام من هذه المواقع، إضافة إلى مفرزة الأمن العسكري في بلدة الشجرة بريف درعا الغربي.
واستولوا أيضًا على تل السمن قرب مدينة طفس بريف درعا الغربي، وأسروا عددًا من عناصر وضبّاط النظام فيه، كما هاجموا منطقة الري الواقعة بين اليادودة والمزيريب، ليسفر عن ذلك حالات انشقاق في صفوف عناصر النظام.
في الريف الشمالي الغربي سيطر الثوار على حاجزَي السريا والقطاعة، كما قُتل وجُرح 10 عناصر نتيجة مهاجمة الثوار حاجز تل الجابية غرب مدينة جاسم شمال درعا، وسيطر ثوار انخل على حاجزَين عسكريَّين، الأول على طريق بلدة سملين والثاني على طريق بلدة نَمَر.
وفي منطقة اللجاة هاجم أبناء المنطقة حاجز قيراطة وقتلوا العديد من العناصر على الحاجز، لينسحب فيما بعد من تبقّى من عناصر النظام خارج المنطقة.
وقف إطلاق النار
أجبرت التحركات الأخيرة قوات النظام والميليشيات المرافقة لها، إيقاف الحملة بشكل مؤقت والنزول لاتفاق وقف إطلاق نار غير معلن لمدة 48 ساعة، يوم الجمعة الماضية، ليعود النظام لتجديد حملة القصف بالمدفعية والرشاشات الثقيلة، كخرق مباشر للهدنة المزمع عقدها برعاية الضامن الروسي.
وقد تبيّن لاحقًا أن وقت الهدنة المحدَّد كان لكسب الوقت وإعادة بناء صفوف القوات المهاجمة، في ظل مناشدات من قبل الأهالي والأعيان في مدينة درعا للمجتمع الدولي والضامن الروسي، للالتزام بعهودهما وإيقاف الحملة تجاه الأحياء المدنية في درعا البلد.
حصار طبّي
أسفرت عمليات القصف العنيفة من قبل قوات النظام على أحياء المدنية في درعا وقراها، عن مقتل ما يزيد عن 28 شخصًا والعديد من الجرحى معظمهم من النساء والأطفال، خلال مواجهات تعدّ الأعنف منذ توقيع اتفاقية التسوية بين فصائل المعارضة وقوات النظام برعاية روسية في يوليو/ تموز من العام 2018.
وربما كان غياب المراكز والكوادر الطبية هو أحد أهم أسباب الخسارة الكبيرة في الأرواح في صفوف المدنيين، حيث إن المنطقة تعاني من نقص حادٍّ في المستلزمات الطبية، بعد إغلاق كافة المعابر التي تربط درعا البلد بدرعا المحطة، جزئي المدينة القديم والجديد، واستهداف النقطة الطبية الوحيدة في درعا من قِبل قنّاصة النظام في محيط مدينة درعا.
كما يحدّثنا أحد العاملين في الكادر الطبّي في مدينة درعا: “الوضع الطبي بشكل عام سيّئ للغاية، ويفتقر القطاع الطبي بمدينة درعا إلى الكثير من الاحتياجات، فلا يتواجد لدينا سوى بعض مفجرات الصدر والسيرومات الملحية وغالبها منتهية الصلاحية، وشاش وأربطة ومشدّات، وخيطان لخياطة الجروح منتهية الصلاحية، ولا يوجد لدينا أدوية إنعاش إطلاقًا، ولا حتى أدوية التهاب أو أدوية إسعافية”.
وتابع قائلًا إن “الكادر الطبي الحالي ضمن مدينة درعا يقتصر على طبيبَين اثنَين من غير الأخصائيين وبعض الممرضين، نحاول العمل قصار جهدنا في بناء غير مجهّز ليكون مشفى وهو ليس آمنًا، حتى أننا تعرضنا للقصف أكثر من مرة، ما اضطرّنا لتغيير مكاننا مرة تلو الأخرى”.
خرجَ وجهاء وأهالي مدينة درعا، في تسجيل مصوَّر يطالبون فيه بتأمين ممرّ آمن لهم إلى الأردن أو الشمال السوري.
وختم حديثه قائلًا: “إن كل ما يتواجد حاليًّا لتغطية احتياجات المدينة من الناحية الطبية، هي بعض المستهلكات الطبية البسيطة التي لا يمكن أن تغطي عددًا كبيرًا من الجرحى أو حالات المجازر، ولا يوجد لدينا أكسجين ولا جهاز تنفس اصطناعي ولا عناية مركّزة ولا قسم طوارئ ولا قسم عمليات جراحية، ولا حتى سيارات إسعاف”.
حركات النزوح تحت وطأة القصف
تسبّبت هذه الأحداث في حركة نزوح كبيرة للعائلات المقيمة في درعا البلد، عبر الممر الوحيد الذي فتحه النظام بجانب حاجز السرايا، حيث وصل عدد العائلات النازحة ما يقارب 600 عائلة، عبرت منه سيرًا على الأقدام.
كما فرضت حواجز النظام مبلغ 700 دولار أميركي على العائلة الواحدة في حال أرادت نقل أثاث المنزل أو العبور بآلياتها إلى منطقة درعا المحطة، خوفًا من أن يتم تعفيشها من قبل قوات النظام المهاجمة، وبالوقت نفسه لعدم توفر المكان الذي يمكّنهم من العيش فيه، وكل هذه الصعوبات من نزوح وتشرد تبقى أفضل بالنسبة إلى العائلات من البقاء تحت وقع القصف المستمر لقوات النظام على المدينة.
على الصعيد نفسه خرج وجهاء وأهالي مدينة درعا، في تسجيل مصوَّر يطالبون فيه بتأمين ممرّ آمن لهم إلى الأردن أو الشمال السوري، ليخرج أكثر من 50 ألف شخص كدفعة واحدة، وتسليم المدينة وهي خاوية للنظام السوري بهدف حقن دماء أهل المدينة، التي توعّدها عناصر النظام والقوات المقتحمة بالثأر لرفاقهم الذين قضوا على أطراف درعا في سنوات الثورة السابقة.
الأردن يغلق حدوده
بعد التصريحات الأخيرة للعاهل الأردني عبد الله الثاني، التي كانت تعلن تقاربًا من النظام السوري، والاتصالات المتبادلة بين وزيرَي داخلية البلدَين، أعلن الأردن فتح معبر جابر-نصيب الحدودي مع سوريا يوم الأربعاء الماضي أمام حركة البضائع والركّاب.
عاد الأردن بعدها يوم السبت الماضي معلنًا تأجيل فتح المعبر الحدودي مع سوريا “مؤقتًا”، نتيجة التطورات الأمنية في منطقة درعا السورية، بعد أن قام بعض أبناء المنطقة بقطع الطريق الدولي الواصل بين دمشق وعمان ناريًّا، ردًّا على الحملة التي قام بها النظام على درعا البلد بعد السيطرة عليها.
من الجدير بالذكر أن قوات النظام تتعمّد السيطرة على درعا البلد بسبب رمزيتها في الثورة السورية، كونها الشرارة التي أطلقت العنان للثورة السورية عام 2011 التي عمّت كافة أرجاء البلاد، بالإضافة إلى موقف الأهالي الأخير من مسرحية الانتخابات الرئاسية، التي قوبلت بالمقاطعة العامة في جميع أرجاء درعا، كما شهدت المحافظة إضرابًا عامًّا شملَ كل المرافق فيها أثناء مسرحية الانتخابات الرئاسية السورية.
مواقف دولية
إلى ذلك، دعا المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسون الجميع إلى التهدئة في البلاد، مضيفًا أنه “يتابع بقلق بالغ التطورات في جنوب غرب سوريا، وأشار إلى أنه على اتصال نشط مع الأطراف المعنية لضمان وقف العنف”.
وقال المبعوث الأممي إن “هذا التصعيد للتوتر في جنوب غرب سوريا يوضّح حاجة الجميع إلى الاتفاق على وقف إطلاق النار على الصعيد الوطني بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي 2254”.
أدان وزير شؤون الشرق الأوسط البريطاني، جيمس كليفرلي، هجمات نظام الأسد على مدينة درعا.
كما أدانت الخارجية الفرنسية “الهجوم الإجرامي الذي شنّه النظام السوري” في درعا، وقالت الناطقة باسم وزارة الخارجية الفرنسية أنييس فون دير مول: “يؤكد هذا الهجوم أنه في ظلِّ غياب عملية سياسية ذات مصداقية فإن سوريا لن تستعيد الاستقرار”.
بدوره عبّر مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية عن “قلق الولايات المتحدة البالغ إزاء الوضع في درعا، بما في ذلك التقارير عن إلحاق الأذى بالمدنيين، والظروف الصعبة للغاية التي يعانون منها”.
ودعا المسؤول الأميركي “جميع الأطراف إلى وقف التصعيد على الفور والسماح للمساعدات والمدنيين بالتحرّك بحرّية”، مشيرًا إلى أنه لا يمكن حلّ النزاع في سوريا إلا من خلال الانتقال السياسي بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي 2254.
إلى ذلك أدان وزير شؤون الشرق الأوسط البريطاني، جيمس كليفرلي، هجمات نظام الأسد على مدينة درعا، قائلًا: “مدنيون، بمن فيهم أطفال، قضوا نتيجة انتهاك صارخ للقانون الدولي. الشعب السوري مستمر في المعاناة، والوصول إلى حلٍّ سياسي حقيقي هو وحده الكفيل بإحلال السلام في سوريا”.
أخيرًا.. يترقب أهالي درعا ما ستسفر عنه المفاوضات بين اللجنة المركزية ونظام الأسد برعاية روسية، وسط حالة من عدم التفاؤل بعد فشل نظام الأسد في الالتزام بجميع تعهداته باتفاقيات وقف إطلاق النار والتسويات التي عقدها مع الأهالي.. الأيام المقبلة ستكون حاسمة في تاريخ مهد الثورة.