“ابني حلو ومليح وعيونه عسلية”، بهذه الكلمات العفوية وصفت قبل سنة من الآن والدة الضحية محمد العطار للصحفي، ابنها الغائب بين الركام والدمار، عندما كانت تائهة تبحث بين الجثث وفي المستشفيات بعد سماعها دوي انفجار المرفأ.
أمّ محمد العطار لم تدرك حينها أنه مع مقتل ابنها سينهار ما تبقّى من لبنان، ومعه الشباب الطامح للهجرة، فشأنها شأن أغلب أهالي ضحايا انفجار المرفأ الذين فُجعوا بالكارثة، التي راح ضحيتها أكثر من 200 شخص و7 آلاف جريح، كما تسبّبت في تشريد مئات الآلاف، وأحدثت دمارًا وخرابًا على نطاق واسع.
الانفجار الهائل قضى فيه شبّان عائدون من أعمالهم بعد يوم طويل، فلم يفرّق الانفجار بين كبير وصغير، بين بيروت شرقية وغربية، ولم يكن حاجزه دينًا أو مذهبًا أو حتى جنسية، بل جرفَ في طريقه كل حجر وبشر.
رغم مرور نحو عام على انفجار المرفأ الذي عُدّ أسوأ انفجار غير نووي، لا تزال آثار الحادث تؤثر على مستويات مختلفة داخل البلاد، وإلى اليوم لم يشفَ اللبنانيون من جراحهم التي عمّقتها أزمات صحية واقتصادية وسياسية.
كثير من الأسئلة اليوم موجّهة نحو الكيان السياسي اللبناني، ولكن لا يوجد جواب واضح وصريح لها: أين وصل مجرى التحقيق؟ هل سيتم محاسبة المسؤولين؟ أين هي المساعدات والهِبات الخارجية التي قُدِّمت للشعب والمتضررين من الانفجار.. فنحن اليوم في أمسّ الحاجة إليها.
تداعيات الانفجار ما زالت حتى يومنا هذا، والبلد يترنّح أصلًا تحت ثقل اضطرابات شعبية ومصاعب اقتصادية ومالية، وفقر متزايد، وبطالة تفاقمت بسبب مأزق سياسي وفراغ حكومي.
أكثر من 2000 طن من مادة نترات الأمونيوم مخزّنة منذ العام 2014 في العنبر رقم 12 في المرفأ، لم يحدَّد بعد من هو المسؤول عنها.
تلك هي المعادلة الطبيعية للانفجار، الذي كان أصله فسادًا نخرَ في بنية الدولة، فدمّرها وقضى على أبسط قطاعاتها وأكثرها أهمية.
مجرى التحقيق
أكثر من 2000 طن من مادة نترات الأمونيوم مخزَّنة منذ العام 2014 في العنبر رقم 12 في المرفأ، لم يحدَّد بعد من هو المسؤول عنها، والدولة اللبنانية التي وعدت بتحقيق سريع كل ما تقوم به اليوم هو العرقلة والتأجيل، فمجرى التحقيق اليوم قضت عليه التجاذبات السياسية.
وعندما قرر القضاء استدعاء بعض هؤلاء المسؤولين لاستجوابهم في القضية، ثارت ثائرة السياسيين، ورفضوا رفع الحصانة عن نوّاب تولوا مناصب وزارية، ومنح الإذن لاستجواب مسؤولين أمنيين.
ففي ديسمبر/ كانون الأول العام الماضي، وعقب الانتهاء من التحقيق الأوّلي في الكارثة، اتّهمَ المحقِّق العدلي القاضي فادي صوان العديدَ من السياسيين البارزين، بما في ذلك رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب، بالإهمال الجنائي.
وبعد ذلك بشهرَين، توقفت التحقيقات التي كان يقوم بها القاضي فادي صوان، بعدما قررت محكمة لبنانية استبعاده من التحقيق في الانفجار، وهكذا ضاعت التحقيقات ولم تصل إلى نتيجة مُرضية حتى يومنا هذا، رغم التهديدات الشعبية المتواصلة.
انهيار اقتصادي
يشهد لبنان اليوم انهيارًا اقتصاديًّا في جميع قطاعات الدولة دون استثناء، خاصة بعد الانفجار، حيث بدأ الشلل يطال مختلف الوزارات والمستشفيات والمؤسسات الرسمية بسبب انقطاع الكهرباء، وبسبب شحٍّ كبير بالمستلزمات الأولية ومواد القرطاسية كالأوراق والحبر والطوابع.
كما يعاني لبنان من أزمة محروقات ونقص في مواد غذائية وطبية وأساسية، وتشهد معظم المناطق اليوم تقنينًا شديدًا في الكهرباء يصل إلى 22 ساعة في اليوم، بينما لا يوجد ما يكفي من الوقود لتشغيل المولدات الخاصة.
وباتت معظم الأدوية الرئيسية مفقودة، حيث سُجِّلت حالات وفات لأطفال نتيجة فقدان أدوية مثل خافض الحرارة، كما أُغلقت غُرف العمليات في العديد من المستشفيات الحكومية بسبب انقطاع الكهرباء وكذلك مادة التخدير الطبّي.
كل يوم تقريبًا يصدر تحذير من قطاع ما، فالمستشفيات تحذِّر من نفاد المحروقات اللازمة لتشغيل المولدات وسط انقطاع التيار الكهربائي، ومخاطر هذا على حياة المرضى، بينما الصيدليات تنفّذ إضرابات بسبب انقطاع الأدوية، والمتاجر قد تضطرّ لإفراغ برّاداتها لعدم توفر الكهرباء والوقود.
وباتت حقائب القادمين من السفر لزيارة أهلهم أشبه بصيدليات متنقّلة، مليئة بالأدوية وحليب الأطفال وغيرها من الحاجات الأساسية.
لا تزال الطبقة السياسية غير قادرة على تشكيل حكومة، وتتخاصم حول منح الوزارات.
تُضاف إلى هذا الإضرابات المتواصلة التي ينفّذها الموظفون، اعتراضًا على خسارة أكثر من 95% من قدرتهم الشرائية، بعد أن لامسَ سعر صرف الدولار بالسوق السوداء الـ 22 ألف ليرة لبنانية، حيث على مدى العام الماضي تراجعت قيمة الليرة اللبنانية بمقدار 15 ضعفًا، ما جعل الحصول على الأغذية الأساسية أمرًا صعب المنال للكثيرين.
وبالتوازي مع ذلك، تصطف طوابير السيارات أمام محطات الوقود، للتزود به وسط تقنين حاد جدًّا في المادة.
وعلى مدى العام الفائت انهار احتياط البنك المركزي، ووصل إلى ما دون المتطلبات المفروضة، ما يعني قرب نهاية الإعانات التي تهدف إلى حماية الطبقة الوسطى في البلاد، ورغم كل هذا لا تزال الطبقة السياسية غير قادرة على تشكيل حكومة، وتتخاصم حول منح الوزارات كجوائز لتعزيز مدى إقطاعيتها.
ارتفاع منسوب الهجرة
يناشد الصليب الأحمر اللبناني والاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر المجتمع الدولي للتضامن مع الشعب اللبناني، الذي يعاني من أزمات إنسانية متعدِّدة.
أصبح الناس أكثر فقرًا ومرضًا، وبحاجة ماسّة إلى الدعم الإنساني لتغطية احتياجاتهم الأساسية، مثل الغذاء والرعاية الصحية، وحاليًّا تقدِّر الأمم المتحدة أن أكثر من مليون لبناني يحتاجون إلى مساعدة إغاثية لتغطية احتياجاتهم الأساسية، بما في ذلك الوصول إلى الطعام والصحة والتعليم والمياه.
وبسبب الوضع الإنساني المأسوي الكارثي الذي يشهده لبنان، انضمَّ مؤخّرًا اللبنانيون إلى سباق الهجرة، وبات حلم اللجوء إلى الخارج يراود صغيرهم وكبيرهم.
عائلات لبنانية اليوم تبيع جميع ممتلكاتها من سيارات وبيوت وعقارات، رغبةً في الهروب من الحالة التي وصل إليها البلد، وأثناء ذلك تعرّض الكثير منهم إلى حالات احتيال وسرقة واستغلال.
فركبوا قوارب البحر نحو أوروبا، ناهيك عن هجمة كبيرة نحو تركيا، بحثًا عن عيشة فيها أدنى مستلزمات العيش الكريم، خاصة بعد أن يأسوا من وضع لبنان الذي تدهور أكثر بعد الانفجار.
صحيح أنه لم يهدأ غضب اللبنانيين، لكنهم أيضًا يبدون متعبين، فالدعوات إلى الاحتجاج في الشارع لم تعد تجمع كثيرين، كما حصل في تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول 2019 ضد الطبقة الحاكمة، التي عُلِّقت عليها آمال كبيرة لم تتحقّق، وباتت الاحتجاجات محدودة وغالبًا ما تشهد قطع طرقات وأعمال شغب.
أشخاص كثر أصبحوا بلا مأوى، كل ما يحلمون به اليوم وطنًا بديلًا ومستقبلًا أفضل لأولادهم، بعد أن عجز لبنان عن تأمين أبسط سُبل العيش.
ودفعت الأزمة الاقتصادية المتسارِعة الآلاف إلى الهجرة، بعدما خسر الكثير وظائفهم أو جزءًا من مدخولهم بعدما فقدت الليرة نحو 80% من قيمتها، وتوقّفت المصارف منذ أشهر عن تزويد زبائنها بالدولار حتى من ودائعهم.
أرقام مخيفة سجّلتها السفارات لطلبات الهجرة من لبنانيين، أبرزهم أطباء ومتعلّمين وحتى عمّال، وما زال العدد بارتفاع ومن لا يملك ثمن الهجرة من الطبقة البسيطة اختار طريق الهجرة غير الشرعية.
بعد مرور عام على مأساة المرفأ، تتعمّق المشقّة ويتزايد الإحباط، فنرى اليوم مشاهد غريبة مثل عائلات تفترش الشوارع والحدائق، ومظاهر التسوُّل في كل مكان، وشجارات على محطات الوقود ومحلات الأغذية.
أشخاص كثر أصبحوا بلا مأوى، كل ما يحلمون به اليوم وطنًا بديلًا ومستقبلًا أفضل لأولادهم، بعد أن عجز لبنان عن تأمين أبسط سُبل العيش.