“جه الوقت إن رغيف العيش (الخبز) أبو 5 قروش (0.0032 دولار) يزيد ثمنه، مش معقول أدي 20 رغيف بثمن سيجارة”، أثار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بهذه الكلمات الصادمة التي أدلى بها، أمس الثلاثاء 3 من أغسطس/آب، الجدل والغضب داخل الشارع المصري الذي بات يتحسس مستقبل السلعة الأهم للملايين من المواطنين البسطاء.
السيسي وخلال مؤتمر افتتاح المدينة الصناعية الغذائية “سايلو فودز”، المملوكة للقوات المسلحة، بالعاصمة القاهرة، قرر لأول مرة المساس برغيف الخبز الذي يمثل مسألة أمن قومي لجل الشعب المصري القابع تحت مطرقة محدودي ومتوسطي الدخل وخط الفقر، قائلًا “الكلام ده لازم يتوقف ونعيد تنظيمه بشكل مناسب.. رغيف العيش بيكلفنا 65 قرشًا، وهذا الأمر لازم يتوقف”.
التلويح بزيادة سعر رغيف الخبز يأتي بعد أقل من 4 أيام على زيادة أسعار البنزين، ليواصل المصري معاناته المستمرة جراء سياسة الحكومة المصرية التي تعتمد في المقام الأول على تصفير منابع الدعم المخصصة للمواطنين من أجل تسديد فاتورة الاقتراض الباهظة.
مبررات غير مقنعة
استند السيسي في قراره رفع سعر الخبز إلى مبررات واهية بعيدة تمامًا عن إقناع الشارع المصري، لافتًا إلى أنه من المستحيل أن يظل سعر الرغيف الواحد ثابتًا طيلة 30 عامًا كاملة، وأن الدولة تتكبد ما يقرب من 12 ضعف ثمن الرغيف المباع (65 قرشًا كلفته الأساسية نظير بيعه بـ5 قروش).
حاول الرئيس المصري استمالة شعبه من خلال الإشارة إلى أن الزيادة المتوقع تحصيلها من فارق سعر الخبز ستمول جزءًا من قيمة 8 مليارات جنيه ستنفق على دعم الوجبات المدرسية الجديدة للتلاميذ، التي ستتكلف نحو 7 جنيهات للوجبة الواحدة (الدولار=نحو 15.7 جنيه)، وسيدخل فيها مكون بروتيني جديد هو الألبان.
وتبرئة منه لساحة الحكومة تجنبًا لأي اعتراض محتمل من المنافذ المحتملة، الإعلامية والتشريعية، أوضح السيسي أنه سيتحمل مسؤولية هذا القرار، وليس رئيس الحكومة، كما أنه فضل إعلانه بصورة واضحة على الملأ بدلًا من تفويض الحكومة بذلك “عشان أشيل الشيلة بنفسي” على حد تعبيره.
وقد قدرت الحكومة نحو 87.2 مليار جنيه مخصصات لدعم السلع التموينية في الموازنة العامة للدولة للعام الجديد الذي انطلق في الأول من يوليو/تموز الماضي، فيما يستفيد نحو 66.7 مليون فرد من دعم رغيف الخبز داخل منظومة دعم السلع التموينية للعام الحاليّ.
الخبز.. لم يعد خطًا أحمر
في ديسمبر/كانون الثاني 2016 أكد السيسي خلال كلمة متلفزة له أن سعر رغيف الخبز لم ولن يمس رغم زيادة كلفة إنتاجه بعد قرار تعويم العملة المحلية (الجنيه)، لكن بالأمس نقض الرئيس هذا العهد ليؤكد أن استمرار الوضع على ما هو عليه لم يعد مقبولًا، رغم ترديده بين الحين والآخر بأنه “صادق قوي”.
شعار “الخبز خط أحمر” الذي رفعه المصريون على مدار عقود طويلة مضت يبدو أنه في طريقه للزوال، رغم دفاع الشعب عنه خلال الحقب الحاكمة الماضية، حتى المرة الوحيدة التي حاول فيها الرئيس المصري الراحل أنور السادات رفع سعر رغيف العيش تصدى المصريون له فيما عرف حينها بـ”انتفاضة الخبز” عام 1977، ليتراجع عن قراره بعد ساعات قليلة من اتخاذه.
التخطيط لاغتيال رغيف الخبز لم يبدأ مع تصريحات الأمس، لكنه بدأ منذ عدة أشهر، حين قررت الحكومة التلاعب بوزن الرغيف بما يحقق الهدف وهو تقليل كلفة الإنتاج مع الإبقاء عليه عددًا فقط، فما أعلنه السيسي عن زيادة في سعر الخبز جاء بعد أشهر قليلة من قرار وزارة التموين تخفيض وزن الرغيف المدعّم مرتين متتاليتين، الأولى من 130 غرامًا إلى 110 غرامات والثانية من 110 غرامات إلى 90 غرامًا، أي أن وزن الرغيف تراجع أكثر من 30% خلال تلك الفترة.
ولتعزيز هذا المخطط، كان لا بد من تقليل عدد المستفيدين من الخبز المدعم قدر الإمكان، وعليه كانت حملة التطهير التي قادها وزير التموين والتجارة الداخلية الحاليّ، علي المصليحي، في يناير/كانون الماضي حين أشار إلى الإطاحة بعشرة ملايين مستفيد من بطاقات التموين بذريعة استبعاد الأسماء المكررة وغير المستحقة للدعم، ليصل عدد المستفيدين إلى 71 مليونًا بدلًا من 81 مليونًا.
التلاعب بالأرقام
يجيد الرئيس المصري الحاليّ توظيف لغة الأرقام بما يخدم أهداف نظامه، ويبرر قراراته القاسية، مستندًا إلى جيش جرار من اللجان الإلكترونية ووسائل الإعلام بشتى أنواعها، فحين يقول السيسي أو أحد أفراد حكومته إن الدعم الإجمالي للمواد التموينية يبلغ 87 مليار جنيه (5.6 مليار دولار) منهم 53 مليار جنيه (3.4 مليار دولار) للخبز فقط، فإن الرقم ربما يكون كبيرًا منذ الوهلة الأولى ومقنعًا لشريحة كبيرة من المواطنين.
لكن حين يلاحظ أن هذا الرقم يستفيد منه قرابة 66 مليون منتفع بالبطاقات التموينية، أكثر من نصفهم تقريبًا تحت خط الفقر، أي يعتمدون في المقام الأول على الخبز كوجبة أساسية في حياتهم، فإن نصيب المواطن هنا يوميًا لن يتجاوز 3.5 جنيه يوميًا.. فهل هذا مبلغ يحتاج إلى تقليص؟
من زاوية أخرى.. لماذا يدندن أنصار الرئيس على أوتار أرقام الدعم واستهلاك المصريين وكلفة الإنتاج، دون أن يقترب أحد من قريب أو بعيد لحجم الضرائب المحصلة من الشعب وعقد مقارنات بين أرقام الدعم الحاليّة وما كانت عليه في السابق، حتى تتضح الصورة للجميع؟
أرقام الحكومة التي تضمنتها الموازنة الحاليّة تشير إلى أن إجمالي حجم الدعم لا يزيد على 105 مليارات جنيه (6.7 مليار دولار) 87 مليار منهم للسلع التموينية بما فيها الخبز و18 مليار جنيه فقط للمواد البترولية تنفيذًا لخطة الدولة لتصفير بند الدعم في الموازنة مستقبليًا التزامًا بالبرنامج الإصلاحي المقدم لصندوق النقد الدولي.
وفي المقابل يدفع الشعب المصري قرابة 965 مليار جنيه (63.4 مليار دولار) سنويًا للدولة، وهي الحصيلة المتوقعة للضرائب هذا العام بحسب تصريحات وزير المالية، مع الوضع في الاعتبار أن تلك الحصيلة تضاعفت أكثر من 3 أضعاف خلال السنوات الستة الماضية، فكانت 306 مليارات جنيه (19.7 مليار دولار) عام 2015.
وبحسبة سريعة فإن الدعم المقدم لرغيف الخبز سنويًا لا يصل إلى 5% فقط من حجم الضرائب التي يدفعها الشعب، الذي سيتحمل وحده كلفة السياسات التي تتبعها الحكومة لتنفيذ أجندتها وبرنامجها التنموي وفق رؤية الرئيس الخاصة، التي تعتمد في المقام الأول على الاقتراض الخارجي.
الشعب.. وحده من يدفع الفاتورة
أسفرت سياسة الاستدانة لتغطية المشروعات الداخلية عن ارتفاع الديون الخارجية لمصر إلى 134.8 مليار دولار بنهاية مارس/آذار الماضي مقارنة بـ46 مليار دولار حين تولى السيسي الحكم في 2014، أي بزيادة قدرها 193%، الأمر المرجح أن يتحمله المواطن العادي من خلال تقليص حجم الدعم الذي يتلقاه من جانب، وإرهاقه بوابل من الرسوم والضرائب الجزافية من جانب آخر.
في تقرير صادر عن البنك المركزي المصري هذا العام أشار إلى اعتزام البلاد سداد نحو 12.062 مليار دولار في 2021، تمثل ديونًا خارجية قصيرة الأجل، منها نحو 11.958 مليار دولار أصل الدين، بالإضافة إلى فوائد بنحو 103.76 مليون دولار.
اللافت للنظر أن الغالبية العظمى من تلك القروض التي يتحملها المواطن البسيط تذهب لخدمة حفنة قليلة من الشعب، حيث تمويل المشروعات التي تخدم كبار رجال الأعمال والطبقة العليا من المجتمع (قطار وأبراج العلمين – طرق الساحل الشمالي – قرى سياحية وفنادق.. إلخ) أو مشروعات تحقق المجد الشخصي للرئيس ونظامه (العاصمة الإدارية الجديدة)، أما البسطاء فلا نصيب لهم من تلك التورتة إلا تحمل فاتورتها فقط.
وكان نتاجًا لتلك الإستراتيجية أن ارتفع معدل الفقر في مصر ليصل إلى قرابة 30% بنهاية 2019/2020، بعد أن كان 23.55 خلال 2017/2018، وفق تصريحات رئيس مجلس الوزراء، وإن كان العديد من الخبراء يشيرون إلى أن العدد يتجاوز حاجز الـ60% أي أن هناك ما يقرب من 60 مليون مصري لا يتجاوز دخلهم الشهري 500 جنيه (30 دولارًا).
ينظر المواطن المصري لرغيف الخبز على أنه الضامن له من الجوع، فخمسة أرغفة من الممكن أن يغنوه مرحليًا عن حرج السؤال
يذكر أنه ومع تولي السيسي مسؤولية الحكم فرضت الحكومة حزمة من الإجراءات والسياسات الاقتصادية القاسية على المواطن المصري، ضرائب ورسوم وارتفاع أسعار، أدى إلى زيادة التضخم والبطالة، تزامن مع بقاء منظومة الأجور والدخول دون زيادات تتناسب ونظيراتها في السلع والخدمات والرسوم، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الفقر وتدني الأحوال المعيشية.
ومع تفشي جائحة كورونا خلال العامين الأخيرين زادت معاناة المصريين – كبقية شعوب العالم -، فقد فقد الملايين وظائفهم وباتوا على قارعة البطالة يتسولون المساعدات والمنح التي لا تسمن ولا تغني من جوع، هذا في الوقت الذي لم تستطع فيه الحكومة تقديم يد العون في ظل ما تعانيه من عجز وديون والتزامات في الداخل والخارج، خاصة بعد تراجع إيرادات قناة السويس والسياحة وغيرها من مصادر الدخل الرئيسية.
وهكذا تدفع مصر فاتورة فوضى قائمة أولوياتها غير المرتبة، فبينما لا يجد النظام حرجًا في اقتراض الملايين يوميًا لخدمة مشروعات ثانوية، تخدم فئة قليلة، يقف عاجزًا أمام الدعم المقدم للملايين من الغلابة والفقراء، في مفارقة تعمق جراح البسطاء وتزيد أوجاعهم وتجهض شعور الانتماء لديهم يومًا تلو الآخر.
ورغم كل ذلك كان ينظر المواطن المصري لرغيف الخبز على أنه الضامن له من الجوع، فخمسة أرغفة من الممكن أن يغنوه مرحليًا عن حرج السؤال، لكن يبدو أن هذا الضامن الهش الذي حافظ عليه رؤساء مصر السابقين، لم يعد بمأمن في ظل عهد السيسي الذي لا يتوانى عن تنفيذ برامجه مهما كانت تبعاتها الاجتماعية، مستندًا على الآلة العسكرية والأمنية التي تحافظ على مساحة كافية بينه وبين الغضب الشعبي.