تحيا العلاقات السعودية العمانية في الأشهر الأخيرة أجواء من التناغم والدفء لم تشهدها طيلة العقد الماضي، في ظل تسارع وتيرة التفاهمات والمراجعات التي قامت بها حكومتا البلدين لطي صفحة البرود السياسي وتعزيز سبل التعاون في شتى المجالات.
وتمثل زيارة سلطان عمان هيثم بن طارق للمملكة العربية السعودية في الـ11 من يوليو/تموز الماضي بناءً على دعوة رسمية من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، نقطة الانطلاق المرحلية التي تفصل بين بقعة البرود الدبلوماسي الضيقة إلى آفاق التنسيق والتفاهم الرحبة.
زيارة سلطان عمان تعد الأولى له خارجيًا منذ توليه السلطة في يناير/كانون الثاني 2020، وما لذلك من دلالة كبيرة على وجود رغبة ملحة في كسر حالة الجفاء مع الجار الخليجي الأكبر، فيما تعكس دعوة العاهل السعودي له رمزية سياسية تتعلق بتغيير واضح في خريطة تحالفات المملكة وتوجهاتها الخارجية.
حصر التقارب بين الرياض ومسقط في إطار رد الفعل إزاء التغريد الإماراتي المنفرد بعيدًا عن السرب السعودي، قراءة مغايرة للواقع بصورة كبيرة، فلهذا التحرك حزمة من السياقات العامة التي دفعت الطرفين إليه، في ظل المستجدات الإقليمية والدولية الراهنة والتحديات الناجمة عنها، هذا بجانب انعكاسات هذه الخطوة المتوقعة على حزمة من الملفات يسعى البلدان لتحريك المياه الراكدة فيها بأسرع وقت ممكن.
أجواء محفزة
هناك حزمة من السياقات العامة الدافعة للتقارب بين البلدين، ومن ثم يمكن القول إن هذا التحرك إنما جاء استجابةً لضرورات المرحلة الراهنة الملحة، التي استطاعت أن توفر المناخ الملائم لطي صفحة الخلاف والتمهيد لمرحلة جديدة من التفاهمات.
على رأس تلك السياقات التحول السياسي في البلدين، المشتمل على تغيرات جوهرية في بنية النظام الحاكم، شخوصًا وإستراتيجيات، حيث نهاية عصر السلطان العماني قابوس بن سعيد، الذي وافته المنية في يناير/كانون الثاني 2020، بعدما استمر حكمه ما يقارب خمسة عقود، ليتولى مكانه السلطان هيثم الذي يتبنى سياسة متجددة لرعاية المصالح الجيوستراتيجية والاقتصادية والأمنية لبلاده.
المشهد السعودي شهد تغيرات أيضًا في بنيته السياسية، فقد انتقل الحكم من الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي استمر حكمه قرابة 20 عامًا، إلى الملك سلمان بن عبد العزيز، في يناير/كانون الثاني 2015، ثم جاء التتويج بتعيين محمد بن سلمان وليًا للعهد، وما لتلك التغيرات من انعكاسات قوية على الساحة الإقليمية بصفة عامة.
ثم جاءت اتفاقية العلا الموقعة في المملكة، يناير/كانون الثاني الماضي، التي أنهت أكثر من 3 سنوات من الخلاف الخليجي الخليجي، في أعقاب أزمة المقاطعة الدبلوماسية لقطر من السعودية والإمارات والبحرين ومعهم مصر، لتبدأ المملكة صفحة جديدة لترميم البيت الخليجي المتشقق، الذي لا يمكن أن يتم دون انخراط الجميع في عملية الترميم، من بينهم السلطنة.
السجال الدائر داخل تحالف “أوبك بلس” لا سيما بين السعودية والإمارات بسبب نسبة الزيادة غير المشروطة لإنتاج النفط، كان حاضرًا بقوة في خريطة السياقات العامة للتقارب بين الرياض وأعضاء التحالف، ورغم الإنهاء النظري لهذا الخلاف بالاتفاق على آلية جديدة للتسعير داخل المنظمة، فإن الجانب السعودي حرص على تعزيز ثقله الاقتصادي داخل هذا الكيان من خلال إظهار إمكاناته الدبلوماسية القادرة على حشد الدعم الكافي لتوجهات المملكة الاقتصادية والسياسية وغيرها.
كما كان لتغير موازين القوى والمستجدات الإقليمية والدولية التي شهدها العالم دورًا كبيرًا في الدفع نحو التقارب لمواجهة التحديات الناجمة عن تلك التغيرات، لا سيما توسيع روسيا والصين لنفوذهما في المنطقة، في ظل تراجع الدور الأمريكي (الحليف الأبرز للسعودية) والأجندات المشتركة مع طهران، بما يهدد مصالح السعودية تحديدًا، الأمر الذي يجدها مضطرة لتكشيل تحالف إقليمي قادر على التصدي لهذا النفوذ الممتد.
وعلى الجانب العماني فإن الأزمة الاقتصادية التي تحياها السلطنة التي تفاقمت مع جائحة كورونا، الأمر الذي أشعل فتيل الاحتجاجات الشعبية داخل البلاد مرة أخرى، كانت دافعًا قويًا للسلطات العمانية الحاكمة للبحث عن كل السبل الممكنة لتبريد تلك الأزمات من خلال شراكات اقتصادية قوية وسريعة، ولعل مسقط وجدت في الرياض المنقذ لها إزاء تلك الأوضاع المتفاقمة.
ضرورة ملحة
استثمار بواعث التقارب وتسخين أجواء البرودة التي خيمت على العلاقات بين البلدين لسنوات من المرجح أن يدفع بهما إلى مسارات عدة للتعاون، البداية مع البعد الاقتصادي، فكما تمت الإشارة سالفًا فإن العمانيين يعولون كثيرًا على السعودية لإنقاذهم من واقعهم المعيشي المتدني.
وفي المقابل تبحث المملكة عن شراكة اقتصادية متكاملة مع السلطنة تعيد من خلالها نفوذها المتراجع خلال السنوات الماضية لصالح طهران، ومن ثم رحب العمانيون بالفرص المتاحة لجذب المزيد من الاستثمارات من السعودية وتعزيز التجارة الثنائية.
ولعل الموقع الجيوسياسي الإستراتيجي الذي تتمتع به مسقط أسال لعاب المستثمرين في المملكة، ومن ثم فمن المتوقع أن تشهد الأجواء خلال المرحلة المقبلة تنمية قطاعات الخدمات اللوجستية والموانئ والبنية التحتية في السلطنة، وهو ما بدت إرهاصاته الأولى خلال زيارة بن طارق التاريخية لمدينة نيوم السعودية.
يذكر أنه خلال تلك الزيارة وقع البلدان العديد من اتفاقيات النقل والثقافة والتجارة، كما أعطيت إشارة البدء بفتح البلدين طريق بري بطول 500 ميل يربط “عبري” في عُمان والأحساء في السعودية، ويتيح اتصالًا أكبر بين البلدين يمكن أن يؤدي إلى مستويات أعلى من التجارة السعودية العمانية.
ومن البعد الاقتصادي إلى السياسي، وضع مسؤولو البلدين حجر إنشاء مجلس التنسيق السعودي العماني، كخطوة محورية لخدمة العلاقات الثنائية من خلال رؤى مشتركة، ويهدف هذا المجلس إلى رفع مستوى التكامل بين مسقط والرياض في المجالات السياسية والأمنية والعسكرية وغيرها.
ويعد هذا المجلس هو الرابع الذي تدشنه السعودية مع دول الخليج، بعد مجلس التنسيق السعودي الإماراتي (2016)، ومجلس التنسيق السعودي الكويتي (2018)، ومجلس التنسيق السعودي البحريني (2019)، ما يعني دخول عمان بقوة تحت مجهر الاهتمام السياسي الرسمي بالمملكة.
هناك بعد أمني آخر يفرض نفسه كأحد مسارات التعاون المشترك بين البلدين الذي يربط بينهما حدود واسعة مع اليمن الغارقة في مستنقع الحروب الأهلية والأزمات المسلحة وهو ما يدفع حكومتي السعودية وعمان، للتعاون الأمني لمواجهة تهريب السلاح والمخدرات وفرض حالة الاستقرار التي تهددها تلك الأجواء الساخنة.
اليمن وإيران في المقدمة
من المتوقع أن ينعكس التقارب بين البلدين على العديد من الملفات المشتركة، أبرزها الحرب في اليمن، إذ تسعى الرياض للخروج من هذا المأزق بأسرع وقت ممكن بعد الخسائر التي تكبدتها خلال السنوات الستة الماضية منذ أول هجوم لقوات التحالف ضد الحوثيين في منتصف مارس/آذار 2015.
السعودية تحاول عبر السلطنة بناء جسر دبلوماسي مع الحوثيين للتوصل إلى حلول مرضية لإنهاء الحرب بشكل يحفظ ماء الوجه لكل الأطراف، خاصة في ظل المستجدات والتحديات الراهنة التي دفعت المملكة لإعادة النظر في توجهاتها الخارجية حيال الكثير من الملفات وعلى رأسها اليمن، على خلفية الانتقادات التي تتعرض لها عالميًا بسبب الانتهاكات الممارسة هناك بحق المدنيين.
وبعد العزف المنفرد للإمارات والانتصار للمصالح الشخصية والأجندات الخاصة لأبناء زايد على حساب أهداف قوات التحالف بقيادة السعودية، توصلت الأخيرة إلى أن السلطنة هي الدولة الخليجية الوحيدة القادرة على أداء دور الوساطة في هذا الملف لما تشهده من علاقات جيدة مع إيران، الحاضنة السياسية والعسكرية للحوثيين.
وهذا ينقلنا سريعًا إلى ملف التفاوض مع إيران، فتشهد أجواء العلاقات بين البلدين بعض المقاربات والمحاولات بين الحين والآخر لتخفيف حدة التوتر بينهما، فالتصريحات الصادرة عن الرياض ومسقط تؤكد ميل حكومتي العاهل والمرشد للجلوس على مائدة الحوار الذي تفرضه التحديات الأخيرة.
وفي ظل موجات المد والجزر التي تحياها العلاقات السعودية الإيرانية ربما تكون عُمان الخيط الرفيع الذي يمكنه لعب دور الوساطة بين الخصمين، كما يمكنه كذلك استغلال علاقاته الطيبة مع طهران لتقديم ضمانات طمأنة للمملكة بشأن الخطر الإيراني وتهديد النفوذ في المنطقة.
من المبكر تقييم مدى نجاح مساعي التقارب بين السعودية وعُمان، التي لا تزال في طور جس النبض والنوايا الطيبة، ورغم وضوح الرسائل المراد توصيلها والأدوار المستهدف القيام بها والأهداف المحددة سلفًا من خلال تلك الخطوة، فإن الاختبار الحقيقي لها لم يتم بعد، اللهم إلا البعد الاقتصادي فقط، فيما يتبقى الملفان الأمني والسياسي قيد التقييم والاختبار وهو ما ستكشفه الأيام القادمة.