أول أمس الثلاثاء، خرج السيسي، أمام حاشيته، خلال افتتاح ما وصفته البيانات الرسمية بأنها مدينة للصناعات الغذائية (سايلو)، يزفُّ بشرى جديدة من بشائره للشعب المصري، والبُشرى هذه أتت ليس كما وُصفت في القرآن -النصّ اللغوي التأسيسي لدى العرب- وخلافًا للمتداول، فقد اقترنت بأخبار سيّئة عن زيادة أسعار الخبز.
برّر السيسي هذا القرار قائلًا إنه لا يمكن الاستمرار في السياسات القديمة المتعلِّقة بالدعم، والتي إذا أُنزلت على حالة رغيف الخبز، سنجدُ أنه يحصل على الكثير من أموال الدعم، بينما لم يتغير سعره منذ عقود، حتى صار الجنيه المصري الواحد بإمكانه شراء سيجارة واحدة، مقابل 20 رغيفًا من الخبز؛ في إشارة إلى ارتفاع أسعار معظم السلع باطِّراد بسبب ربط سعرها بسعر السوق، وفرض ضرائب على معظمها، مع ثبات سعر رغيف العيش، والذي يساوي 5 قروش فقط.
أثار هذا الحديث من جانب السيسي عاصفةً من التعليقات السلبية من معظم المعلقين في الشارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، نظرًا إلى ما أشاروا إليه من ارتباط العيش بصُلب حياة المصريين، حيث تقول بعض الإحصاءات إن نحو 40% منهم تحت خط الفقر، فيما حاول أنصار الحكومة تبرير قرارات السيسي، على نحو ما هو معتاد، وذلك بالحديث عن عدة أمور، من بينها أن بعضًا من الأُسر في الريف تستخدم العيش علفًا للطيور المنزلية.
في هذه المقالة السريعة، نسعى إلى إلقاء الضوء على أهم رؤوس الأقلام (الوحدات) المرتبطة بهذا القرار، مع الإشارة إلى تقديرنا للموقف خلال الساعات القادمة، في ظلّ موجة الغضب العارمة على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي ما فتئ السيسي يؤكد على متابعته لها بحرص ودأب في كثير من المناسبات.
السيسي ليس مبارك
إحدى الرسائل التي يحرص السيسي على تمريرها للمجتمع المصري بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، أنه ليس مبارك أبدًا. ليس مبارك الضعيف الذين نجحوا في إسقاطه، ليس مبارك العجوز الذي كان يغفل عن كثير من الأمور المهمة في الدولة، فضلًا عن دقائق الأمور، ليس مبارك الذي ترك الدولة ضعيفةً في مهبّ الريح، من أجل إرضاء المواطن.
تحدّث السيسي عن هذا المعنى صراحة بأوجُهه المختلفة بأكثر من صيغة، فحذّرَ معارضيه من الاعتقاد بأن ما حدث ضدّ مبارك قبل عدة أعوام يمكن تكراره ضده مجدّدًا، وصار ركوبه الدراجة أمام عناصر الجيش والحكومة مظهرًا متكرِّرًا، في رمزية لقدرته الصحية رغم اقترابه من سنّ الـ 70، وهو ما كان يفتقد إليه مبارك وكل جيل حكّام الربيع العربي العجائز، بن علي وبوتفليقة وعمر البشير والقذافي وصالح.
كما يحرص دائمًا على استظهار معلوماته عن أدقّ تفاصيل الحكم، وكثيرًا ما يتعمّد الظهور المتكرر لمتابعة بعض الأعمال خلال ساعات قليلة من عودته من إحدى الزيارات الخارجية، حتى يقول للناس: أنا لستُ مبارك.
غير أنّ أحد أوجُه الاختلاف بين السيسي ومبارك، والتي يحرص السيسي دائمًا على الإشارة إليها، أنه بخلاف السادات أيضًا، لا يستحي من مواجهة المواطن بالقرارات الصعبة، وذلك من أجل تفضيله المصلحة العامة على الحفاظ على شعبيته رئيسًا محبوبًا من المواطنين.
إذ كان يُؤخَذ على الحكّام السابقين، على حد زعم السيسي، أنهم يفضِّلون المصلحة العاجلة المتعلقة بتلافي غضب الجماهير، ولو كان ذلك سيؤثر تراكميًّا على مستقبل الدولة وقدرتها على تقديم الخدمات للمواطنين.
رؤية السيسي الاقتصادية هي أن وظيفة الدولة تقديم خدمة معقولة من حيث الجودة والكفاءة للمواطن، في مقابل أن يدفع المواطن ثمنها كاملًا غير مدعومة، “واللي معاهوش ميلزموش” (من لا يملك المال، لا يحصل على الخدمة) بحسب قوله.
لم يُخفِ السيسي ذلك عن المصريين ولم يبشّرهم بالمنّ والسلوى؛ ففي تسريب صوتي سابق له في حوار مع ياسر رزق، الرئيس السابق لمؤسسة “أخبار اليوم” الصحافية، قال السيسي عن نفسه: “أنا عذاب”، في إشارة إلى الإجراءات الصعبة التي ينوي اتخاذها اقتصاديًّا عند وصوله للحكم.
أيضًا إبّان حمله حقيبة الدفاع قال إنه لو يستطيع أن يجعل طرفَي المكالمات الهاتفية، المتّصِل والمستقبِل، كليهما يدفعان، فإنه لن يتردد في فعل ذلك، وفي حواره الأول مع الإعلام مرشّحًا للرئاسة تحدّث عن تقسيم رغيف العيش 4 أجزاء، وبالفعل يمضي السيسي في طريقه نحو إكمال هذه الإجراءات التي تحدّث عنها في السابق.
الاتصال غير الفعّال
يحاول السيسي تطوير اتصاله بالمواطنين في ضوء ما تسمح به التدابير الأمنية؛ إذ صار معلومًا للمصريين أن هناك زيارة أسبوعية، كل جمعة، من السيسي لأحد المشاريع الإنشائية الكبرى في البلاد، والتي سيلتقي السيسي خلالها عددًا من المواطنين “بالصدفة” في الشارع كي يسألهم عن أحوالهم المعيشية.
كما أن هناك مكالمة هاتفية من الحين للآخر مع برنامج “الحكاية” الذي يقدمه عمرو أديب، ومن الوارد أن يكون هناك زيارةٌ ميدانية مرتّبة جيّدًا للسيسي في مكان شعبي على غرار زيارته إلى عزبة الهجانة، أو لقاء “على الواقف” مع الصحفيين خلال افتتاح أحد المشاريع المهمة.
غير أنه ومع ذلك، يظلُّ نمط اتصال السيسي بالجماهير في مصر “اتصالًا غير فعّال” كما تقول أساسيات علوم الاتصال؛ فمعظم اتصال السيسي بالجماهير، في القرارات المهمة، تتمّ من خلال “ميكروفون” يمسك به السيسي وحده، وفي ظهره كلّ قيادات الدولة، وليسوا أمامه، دون مشاركة منهم، أو من أي أحد آخر غيرهم. عرضُ الرجل الواحد (One man show) كما يقول الأجانب.
يذكّرنا هذا النمط من الاتصال بالطريقة نفسها التي أعلن السيسي بها عن قرارات نوعية سابقة، جميعها تأتي في سلسلة واحدة، مثل قرار منع البناء في المحافظات الكبرى مدة 6 أشهر، والذي أضرَّ بالكثير من “الغلابة” وعمال المياومة الذين يكسبون قوت اليوم باليوم، وقرار فرض غرامات على سكان البيوت التي اعتبر النظام أنها مخالفة للمعايير الهندسية، في سبتمبر/ أيلول الماضي.
أعلن السيسي هذه القرارات على الهواء، معتمدًا على زجر المواطنين وتخويفهم، كل مرة بحجّة معيّنة، فاتّهمَهم عند القرار الأول بأنهم “أعدى أعاديها”، متجاهلًا غياب الدولة عن تنظيم حركة البناء في الأعوام السابقة، وهدد في القرار الثاني بنزول الجيش “لإبادة” كل ما يعترض طريقه من مخالفات في القرى والنجوع.
وقد سخر خلال إعلانه قرار رفع سعر رغيف العيش ممّن يطالبونه برعاية الفقراء، متّهمًا إياهم بعدم المسؤولية، قائلًا: “لا هقرب من رغيف العيش”، متجاهلًا أيضًا فرض أي إجراءات تقشّفية موازية على الرئاسة أو الحكومة.
تأتي هذه القرارات بعد عدة أعوام من اتخاذ قرارَين تسبّبا في مشكلات اجتماعية كبيرة للمواطن المصري؛ القرار الأول، كان قرار إلغاء الدعم الذي تقدمه الدولة لقطاع المحروقات وخدمات المرافق العامة تدريجيًّا، والقرار الثاني تحرير سعر الجنيه؛ بالإضافة إلى فرض ضرائب باهظة على كثير من الخدمات الإدارية والمتطلَّبات اليومية للمواطن، على غرار ضريبة “القيمة المضافة”.
الدولة المعسكر
يؤمن السيسي أن دوره مطلقٌ في تنظيم حياة الناس والمجتمع. نصف إله، كما يقول منظِّرو السياسة بشيء من المجاز على وصف هذه الطريقة من الحكم، أو نوعٌ من الأبوة السلبية، كما يقول علماء نفس التربية، وهو ذلك النوع من “الأُبوة” التي يرى خلالها ربّ الأسرة أنه من حقه وواجبه ضبط كل تفاصيل حياة الرعية، ولو بشكل ضارّ.
من ضمن التفاصيل التي تحدث عنها السيسي، كاشفةً لهذا المسعى، حديثه عن قناعته بضرورة تدخله في تنظيم تديُّن الناس في المجال العام، وهو ذلك الحديث الذي سوّغ السيسي من خلاله لنفسه التحكم في المساجد، وأموال الأوقاف، وفُهم منه، قبل ذلك، وجود توتر بينه وبين شيخ الأزهر أحمد الطيب، باعتبار أن للأخير بعضًا من الآراء والصلاحيات المستقلة، بشكل لا يُرضي السيسي، وذلك حتى قبل أن تحدث المشاحنات بينهم على رغبة السيسي في تكفير خصومه، والتدخل في قضايا فقهية مثل الطلاق.
غير أن من أبرز المجالات التي يعتقد السيسي أن من حقه أن يتدخل فيها رأسًا، هي صحّة المواطنين، إذ تحدّث في عدة مناسبات عن ضرورة أن يولي أصحاب العمل أهمية لمتابعة أوزان الموظفين، وأن يولي رب الأسرة أهمية لمتابعة أوزان أبنائه، كما حذّر أبناء الجيش من التخاذل في الحفاظ على صحّتهم.
لا شكّ أنّ الحفاظ على الصحة العامة مسعى محمود ومطلوب بشدة؛ ولكنه يقترن في مصر بكثير من سياسات “الضبط”، والتي بدأ النظام في اتخاذها بعد استتباب أوضاعه ضمن ما أسماه من قبل خطة “تثبيت أركان الدولة”، عقب اضطرابات ما بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011.
تشمل هذه الخطة المتقدمة في الضبط، الإمعانَ في عسكرة القطاعات الحيوية، رأسيًّا وأفقيًّا، والتحكم في مفاصل العمران تمامًا، وصولًا إلى التحكم في الأجساد، إذ يقول السيسي إن رفع أسعار الخبز ستذهب عوائدهُ إلى مبادرات غذائية لضبط صحة الطلاب في المدارس.
وكان رجالٌ مقرّبون من السيسي، مثل ياسر رزق، تحدّثوا صراحةً عن ضرورة التحكم في النَّشء (فكريًّا)، بحيث تصبح “ثورة 30 يونيو” وقِيَمها، كمحاربة الإسلام السياسيّ وتمجيد حكم الرئيس العسكري الذي يحكم مُدَدًا مفتوحة، قِيَمًا تُلقّن إلى الأجيال الجديدة في المدارس، وهو ما يعيدنا إلى المقاربات الفكرية التي كتب عنها غربيون بخصوص المدرسة/ المعسكر، من حيث الاستيقاظ صباحًا، وتحية العلم، والتلقين والطاعة العمياء، وصولًا إلى عسكرة الجسد.
السياسات العامة في مصر
يولي السيسي أهميةً مطلقة لتوجيه أموال الدولة إلى مشاريع الاقتصاد السياسي، بمعنى أنه يوجّه الأموال العامة إلى تلك المشاريع التي تدرُّ دخلًا سريعًا عاجلًا، وتوظِّف أكبر قدر ممكن من العاطلين في مهن غير مستدامة، وتظهر نتائجها سريعًا في صورة بنايات عملاقة، في الطرق والإسكان.
ومن ضمن ما يستهدفهُ السيسي من هذه الصيغة، أن تذهب الأموال العامة التي تحصل عليها الدولة من القروض إلى تلك المشاريع، بحيث ترتبط مصالح الدول الكبرى بقطاعاتٍ معيّنة ومناطق محدَّدة في البلاد، فللصين وروسيا إقليم قناة السويس، ولقطاع الأسلحة الدول الأوروبية الكبرى مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا، ولقطاع النفط الولايات المتحدة، إضافة إلى إسناد تنفيذ كثير من هذه المشاريع للجيش بحيث يظلّ الجيش جزءًا من خطط السيسي، متورِّطًا معه، مستفيدًا من امتيازاته.
غير أن أكثر القطاعات المهمَلة في استراتيجية السيسي، هما قطاعا التعليم والصحة؛ ففي التعليم في مصر، رغم الثورة الإنشائية في البلاد، هناك عجزٌ كبير في عدد المدارس، وفي الصحة هناك عجزٌ ضخم في عدد الأطباء، بسبب رفض النظام توجيه بعض المخصصات المالية للأطباء الذين يلجأون إلى الهجرة، وترك المباني الفارهة التي يبنيها السيسي بلا كوادر بشرية.
في التوقيت نفسه، يركّز السيسي على نمط معيّن من الرعاية الصحية، والذي تحوم الشبهات على علاقته بتجميع البيانات عن صحة المصريين، ضمن مساعي النظام لتجميع بيانات دقيقة محدَّثة.
عن كلّ شاردة وواردة في المجتمع
البيانات ضروريّةٌ لأي نظام يسعى إلى تقديم خدمات جيدة لمواطنيه، لكنَّ ما يثير الريبة أن نظام السيسي لا يهتم بصحة المواطنين أصلًا، فبعيدًا عمّا يجري من فوضى عامة منذ جائحة “كورونا” في القطاع الصحيّ، فليس هناك أيّ زيادات نوعية في الموارد الموجّهة لهذا القطاع.
بدلًا من ذلك يركّز السيسي على ما يسميه “المبادرات الصحية” للكشف عن المواطنين، لمعرفة أعداد المصابين بالأمراض، وعمل إحصاءات عنهم، لا يُعرَف إلى الآن الغرض الحقيقي من ورائها، على نحو ما أطلق السيسي مبادرات لتجميع بلازما المصريين، وفحصهم جينيًّا، ومبادرات موجّهة إلى فئات معيّنة، جنسانية أو عمرية، كالنساء والأطفال.
ما أثار الريبة أكثر، قبل مبادرة السيسي الأخيرة لتحسين الوجبات المقدمة لتلاميذ المدارس، بشكل يجعلها أقرب إلى نمط حياة المعسكرات (ميز “مطعم” الضباط)، حيال مبادراته المتعلقة بالصحة العامة، تلك التقارير التي تحدثت عن وقائع إجراء اختبارات سريرية على المواطنين، دون معرفتهم، تحت إشراف جهات نافذة في النظام، وهو أمرٌ، على أهميته، له ضوابط أخلاقية، لا يبدو من نمط السرّية المحيط بها أن نظام السيسي يلتزم بها.
الأيام القادمة
يقول السيسي، أيضًا، إنه من الواجب أن ينخرط المصريون في خطة الدولة في السياسات الصحية العامة بشكل أوسع، ومن ذلك ضرورة تحديد النسل، إذ يرى أنه من غير المعقول أن يزيد عدد المواطنين 20 مليون نسمة في 10 سنوات فقط، محذِّرًا من كثير من سياسات الدولة التنموية، سواء في الحفاظ على الأسعار أو تحسين حياة المواطنين، إذا استمرت الزيادة بهذه الوتيرة.
يبرّر السيسي أيضًا ويتساءل مستنكرًا: بأيّ حقّ يعترض المواطن على رفع أسعار السلع عامة، والخبز خاصة، فيما تقوم الدولة، من أجله، بمشاريع لم يسبق لها مثيل، مثل تطوير الريف المصري الذي يكلِّف أكثر من 800 مليار جنيه؟
ولكنَّ السؤال الذي يتجاهله السيسي عمدًا على الدوام، هو، مع الإقرار بأهمية مشاريع بذلك الحجم، من هذا الذي أعطاه صلاحية التصرف وحيدًا، واختراع هذه الأوجُه من الإنفاق، في ظلّ تحكُّمه الكامل، بالقوة، في كلّ السلطات، تشريعيًّا وقضائيًّا، عبر انتخابات مشكوك في نزاهتها، وتمويلات غير مرصودة من الخارج، وآلة إعلامية تعملُ تحت أمرته، وآلة عسكرية تقصي كل من يخالفه؟
هذه الزيادة المرتقبة في أسعار الخبز، والتي يقول السيسي إنها ستكون في منطقة وسط بين سعره الحالي البالغ 5 قروش وسعر التكلفة البالغ 65 قرشًا لن تكون الزيادة الأولى، بعد التحايُل قبل أشهر على الدعم الموجّه للخبز، عن طريق تخفيض وزنه السابق بنحو 35 غرامًا.
لا يحبّ السيسي أبدًا الرضوخ لضغوط المواطنين، ولن يعدل بحال عن تلك السياسات الجبائية التي يؤمن بضرورتها من أجل تدعيم قدرة الدولة، ولو على مصلحة المواطن؛ ولكنه بدأ، في الساعات الأخيرة، عبر آلته الإعلامية، توجيه بالون اختبار باحتمال تعليق هذا القرار مؤقّتًا، وهي صيغة متكرِّرة في طريقة إدارته لشؤون البلاد (التراجُع نسبيًّا أمام الطوفان دون العدول عن جوهر القرارات)، فهل سيفعلها السيسي أيضًا هذه المرة، أم سيمضي في خطط سحق المواطن الغلبان بلا هوادة؟