بالبحث عن أدوار الأجهزة التي تسمى “بالسيادية” في دول العالم الثالث، لا تكاد تدري ما الحقيقي وما المزيف من دورها، وما التهويل وما التهوين في شأنها في ظل انعدام أي نوع من درجات الشفافية أثناء التعامل معها، فتجد أن هذا النقد يتم الرد عليه بدعاوى “حماية الأمن القومي” دون إبراز معلومات كافية عن كيف يتم ذلك؟ أو كم يكلف الدولة هذا؟ أو من يحاسب الأجهزة السيادية في حالة الخطأ؟
بالطبع هناك تشريعات تنظم ذلك على الورق، لكن ما يحدث في جهاز المخابرات المصري ينفي الالتزام بذلك بأي حال من الأحوال، فقد صرح وكيل سابق بجهاز المخابرات المصرية يدعي “ثروت جودة” في حديث لجريدة مصرية موالية للسلطة عن حديثه مع اللواء “محمد رأفت شحاتة” مدير المخابرات المصرية في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، حيث قال “إنه تحدث إلى اللواء شحاته في أمر نسيان القسم الذي أقسمه أمام رئيس الجمهورية”، كما صرح أن المخابرات لم تعط “مرسي” أي معلومة صحيحة طوال فترة حكمه؛ الأمر الذي أزعج جهات “سيادية” بالدولة من هذه التصريحات خصوصًا وأنها تظهر تواطؤًا من جهاز المخابرات العامة على الرئيس السابق وهذا ما يتفق مع رواية أنصاره.
أسرعت جهات في المخابرات العامة بتقديم بلاغات ضد الوكيل السابق في الجهاز أمام النيابة العسكرية متهمةً إياه بإفشاء أسرار للجهاز تضر بالأمن القومي المصري وهو بالتأكيد شيء مثير للتعجب، إذ اتضح أن الرجل خرج من الخدمة في العام 2009 كوكيل لجهاز المخابرات أي أثناء حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، فكيف له أن يعرف بمعلومات مثل هذه “تضر الأمن القومي” حسب تعبير البلاغات المقدمة ضده؟! وإذا كانت هذه المعلومات صحيحة بالفعل فكيف لرجل خارج الخدمة أن يعرفها؟! والمثير للتساؤل أيضًا من هو المسئول عن محاسبة الجهاز إذا أعطى معلومات مضللة لرئيس الجمهورية؟!
بالطبع سارعت الماكينة الإعلامية في الدولة بنفي تلك المعلومات، بل وسارع الرجل نفسه بإصدار بيان يحمّل الجريدة مسئولية فبركة جزء من تصريحاته؛ مما اضطر الجريدة أن تهدد بنشر تسجيل صوتي للمقابلة.
تصريح كهذا كلف الرجل بعد ذلك محاكمة عسكرية تم الحكم عليه فيها بسنة سجن بدأ في تنفيذها بالفعل في أحد السجون العسكرية حسب الوكالة الرسمية للدولة – وكالة أنباء الشرق الأوسط -.
فيما ظهر مدير المخابرات العامة السابق اللواء “محمد رأفت شحاته” بعد اختفائه تمامًا عقب إزاحته من الجهاز بعد أحداث 30 يونيو وانقلاب 3 يوليو بعدما ترددت شائعات في أوساط عدة عن تأييد الرجل للرئيس المعزول محمد مرسي، فظهر ليبرئ نفسه تمامًا من تهمة تضليل الرئيس السابق في حوار أجراه مع جريدة مصرية دون أن يبرز أي معلومات عن أسباب حديث اللواء ثروت جودة بمثل هذه المعلومات المغلوطة، على حد تعبيره.
هذا الموقف يبرز حالة انعدام الشفافية والتخبط لدى أكبر الأجهزة الأمنية في مصر.
وفي لمحة تاريخية عن نشأة هذا الجهاز حين تأسس في العام 1954 بتكليف من الرئيس الراحل “جمال عبد الناصر” على يد عضو مجلس قيادة الثورة “زكريا محي الدين” والذي أنشأ الجهاز فعليًا ثم خلفه في رئاسته “علي صبري” ثم “صلاح نصر” والذي شهد الجهاز في عهده انحرافات عدة وصدر بحق قيادته عدة أحكام قضائية بالسجن عقب نكسة يونيو عام 1967 ثم أفرج عنه في عهد الرئيس السادات.
كانت من أبرز القضايا التي حوكم بها أحد أعضاء هذا الجهاز في مصر وهو أحد رموز الحزب الوطني المنحل “صفوت الشريف”، حيث حكم عليه بالسجن لاستغلال نفوذ الجهاز في أعمال غير مشروعة لابتزاز رموز سياسية، ولكن ضابط المخابرات السابق خرج بعد القضية ليجد مركزًا في الحزب الوطني الذي أسسه السادات ليظل في دائرة السلطة حتى قيام ثورة يناير ودخوله السجن مرة أخرى في قضايا الفساد واستغلال النفوذ.
أما عن النشاط الاقتصادي لجهاز المخابرات فمن المعروف أن جهاز المخابرات له عدة أنشطة اقتصادية – بحسب تقارير غربية – منذ إنشائه في الخمسنيات وأبرزها شركة النصر التي أُنشئت في عهد “صلاح نصر” بالاشتراك بين الرئاسة والجيش وحتى الآن لا يزال دور المخابرات العامة في الأنشطة الاقتصادية خارج رقابة الدولة كحال العديد من الأنشطة الاقتصادية الخاصة بالجيش التي تخرج عن رقابة أجهزة الدولة، وفي الوقت الحاضر ظهرت مهمة اقتصادية جديدة دخل فيها جهاز المخابرات العامة المصرية بالتعاون مع وزارة الإنتاج الحربي وهي إنشاء ملاعب خماسية لوزارة الشباب حسب تصريح وزير الشباب في وسائل الإعلام والذي أشاد بأداء هاتين الجهتين خلال تنفيذ الملاعب مما يوحي بأن للمخابرات العامة باعًا في تنفيذ الملاعب الرياضية وهو ما يصعب ربطه بشكل مباشر بمهام المخابرات.
أما عن الأنشطة الاستخبارية للجهاز فلا يُعلم حقيقتها ومدى صدق المروي عنها حيث إنه لا يسمح بالحديث عنها ولا عن تاريخها بدعاوى الأمن القومي والأسرار العسكرية، فالجهاز هو مصدر المعلومات الوحيد والذي قام بإخراج بعض المعلومات عن بعض المتعاونين معه لتصبح بروباجاندا دعائيه للجهاز من خلال مسلسلات “درامية” بعيدة كل البعد عن حقيقة هذه العمليات التاريخية وتقييمها البحثي وغيره فلا يُسمح لأي من الباحثين بالاطلاع على أوراق هذه العمليات إلا ما يفرج عنه الجهاز وفقط.
وعلى مر تاريخ الجهاز الأمني المصري الأول رأس الجهاز 17 من أبناء الجيش وهو العدد المعروف حيث لم يكن يعلن عن اسم مدير المخابرات العامة كثيرًا ولا يسمح بتدوال اسمه في وسائل الإعلام كعرف عام حتى بزغ نجم اللواء “عمر سليمان” الذي توفي في العام 2012 في ظروف غامضة، فاللواء عمر سيلمان الذي تولى مسئولية الجهاز في العام 1993 هو أحد أبرز من تولى رئاسة هذه المؤسسة الأمنية ليس فقط لثقله الداخلي بل للدور الذي كان يلعبه في المنطقة بالتعاون مع أجهزة المخابرات الإقليمية في المنطقة والعالمية بالطبع والتي من أهمها وكالة الاستخبارات الأمريكية، وتحدث تقرير أمريكي نُشر في عدة صحف غربية عن مستقبل المخابرات المصرية بعد الإطاحة بمحمد رأفت شحاته وقبلها وفاة عمر سليمان، حيث وصف التقرير عمر سليمان بالرجل المهم في سياسات الشرق الأوسط والذي كان له دور في ملفات محاربة الإرهاب في المنطقة عقب هجمات 11 سبتمبر.
كذلك كان دور سليمان في القضايا الخارجية لمصر بارزًا وأهمها قضية الحدود المصرية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي حيث زار سليمان إسرائيل أكثر من مرة وكان يجتمع بمسئولين إسرائيليين كثيرًا بالقاهرة، كما كان يعمل على ملف التفاوض مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وبالتحديد بعد أسر الجندي الإسرائيلي المفرج عنه “جلعاد شاليط”، وكذلك في الحرب التي شنتها إسرائيل على مدينة غزة في العام 2008.
ومن المعلوم أيضًا عن عمر سيلمان تبنيه لوجهة نظر الولايات المتحدة في قضايا المنطقة بل والعمل معها بشكل مباشر فزياراته للولايات المتحدة لم تنقطع طوال فترة رئاسته للجهاز، حيث نشرت جريدة “وول ستريت جورنال” قصة مفصلة عن دور الاستخبارات المصرية برئاسة اللواء عمر سيلمان في قضايا التحقيق مع المشتبه بهم عقب الحادي عشر من سبتمبر، خصوصًا وأن الرجل الثاني في تنظيم القاعدة حينذاك كان مصري الجنسية وهو “أيمن الظواهري” وأحد المطلوبين حيًا أو ميتًا لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
وقد كان لمصر دورًا قياديًا في المنطقة فيما أسمته “الولايات المتحدة” مكافحة الإرهاب، حيث اعترفت مصر في العام 2005 بمساعدة الولايات المتحدة في القبض على أكثر من 70 من الجهاديين في المنطقة وقد تم إرسالهم إلى معسكرات اعتقال بجوانتنامو والمغرب حيث تم التحقيق معهم، كذلك كان لمصر دور في أواخر التسيعنيات من القرن الماضي في قضايا الجهاديين العائدين من “ألبانيا” والعائدين من “أفغانستان” حيث تم ضبطهم بالتنسيق مع المخابرات العامة برئاسة عمر سيلمان.
فكما يبدو أن الجهاز المصري نشطًا في القضايا التي تخص الأجندة الأمريكية في المنطقة، لكن لابد من التساؤل عن القضايا التي تمس الأمن القومي المصري ومدى اهتمام الجهاز بها كأحد قضاياه المُنشأ من أجلها.
ففي قضايا الجاسوسية نشرت جريدة مصرية عدة حلقات عن أعمال جهاز المخابرات في مصر ومن ضمنها شهادات للفريق “رفعت جبريل” أحد قيادت جهاز المخابرات في السابق، حيث صرح أنه لم يتم إعدام أي جاسوس إسرائيلي في مصر وأن المخابرات العامة كانت تعيدهم إلى بلادهم في صفقات تبادل أسرى؛ مما أثار حفيظة أجهزة الأمن فقامت بمصادرة العدد الذي يحتوي على ذلك التصريح، مما يعزز فكرة أنه ليس مسموح بغير التلميع لجهاز المخابرات العامة المصرية،
حيث أفردت جريدة “النيويورك تايمز” تقريرًا عن مصادرة عدد الجريدة بسبب حديث مع أحد المسئولين في جهاز المخابرات سابقًا تحدثت فيه عن عودة قمع المؤسسات الأمنية لحرية الرأي والتعبير في مصر، فيما أعادت الجريدة طبع العدد المصادر بدون الحلقة السادسة والتي تناولت شهادات الفريق جبريل بشأن الجواسيس الإسرائيلين، هذا كله بالرغم من كون الجريدة أحد أشد الداعمين لحكم الجيش في مصر، وقد استندت الجهات السيادية التي منعت العدد من الصدور إلى بعض القوانين الصادرة في عهد المخلوع مبارك التي تلزم الصحف بالحصول على تصريحات قانونية قبل نشر أي معلومات تخص المخابرات العامة.
المخابرات العامة والثورة المصرية
وكجزء من الشأن الداخلي المصري شهدت المخابرات العامة المصرية أحداث الثورة المصرية وأدلى اللواء “عمر سيلمان” مدير المخابرات آنذاك ونائب رئيس الجمهورية فيما بعد بشهادته في محاكمة مبارك بقتل المتظاهرين وقد برأه تمامًا من كل التهم المنسوبة إليه في شهادته وأعزى قضية الثورة ككل لأمر مشاركة الجهات الخارجية في ذلك كحركة حماس وحزب الله دون تقديم دليل واحد على ذلك؛ وهو ما يدين جهاز المخابرات ويجعله محط شكوك الكثير ويؤدي لشبهة تواطؤ الجهاز مع الدولة حينذاك.
فيما تحدث نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي عن وجود شرائط فيديو مصورة بكاميرات تابعة للمخابرات العامة في المتحف المصري وفي ميدان التحرير بها جميع أحداث الميدان، ولكن المخابرات تخفيها تواطؤًا مع النظام السابق ولم تقدم المخابرات العامة دليلاً واضحًا على الرواية التي شهد بها اللواء عمر سليمان في المحكمة والتي تدينه شخصيًا إن صحت وتدين جهاز المخابرات العامة بأكمله.
وعلى الصعيد الحالي، هناك عدة قضايا تخابر بحق مسئولين سابقين في الدولة مثل الرئيس السابق “محمد مرسي” وبعض من مساعديه تثير تساؤلات عن كيفية تخابر رأس الدولة مع جهات أجنبية في ظل وجود جهاز مخابرات عامة، وكذلك كيف وصل المتهمون في هذه القضايا إلى كراسي الحكم في ظل نشاط الجهاز وهو ما يدين الجهاز أيضًا، ولكن لم توجه أي تهمة لأي من ضباط المخابرات في هذه القضايا المنظورة أمام القضاء إلى الآن، فكيف سربت وثائق ومعلومات عن الجهاز لجهات أجنبية دون علمهم – كما يرد في اتهام الرئيس السابق ومساعديه – وهو ما يعيد طرح التساؤل عن وظيفة هذا الجهاز في الدولة المصرية ومن يقوم بمحاسبته؟!
وبعد عزل الجيش للرئيس السابق “محمد مرسي” تم عزل مدير جهاز المخابرات الذي عُين من قبل الرئيس السابق واختفى عن الأنظار نهائيًا ولم يعقب إلا في القضية الأخيرة التي سبق التنويه عنها، وتم تعيين “محمد فريد التهامي” بديلاً عنه.
التهامي الذي أُقيل من هيئة الرقابة الإدارية في عهد الرئيس السابق محمد مرسي على خليفة شبهات حول تعطيله لقضايا فساد تخص نظام مبارك، وقد أعاده الجيش إلى منصب مدير المخابرات العامة عقب الانقلاب في 3 يوليو مباشرة، وقد كانت من أولى تصريحات التهامي أن العلاقة مع الولايات المتحدة على المستوى الاستخباري غير متوترة مطلقًا وأنه على اتصال دائم بمدير وكالة الاستخبارات الأمريكية للتنسيق في الجهود المختلفة وذلك في مقابلة مع أحد الصحفيين الأمريكيين، حيث شدد على أن توتر العلاقات السياسية لم يؤثر على الارتباط الأمني بالولايات المتحدة، وفي طور التساؤلات المطروحة عن طبيعة الجهاز تشهد مصر اضطرابات داخلية كثيرة دائمًا ما تعزيها ماكينة الإعلام الموالية للسلطة في مصر إلى جهات خارجية وهو ما لا تقوم بكشفه المخابرات العامة، ولا يسأل أحد عن دورها ولا طبيعة عملها ولا على فشلها في حماية الأمن القومي المصري على صحة فرضية ما يروجه الإعلام.
ويبدو أن الإعلام لا يساهم إلا في الترويج للمخابرات ودورها الغير معروف من الأساس، فقد أطلق إعلامي مصري هاشتاج تحت عنوان “#المخابرات_المصرية_رجال_لاتنام” لدعم المخابرات المصرية في وجه التساؤلات المطروحة عن الجهاز ومسئوليته وطبيعة عمله في الآونة الأخيرة، بيد أن كل من يتحدث في هذا الصدد فهو معرض للمحاكمة العسكرية.