“بعد أكثر من 25 سنة في خدمة أخبار التلفزة التونسية أعلن استقالتي من إدارة الأخبار.. بالتوفيق للجميع.. قسم الأخبار أمانة”، بهذه الكلمات المقتضبة، اختار رئيس تحرير الأخبار السابق في التلفزة الوطنية، الاستقالة من هذا القسم الحسّاس.
استقالة عماد بربورة، التي جاءت مفاجئة وغير مألوفة في طريقتها، من خلال نشرها إلى العلن على صفحته الشخصية على شبكة التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، فتحت النقاش مجدّدًا في تونس حول حرية الإعلام، ومدى استقلالية التلفزة التونسية في خطّها التحريري، بعد أكثر من 10 سنوات من ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011، وبعد إنفاق ملايين الدولارات من الداخل والخارج.
قبل 3 أيام من استقالته، أقالت عواطف الدالي المديرة العامة الجديدة للتلفزيون التونسي، عماد بربورة، من رئاسة تحرير الأخبار، لتعوّضه بصحفية أخرى هي سعيدة بن حمادي، واحدة من رموز نظام بن علي، لتصبح النشرة الرئيسية للأنباء تغطيةً للنشاط الرئاسي والمواضيع المسانِدة للرئيس التونسي قيس سعيّد بصفة أساسية.
قبل أسبوعَين من إقالة بربورة، اتّهمَ الرئيس التونسي قيس سعيّد وسائل الإعلام بالتعتيم على نشاطه، وعلى المجهودات التي يقوم بها لجلب مساعدات ولقاحات ضد كورونا، بقوله: ”في شريط الأنباء أول أمس، يتكلمون عن جلود الأضاحي قبل أن يتحدثوا عن مكالمات مع رؤساء دول شقيقة، كأن قضية الجلود أهم! على الأقل كان عليهم أن يحترموا الدول الأخرى”.
تصريح الرئيس التونسي الذي كشف عن حالة الغضب الكبيرة التي تتملّك الرئيس التونسي تجاه وسائل الإعلام، التي تقف على المسافة نفسها من مختلف الأطراف السياسية في تونس، دفعَ بربورة للردّ بقوله إن “النقد مشروع لكن التشكيك في النزاهة مرفوض”.
وأضاف بربورة في تصريح لإذاعة “شمس إف إم” أنه لا يوجد تعتيم للنشاط الرئاسي، وأنه بإمكان الرأي العام الاطِّلاع على النشرة في موقع “يوتيوب” والتحقُّق منها، لافتًا النظر إلى أن ترتيب النشرة منطقي.
لم يتأخّر الردّ العملي للرئيس التونسي كثيرًا، فبعد يومَين من تصريحه نفّذ الرجل انقلابًا، نجحَ من خلاله في إقالة رئيس الحكومة وتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، وغيرها من الإجراءات اللادستورية، التي وصفها عدد من خبراء القانون الدستوري بالانقلاب مكتمل الأركان، ونكسة في مسار الثورة التونسية.
25 يوليو/ تموز 2021، تاريخ لن يُمحى من أذهان التونسيين، ولن يُمحى من ذاكرة كل إعلامي حرّ، فمنذ ذلك التاريخ تغيّرت بوصلة الإعلام التونسي، وصارت الكلمة الحرّة والمواقف المعارضة للرئيس التونسي نشازًا، يُتّهم صاحبها بأبشع التُّهم، وتشنّ عليه حملات إلكترونية متزامنة، لثنيه عن التعبير عن آرائه بكل حرية.
مقالات دعائية ونشرة أخبار رئيسية تتابع النشاط الرئاسي دون غيره، بالتزامن مع حملات تخوين وتشكيك في وطنية كل منتقد للرئيس وقراراته الشعبوية.
بعد دقائق قليلة من إعلان الانقلاب، تحوّلت كل وسائل الإعلام التونسية تقريبًا بخلاف الحزبية منها، إلى أبواق مساندة لما قام به سعيّد، في مشهد شبيه بما حدث في انقلاب 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، بعد أن انقلب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي على الحبيب بورقيبة.
تغيُّر راديكالي في تغطية وسائل الإعلام التونسية وفي خطّها التحريري رافق الانقلاب، لتنقلب إلى أبواق داعمة لقرارات قيس سعيّد، حيث بالكاد تجد رأيًا مخالفًا لما قامَ به، بالتزامن مع شيطنة خصومه السياسيين والخبراء القانونيين الذين وصفوا ما حدث بالانقلاب، وبثّ كمٍّ كبير من الإشاعات بشكل غير مسبوق، ما شكّل صدمة بالنسبة إلى المتابعين الباحثين عن الحقيقة.
لقد نجح قيس سعيّد يوم 25 يوليو/ تموز 2021 في فضح عدة وسائل إعلام تونسية، التي كانت وما زالت تتبجّح باستقلاليتها ومهنيتها واحترامها لأخلاقيات المهنة.
فقد سقطت مؤسسات إعلامية مرموقة في الحضيض، وصارت بوق دعاية وتحريض، تستغلّه بعض الأطراف الموالية للرئيس لتمرير رسائل معيّنة، مستغلّة حالة الفرح العارمة التي تملّكت عديد الإعلاميين إثر الإعلان عن الانقلاب، بالإضافة إلى استغلال حالة الخوف التي تملّكت قسمًا آخر من الإعلاميين، على إثر إغلاق مكتب قناة “الجزيرة” صبيحة 26 يوليو/ تموز.
بعد نحو أسبوعَين من الانقلاب، لم يتغيّر شيء تقريبًا، مقالات دعائية ونشرة أخبار رئيسية تتابع النشاط الرئاسي دون غيره، بالتزامن مع حملات تخوين وتشكيك في وطنية كل منتقد للرئيس وقراراته الشعبوية، مع نشر بعض الإشاعات التي تستهدف خصومًا سياسيين دون غيرهم من هنا ومن هناك، وسط صمت مريب للهياكل المنظِّمة والمدافعة عن قطاع الإعلام في تونس خوفًا من الرئيس، وعلى رأسها الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري “الهايكا”.
غموض إذًا يلفُّ المشهد السياسي في تونس، بالتزامن مع تردٍّ غير مسبوق في المشهد الإعلامي، بشكل مشابه لما حدث في مصر إثر الانقلاب العسكري عام 2013، وسط عجز الأطراف المدافعة عن حرية الإعلام واستقلاليته عن التحرّك الفاعل والإيجابي، فاسحةً المجال للمتحكّمين في المشهد السياسي الجديد، بالتحكم في المشهد الإعلامي أيضًا.