ترجمة وتحرير نون بوست
مؤخرًا قامت إحدى صفحات فيسبوك المهتمة برفع الصور الفوتوغرافية لكل شيء قديم في مصر برفع الصورة أعلاه، وقد كتب تحت الصورة التالي: “شارع المعز لدين الله في القرن التاسع عشر، تُظهر الصورة سبيل كتاب عبد الرحمن كتخدا المبني عام 1744 للميلاد مازجًا بين الطرازين المملوكي والعثماني في العمارة”.
امتازت التعليقات على الصورة بحالة من الحنين الكئيب لتلك الأيام الجميلة عندما كانت القاهرة نظيفة ومنظمة، وأشار البعض الآخر من التعليقات إلى أن شارع المعز قد استعاد أمجاده نتيجة للترميمات الحكومية التي تكلفت قرابة الأربعة ملايين من الجنيهات.
ولكن على الرغم من كل ذلك؛ فالصورة ليست من شارع المعز ولا حتى من القاهرة من الأساس، هذه الصورة قد أُخذت في شيكاجو أثناء معرض العالم عام 1893، حيث كان الشارع المصري مزارًا خلابًا للجمهور، وحيث كانت تقبع خلف الواجهات العثمانية والمملوكية مسارح وبارات ومحال.
من الغريب أن ترى سكان القاهرة لا يستطيعون تمييز جزء يدّعون أنه مفضل لديهم من قلب المدينة القديمة، فإذا افترضنا أنهم يعرفون مدينتهم أو على الأقل قلب المدينة القديمة الشهير فمن الغريب أن ترى أنهم لم يستطيعوا حتى معرفة أن الصورة ليست في القاهرة من الأساس، بل إن ما حدث كان مذهلاً إذ بدأ المعلقون في التعرف على مبانٍ بعينها في الصورة وبدأوا في النقاش حول تواريخ بنائها ولم ينتهوا بطرزها المعمارية، هذه المعلومات المقدمة من الجمهور المجهول بدأت في رسم واقع بديل، فقد تعامل أغلب المشاهدين الذين تفاعلوا مع الصورة التي حصدت ما يزيد عن الـ 620 إعجاب و230 مشاركة، على أنها جزء حقيقي من القاهرة.
في كتابه “استعمار مصر” قدم تيموثي ميتشل رواية عن الوفد المصري إلى معرض العالم بباريس عام 1889، حيث أُعيد تمثيل عدد من شوارع القاهرة، وقد روي عن هذا الوفد انبهاره التام بمدى واقعية هذا التمثيل، لكن ما أذهل هذه الجماعة من المصريين بالفعل لم يكن المعرض في حد ذاته، فباريس كلها خارج المعرض كانت عبارة عن عرض كبير.
انتشار هذه الصورة يأخذ حكاية المصريين في معرض باريس إلى بعد جديد، فالمصريون الآن ليسوا في معرض ما (معرض يدركون أنه كذلك)، ولكنهم يجلسون إلى شاشات حواسيبهم في قلب القاهرة الحقيقية ينظرون إلى صور لقاهرة خيالية في معرض عقد في النصف الآخر من العالم منذ ما يزيد عن قرن ظانين أنها قاهرة ضائعة كانت حقيقية في وقت ما، قاهرة لم يكتب لهم أن يعيشوا بها، وغالبًا ما يتم إلقاء اللوم على إضاعة هذا الفردوس على المصريين الآخرين، على كثرة أعدادهم وأنهم لم يستطيعوا الحفاظ على هذا الجمال لكثرة نسلهم، حالة من العنصرية الداخلية تحاول فيها الذوات المكونة في سياق ما بعد استعماري الدفاع عن مجموعة من الواجهات المقلدة للقاهرة في شيكاجو عام 1893.
من القضايا المحورية هنا هو انتفاء أي نوع من المعرفة بتاريخ القاهرة العمراني، فلا توجد مؤسسة واحدة في القاهرة (حكومية كانت أو خاصة) تعني بأرشفة تاريخ المدينة وتوفيره للجمهور، فليس للمدينة متحف حتى.
في مثل هذه الحالة يتحول تيار الصور المنساب عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى متحف وأرشيف بديل، إلا أن قضية السلطة تتحول إلى محل نزاع وتصبح المعلومات في صورة مطاطية، فهي في غالب الأمر مجرد تخمين مدير صفحة على موقع فيسبوك، وفي حالات أخرى يتم اختراع هذه المعلومات ببساطة، وتنتزع الصور من سياقاتها ولا يتم الإشارة إلى مصادرها، فيستحيل على المشاهد أن يرجع للمصادر للتأكد من صحة المعلومات.
ونظرًا لحالة الفشل المتفشية في جهاز الدولة المصرية يبدو أنه من الجيد عدم سيطرتها على الصور والتاريخ – وإن كانت تحاول -، فلطالما كانت هذه الدولة وكل أجهزتها منابر لتزوير الصور وتغيير التاريخ ونقد الحقائق، غالبًا ما يحدث هذا نتيجة للفشل وفي بعض الأحيان عن قصد، فقد أصدرت هيئة البريد منذ القريب طابع بريد رسمي يحتفل بـ “قناة السويس الجديدة” ولكن بصورة لقناة “بنما”.
ما الذي يعنيه العيش في مدينة أو حتى دولة لا يخطر ببالها أن تتعامل مع أرشفة وحفظ تاريخها (العمراني وغيره)؟ في الغالب يعني أن المسافة الفاصلة بين الواقع والخيال تبدأ في الاختفاء، تعني أن مكانة المدينة وطبقاتها المتراكمة من الذاكرة والتاريخ تصبح عرضة للنسيان على أحسن تقدير والتلاشي على أسوأه.
المصدر: مُشاهد القاهرة