انتهت جولة التصعيد الأخيرة بين “حزب الله” والاحتلال الإسرائيلي عبر الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة إلى تكريس وتثبيت الهدوء الحذر والهش على طرفي الحدود، وذلك بعد أن أطلق قبل بضعة أيام مجهولون صاروخين من الأراضي اللبنانية باتجاه مستوطنة كريات شمونة في الجليل، وإطلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 90 قذيفة مدفعية استهدفت محيط بعض البلدات والقرى الجنوبية، لا سيما تلك المحاذية لمزارع شبعا المحتلة، أعقبها بعد ذلك غارات ليلية بالطائرات الحربية استهدفت بعض المناطق الفارغة والطرق الزراعية ما أحدث هلعًا كبيرًا بين السكان، خاصة أن الغارات كانت بُعيد منتصف الليل، وهي الأولى على هذا الشكل منذ عدوان يوليو/تموز 2006.
بعد يومين أطلق “حزب الله” عشرات الصواريخ المحمولة على سيارة “بك أب” باتجاه مناطق فارغة في محيط مواقع الاحتلال الإسرائيلي في مزارع شبعا المحتلة، وكادت هذه الجولة من التصعيد تنتقل إلى مواجهة مفتوحة بين الطرفين وهو ما أبدت قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان “يونيفل” الخشية منه، إلا أن هذه الجولة توقفت وكرست من جديد مبدأ الاشتباك الذي كان قائمًا منذ العام 2006، من دون أن يعني ذلك أن الأمور لن تعود إلى الانفجار مجددًا في ضوء التوتر الإقليمي المتصاعد من بحر عمان وما يجري فيه من حديث عن حرب سفن، أو أقله “قرصنتها” وصولًا إلى جنوب لبنان حيث يجري الحديث عن حصار محكم ومتصاعد على لبنان كل يوم.
أهداف التصعيد لدى الطرفين
الجولة الأخيرة من التصعيد، وكما أشرنا جاءت بعد سقوط صاروخين، بحسب الرواية الإسرائيلية، في محيط مستوطنة كريات شمونة في الجليل، وكان لا بد لحكومة الاحتلال الإسرائيلي الجديدة برئاسة نفتالي بينيت أن تتحرك وتظهر أمام المستوطنين أنها حازمة في مواجهة “أعداء إسرائيل” ولا يمكن أن تتهاون أو تُظهر الضعف حيالهم، وأمام كل من يريد أن يستهدف قواتها أو مستوطنيها، خاصة أنها خلال الأيام الأخيرة تعمل على تحشيد الرأي العام العالمي ضد إيران على خلفية الحديث عن استهداف سفينة إسرائيلية في الخليج.
لذلك لم يكن أمام حكومة بينيت أي مجال للتغاضي عن استهداف المستوطنات أو محيطها من جنوب لبنان، لأن من شأن ذلك أن يكرس معادلة جديدة تكون فيها اليد الطولى لحزب الله باعتباره المُمسك بطرف الحدود من الجانب اللبناني.
كما أن حكومة بينيت حاولت في لحظة انسداد أفق الحل السياسي في لبنان، وفي لحظة من بلوغ الأزمة الحياتية والاقتصادية ذروتها لدى اللبنانيين، وظنًا منها أن “حزب الله” يعيش أزمة خانقة جراء ذلك، وبسبب مسألة انفجار مرفأ بيروت التي يدور حولها جدل كبير في الداخل اللبناني، تكريس قواعد جديدة للاشتباك مع “حزب الله” تكون لها اليد الطولى فيها، ظنًا منها أن الحزب لن يكون قادرًا على الرد، لذلك لجأت إلى التصعيد الخارج عن المألوف خلال السنوات الماضية، أو اعتبارًا من توقف الحرب والعدوان في يوليو/تموز 2006.
في مقابل ذلك فإن “حزب الله” لا يمكن أن يقبل قواعد اشتباك جديدة تتيح للإسرائيليين فرصة أو حرية التصرف عبر الحدود، خاصة أن الحزب يواجه أكثر من مأزق في الداخل اللبناني، لا سيما ما يعتبره حصارًا على اللبنانيين يستهدف سلاحه ودوره بالدرجة الأولى.
وكذلك في لحظة من التوتر الإقليمي والتحشيد الذي يجري من أجل تشكيل تحالف لضرب إيران سواء كان ذلك بشكل محدود أم واسع، وقد ظهر ذلك في تصريحات المسؤوليين الأمريكيين والإسرائيليين وغيرهم، وبالتالي فإن “حزب الله” وجد فرصة في التصعيد الإسرائيلي لتصعيد مقابل يحمل أكثر من رسالة ومعنى في هذه المرحلة.
فهو أراد أن يقول للإسرائيلي إنه جاهز لأي معركة مقبلة ومستعد لفتح الجبهة إذا استدعى الأمر ذلك، سواء على خلفية التخفيف من وطأة الحصار المفروض على لبنان أم على خلفية الضغط المتزايد على “محور المقاومة” وفي مقدمته إيران في الخليج، وبالتالي فهو أراد أن يعود إلى قواعد الاشتباك المعمول بها سابقًا وأراد في الوقت ذاته أن يبعث بتلك الرسائل، لذلك فقد حرص على إصدار بيان رسمي تبنى فيه عملية إطلاق الصواريخ، وشرح فيه نوعية الصواريخ ومن أين أُطْلقت وماذا استهدفت وكيفية إطلاقها، وفي كل ذلك رسائل عديدة وكثيرة وصلت إلى الإسرائيليين، وكانت كفيلة حاليًّا بوقف جولة التصعيد عند المستوى الذي بلغته، وتثبيت قواعد الاشتباك التي كانت قائمة، وهو ما أكدته لاحقًا تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين الذين أشاروا إلى الاكتفاء بما حصل، لأن هدفم الأساسي في هذه المرحلة هو إيران والخليج.
مواقف الداخل اللبناني
ككل مرة تتوتر الأجواء على طرفي الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة ينقسم الرأي العام اللبناني، والسياسي منه على وجه التحديد، بين مؤيد ومعارض ومشكك بما يجري، فحزب الله والقوى المتحالفة معه وضعت رده بإطلاق الصواريخ في السياق الطبيعي للرد على الاحتلال، ومن ضمن سياسة الدفاع عن لبنان في مواجهة الاعتداءات والأطماع الإسرائيلية.
في مقابل ذلك خرجت أصوات تشكك بما جرى، وتتهم “حزب الله” بتنفيذ أجندة خارجية لها علاقة بمصلحة إيران بالدرجة الأساسية مُنَحية جانبًا المصلحة اللبنانية العليا، وكان أبرز موقف في هذا السياق لرئيس الحكومة السابق سعد الحريري الذي اعتبر من خلال بيان صادر عنه أن ما حصل هو تنفيذ لأوامر إيرانية ويربط لبنان بصراع المحاور في المنطقة ويجعله ساحةً للصراعات الإقليمية والدولية، وهو الموقف الذي تقاطع معه إلى حد كبير رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس حزب الكتائب اللبنانية سامي الجميل.
بينما اكتفت بقية الأطراف إما بالصمت وإما بشجب الاعتداء الإسرائيلي على المناطق الجنوبية من دون إدانة أو التشكيك بما قام به “حزب الله”، وكان الغائب الأكبر عن كل ما جرى الجهات الحكومية والرئاسية اللبنانية التي اكتفت بتوجيه تعليمات لمندوب لبنان في الأمم المتحدة لتقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي بخصوص العدوان الإسرائيلي.
غير أن الشيء الأخطر على مستوى المواقف هو الحدث الميداني الذي تمثل بقيام شبان دروز من بلدة شويا في قضاء حاصبيا بمصادرة سيارة “البيك أب” التي كانت تحمل راجمة الصواريخ وسيارة رينو رابيد أخرى كانت معها، والاعتداء بالضرب على عناصر “حزب الله” الذين كانوا فيها وكانوا قد أنهوا لتوهم إطلاق الصواريخ.
حضر على الفور إلى البلدة الجيش اللبناني وصادر الراجمة وأوقف عناصر الحزب، وهو الشيء الذي أثار حفيظة “حزب الله” وجمهوره، ودفع إلى طرد بعضهم لبعض مشايخ الدروز من بعض البلدات والمناطق الجنوبية التي اعتادوا ارتيادها وبيع منتجاتهم الزراعية فيها، ما ولد ردة فعل عكسية، فلجأ أهالي مدينة عالية الدرزية في جبل لبنان إلى قطع الطريق على سيارات النقل المعروفة بأنها لأفراد من بيئة “حزب الله”، والاعتداء عليهم بالضرب والتكسير، وكاد هذا الأمر يُشعل فتنة مذهبية بين الشيعة والدروز لولا تدخل الزعيم الدرزي وليد جنبلاط ومشايخ خلوة البياضة، وهي أعلى مقام روحي للدروز، وإصدار بيانات تهدئة وشجب لما جرى مع عناصر “حزب الله” في بلدة شويا الدرزية.
هذه الجولة من التصعيد انتهت إلى تهدئة قد تكون هشة ورهنًا بما سيجري خلال الأيام والأسابيع المقبلة في ضوء التوتر الإقليمي الذي إما أن يفضي إلى تهدئة شاملة من ضمن تسوية ترضي الجميع، وإما إلى مواجهة سواء كانت محدودة أم واسعة وهو ما يعني أن جنوب لبنان سيظل نافذةً تطل منها بين الحين والآخر الصواريخ التي تسعى حينًا إلى تثبيت المعادلات وحينًا آخر إلى تعديلها.