حمّل الكثير من التونسيين أزمات بلادهم المتواصلة منذ سنوات إلى حركة النهضة، فوفق رأي العديد منهم فإن الحركة التي يقودها راشد الغنوشي سبب كل مشاكل البلاد وأجرمت في حق تونس فهي التي تحكم منذ الثورة، وإن خرجت من السلطة والمشهد العام في البلاد سيتحقق الرخاء في هذا البلد العربي.
لكن إن دققنا في الأمر قليلًا، سنرى أن هذه الحكاية غير دقيقة وتحتاج تقويمًا حتى يتحمل كل طرف مسؤوليته، فالأسباب التي أوصلت تونس إلى ما هي عليه الآن متعددة، منها إرث سياسات أنظمة الاستبداد وتأثيرات الأزمات العالمية وتغول النقابات وتنامي الفساد والتدخلات الخارجية وغيرها.
إرث أنظمة الاستبداد
لا أحد له أن ينكر الوضعية المتأزمة التي وصلت لها تونس بعد 10 سنوات من ثورة الحرية والكرامة، فالجميع يُجمع على ذلك ولا اختلاف في الأمر، الاختلاف موجود في الأسباب التي أوصلت تونس إلى هذه الحالة المتردية.
في 14 من يناير/كانون الثاني 2011، فر زين العابدين بن علي من البلاد بعد 23 عامًا من حكم فردي استبدادي، وذلك في أعقاب ثورة شعبية أطلقها إضرام البائع المتجول محمد البوعزيزي النار في نفسه في 17 من ديسمبر/كانون الأول 2010، احتجاجًا على استهداف عناصر شرطة في ولاية سيدي بوزيد مصدر رزقه.
حادت النقابات الأمنية عن أهدافها في الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لأعضائها لتصبح جزءًا من التجاذبات السياسية في البلاد
فر بن علي وترك ورائه إرثًا ثقيلًا: دولة منهكة اقتصاديًا واجتماعيًا ومثقلة بالديون الخارجية والمحلية وإدارة مكبلة بالقوانين والتشريعات القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب، وبيروقراطية شديدة المركزية، وتفاوتات جهوية حادة في قطاعي الرعاية الصحية والتعليم، وفي مجالات الفقر والبنية التحتية.
فر بن علي الذي دعم ركائز سلطته من خلال الفساد الجماعي والجرائم الاقتصادية وترك ورائه: جل القطاعات في حالة يرثى لها، فر وترك أيضًا أجورًا متدنيةً ونسب فقر مرتفعة جدًا، وبطالة في أعلى مستوياتها خاصة بين الشبان والمتعلمين، وتكاليف معيشة باهظة، وفساد مستشرٍ في كل أجهزة الدولة، فقد كان الفساد السمة الرمزية الملموسة والأبرز لعدم مبالاة النظام بمصالح الشعب في حقبة ما قبل الثورة.
هذه المؤشرات، ثار ضدها التونسيون – غالبيتهم من الشبان العاطلين كليًا أو جزئيًا عن العمل – فأبرز مطالبهم خلال الثورة “شغل، حرية، كرامة وطنية”، فقد خرجوا للاحتجاج ضد الفقر والعوز والتهميش الاقتصادي والاجتماعي والتهميش الجهوي المنهجي.
تغول النقابات
تميز عهد بن علي بتراجع العمل النقابي في ظل العولمة والاتجاه الجارف نحو الخصخصة، فضلًا عن تحكم النظام التام بالمركزية النقابية في البلاد (الاتحاد العام التونسي في الشغل)، لكن بعد الثورة تغير الأمر، فقد امتدت النقابات إلى كل القطاعات.
حتى وزارة الداخلية وصلتها النقابات، ففي زمن بن علي حال القانون التونسي دون السماح للشرطة وأجهزة الأمن الداخلي وكل الأجهزة المنضوية تحت وزارة الداخلية من تشكيل نقابات مهنية خاصة بهم، لكن بعد الثورة كان جهاز الأمن التونسي أول الجهات التي انكبَت نحو إنشاء النقابات التمثيلية تحت دعاوى المطالبة بتحسين الأجور وتغيير شروط الترقية والتوظيف.
صحيح أن دور النقابات العمالية مهم لتحسين الأجور والعمل المهني ككل، لكن هذه النقابات تسببت في العديد من المرات في عرقلة عمل مؤسسات الدولة والكثير من المؤسسات الخاصة، ما كبد البلاد خسائر مالية كبرى.
نتيجة هذه الإضرابات المتكررة، قررت العديد من الشركات والمعامل والمصانع مغادرة تونس كما تسببت في تراجع حجم الاستثمار في البلاد وارتفاع نسب البطالة وتفشي ظاهرة الإفلات من العقاب، فالعديد من النقابيين تم القبض عليهم متلبسين لكن النقابات كانت في صفهم، ما أدى إلى عجز الدولة عن التصدي لهم.
وقد اكتشف التونسيون قوة نقابة التعليم في معارك إصلاح التعليم، وقوة نقابات المحامين والأطباء والصيادلة في مجال إخضاع القطاعات الحرة للضريبة على الدخل في قوانين المالية، فهذه النقابات تحمي نفسها بقطع النظر عن المصلحة الوطنية.
ليس هذا فحسب، فالنقابات تدخلت في العمل السياسي أيضًا، وأصبح لها الكلمة الفصل في تعيين الوزراء والمسؤولين الكبار في الدولة، وكل شخص لا ترضى عليه النقابة سيكون مصيره الفشل فهي في الغالب تمارس سياسة الابتزاز.
أما النقابات الأمنية، فقد حادت عن أهدافها في الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لأعضائها لتصبح جزءًا من التجاذبات السياسية في البلاد وانحياز لطرف سياسي على حساب آخر، وأصبحت في الغالب عنوانًا لترسيخ السلطة الاستبدادية وغطاء للإفلات من العقاب القانوني، وطريقًا مُمهدًا لعدم محاسبة الأمنيين المتورطين في أي انتهاكات.
بعد الثورة أصبحت تونس مرتعًا للمخابرات، ما جعل العديد من السياسيين يأتمرون بأوامر السفارات ويخضعون لإملاءات أجنبية
وصل الأمر بهذه النقابات أحيانًا إلى تحدي مؤسسات البلاد الرسمية وغير الرسمية، من ذلك طرد رؤساء البلاد الثلاث (علي العريض والمنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر) من ثكنة العوينة، وأيضًا اقتحام مقر محاكم عديدة للضغط على قضاة متعهدين بقضايا تخص أمنيين، ودعوة منظوريها من المتهمين في انتهاكات لعدم الامتثال أمام الدوائر القضائية المختصة في قضايا العدالة الانتقالية.
كما ضغطت النقابات الأمنية لتمرير مشروع قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين الذي يُهدِد بإحياء جوانب الدولة البوليسية وتضييق مساحة الحرية في البلاد، ووصل بهم الأمر إلى التهديد بالتوقف عن حماية أعضاء البرلمان.
تأثيرات خارجية
سياسيًا
بعد الثورة أصبحت تونس مرتعًا للمخابرات، ما جعل العديد من السياسيين يأتمرون بأوامر السفارات ويخضعون لإملاءات أجنبية في علاقة بتعيين كبار المسؤولين وسياسة الدولة الخارجية ومواقفها من المسائل الإقليمية.
مثلًا يلعب سفراء فرنسا دورًا مشبوهًا لفرض مرشحين بعينهم لتولي رئاسة الحكومة وذلك لحماية مصالحهم في تونس والمنطقة، ما يعني أن تعيين وإسقاط رؤساء حكومات في تونس لا يتم بمنطق الكفاءة، بل بمدى قربهم من السفارات الأجنبية.
إلى جانب ذلك، توجد في تونس قوى معادية للثورة وللانتقال الديمقراطي في البلاد، تتعاون مع أجهزة مخابرات أجنبية وعربية بهدف إفشال التجربة التونسية وتسميم الحياة السياسية، عبر صنع عدم استقرار في البلاد، فالمقلق عند تلك السفارات هو وجود حكومة قادرة على الاعتماد على نفسها منكبة على الإصلاحات العميقة، ما من شأنه تثبيت التجربة الديمقراطية.
مشاركة النهضة في أغلب الحكومات كانت رمزية، وزير أو اثنان في قطاعات في علاقة مباشرة مع المواطن
السفارات وخاصة التابعة للدول التي لها مشكل كبير مع الديمقراطية، أخضعت العديد من السياسيين لها حتى أصبحوا مفعولًا بهم، يأتمرون بأوامر الخارج وذلك لضرب الانتقال الديمقراطي في البلاد بشتى الطرق، فالتجربة التونسية لا تزال تقض مضاجع الأنظمة الاستبدادية العربية.
الاغتيالات التي عرفتها تونس سنة 2013، خير دليل على تغلغل المخابرات الأجنبية هناك، فهذه الاغتيالات لها علاقة وطيدة بمحاولات ضرب المسار الانتقالي سواء كانت هذه المحاولات من قوى عظمى أم من دول عربية ديكتاتورية منزعجة وخائفة من وصول نسمات الحرية إليها.
ليس هذا فقط، فموقع تونس الجغرافي المحاذي لليبيا، جعلها مكان التقاء الجهات الفاعلة في الصراع في ليبيا، فأغلب القرارات المتخذة بشأن هذا البلد العربي يتم اتخاذها في تونس، كما أن العديد من الدول عملت على استقطاب تونس لصفها خدمة لتوجهاتها في ليبيا ما أربك الوضع الداخلي.
اقتصاديًا
هناك تأثيرات اقتصادية خارجية كبيرة على تونس، إذ تأثرت البلاد بالأزمة الاقتصادية العالمية وبأزمة ليبيا خصوصًا، فقد عاد عشرات الآلاف من التونسيين الذين كانوا يشتغلون في ليبيا إلى البلاد ما ضاعف نسبة البطالة فيها.
أيضًا محاربة الفساد يصطدم بالنفوذ الأجنبي وموقف المال الأجنبي المسنود سياسيًا، فالمساس بشركة فرنسية مثلًا يعني المساس بمصالح فرنسا في تونس، فالشركات الفرنسية في تونس لها نفوذ مستمد من قوة دولتها الأم ولا قدرة لحكومة تونس على مواجهة هيمنتها المنتجة بدورها لفساد كثير.
نفوذ هذه الشركات، ظهر في الجنوب فقد فرضت على الدولة حل ترقيعي في جوهره (تشغيل هش وموقت) من أجل فض الاحتجاجات والاعتصامات في المناطق البترولية حتى يستمر ضخ المواد الطاقية دون شوشرة سياسية اجتماعية، ما يعني أن تونس غير مستقلة اقتصاديًا وفي تبعية.
الكل يحكم ولا أحد يحكم حقيقة
يُقال في تونس إن النهضة حكمت البلاد لمدة 10 سنوات، لكن نظرة بسيطة لرؤساء الحكومات في هذه الفترة نرى أن النهضة لم تترأس الحكومة إلا مرتين وذلك خلال سنة ونصف فقط، وفي باقي الفترات كانت رئاسة الحكومة لمستقلين أو لنداء تونس أو لمدعومين من الرئيس كما حصل مع إلياس الفخفاخ وهشام المشيشي.
مشاركة النهضة في أغلب الحكومات كانت رمزية، وزير أو اثنان في قطاعات في علاقة مباشرة مع المواطن كوزارة التشغيل أو الصحة التي يصعب إجراء إصلاحات عاجلة وملموسة فيها لأسباب عدة يطول شرحها.
حتى إن سلمنا بأن النهضة تقود الحكم، لكن ظهر جليًا في تونس أن الكل يحكم ولا أحد يحكم حقيقة، نتيجة معضلة تحديد صلاحيات الحكم في البلاد وغياب المحكمة الدستورية التي تبت في النزاعات القانونية وتأويل الدستور.
مؤخرًا حاول البرلمان التونسي بقيادة حركة النهضة الدفع بعجلة تشكيل المحكمة الدستورية إلى الأمام بعد سنوات من الانتظار، إذ صادق في مارس/آذار 2021 على جملة من التعديلات المتعلِقة بتنقيح وإتمام القانون الأساسي الخاص لهذه المحكمة بأغلبية 110 أصوات، لكن الرئيس قيس سعيد رفض ختم مشروع القانون، محتفظًا لنفسه بالحق الحصري في تأويل الدستور.
أيادٍ مرتعشة
هذا لا يعني أن النهضة لا تتحمل مسؤولية ما يحصل في البلاد، فلها المسؤولية الكبرى في ذلك، فالشعب اختارها في كل الانتخابات التشريعية والمحلية التي أعقبت ثورة يناير/كانون الثاني 2011، اختارها الشعب كي تحكم وتصلح حال البلاد لا أن تضع رأسها في الأرض كالنعام.
في أغلب المراحل التي أعقبت الثورة، كانت النهضة أسيرة حساباتها الحزبية والنقابية وعلاقتها الخارجية، وعوض أن تحتوي المنظومة القديمة تم احتواؤها وأصبح مفعولًا به غير قادر على الفعل ولا تقديم الإضافة.
يوجد في تونس نحو 300 “رجل ظل” يتحكمون في أجهزة الدولة ويعرقلون الإصلاحات، وبعضهم يعطل تنفيذ مشاريع تنموية بالمناطق الداخلية
“الأيدي المرتعشة لا تصنع التاريخ ولا تقدر على البناء”، هذا حال النهضة بعد الثورة، عملت حسابًا للجميع للأحزاب والنقابات وسفارات الدول الأجنبية والمنظومة القديمة، إلا الشعب لم تعمل له حساب ما جعلها تفشل في الالتزام بوعودها تجاه البلاد.
رجال ظل يتحكمون في الدولة
ضعف الدولة أدى إلى تنامي نفوذ العديد من الشخصيات والعائلات، إذ ذكرت تقارير عدة محلية ودولية سيطرة بعض العائلات القليلة على اقتصاد تونس، ففي تقرير لها ذكرت “مجموعة الأزمات الدولية” أن نحو 300 “رجل ظل” يتحكمون في أجهزة الدولة بتونس ويعرقلون الإصلاحات، وبعضهم يعطل تنفيذ مشاريع تنموية بالمناطق الداخلية ويحرك الاحتجاجات الاجتماعية فيها.
وسبق أن قال السفير الأوروبي بتونس باتريس بيرغاميني إن الثروة في هذا البلد العربي تتركز في أيدي عائلات معينة ترفض المنافسة العادلة والشفافة وتوشك أن تجهز على ما حققه الانتقال الديمقراطي سياسيًا ومكتسبات الثورة.
ومن أهم العائلات الاقتصادية في تونس عائلة إدريس والنابلي بسوسة ومبروك بالمهدية وبوشماوي والجريء في الجنوب الشرقي، وميلاد والمدب في القيروان، وتسيطر هذه العائلات على الاقتصاد فضلًا عن تحكمها في اللعبة السياسية سواء بانتمائها إلى الأحزاب أم وقوفها وتمويلها لبعض الشخصيات أو الأحزاب.
هؤلاء يؤثرون مباشرة في تعيين الوزراء وكتاب الدولة وكوادر الإدارة المركزية والجهوية والمحلية بما في ذلك الديوانة وقوات الأمن الداخلي، ويسنون القوانين التي تخدم مصالحهم ويعارضون التشريعات التي تمس نفوذهم.
وقد رأينا كيف أنفق الكثير من رجال الأعمال المال الوفير لإفساد المشهد الديمقراطي، وكيف تم شراء الأصوات في مواضع كثيرة خاصة في مناطق فقيرة ومحتاجة مثل منطقة الشمال الغربي، كما رأينا حملات دعاية انتخابية قدرت بمليارات الدينارات لشخصيات لم تكن تجد معين كراء مقراتها الحزبية.
تنامي الفساد
وسط هذه الأجواء، وجد الفساد له منفذًا، صحيح أنه موجود قبل الثورة لكن زادت حدته وأحكم بناء وسائله وبنى متاريسه في الإدارة العميقة، رغم ادعاء مسؤولي الدولة الحرب عليه، فجميع الأرقام والمؤشرات الصادرة دوريًا عن جهات محلية ودولية تؤكد أن الفساد نخر مقومات ومقدرات الدولة التونسية.
أصبح الفساد مستشريًا على نطاق واسع في كل قطاعات الدولة، بما في ذلك الأمن والصفقات العمومية والصحة والجمارك والشركات العمومية والصناديق الاجتماعية ومؤسستا الإذاعة والتليفزيون، وقد استغلت لوبيات الفساد الناشطة في تونس ضعف الدولة وعدم الاستقرار السياسي لتتقوى مجددًا، في وقت كان ينبغي عليهم العودة إلى الوراء.
ببساطة، الفساد شمل جميع أوجه الحياة في تونس، ذلك أن “بارونات الفساد” اخترقوا القضاء والإعلام وأغلب الوزارات والأحزاب والمنظمات والشركات وحتى مجلس النواب من أجل الإفلات من المحاسبة، ووضع العراقيل والحواجز أمام أي نفس إصلاحي في مؤسسات الدولة والهيئات المستقلة لمكافحة الفساد.
نتيجة استشراء الفساد في أغلب مفاصل الدولة وغياب الحكومة، تتكبد البلاد التونسية خسائر مالية كبرى تقدر بألفي مليون دينار في السنة (نحو 820 مليون دولار)، ويشار إلى أن تونس تحتل المرتبة الـ69 في التصنيف العالمي لمؤشر مدركات الفساد من مجموع 180 دولة شملتها دراسة سابقة لمنظمة الشفافية الدولية وأعلنت نتائجها في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي.