“إنّ عالم ما بعد كورونا ليس كما قبله”.. يبدو أن هذه الجملة التي طالما اُستهلكت حتى أُفرغت من محتواها بعد ظهور الوباء، باتت اليوم محرارًا حقيقيًا لقياس درجة انقلاب قيس سعيد، الرئيس التونسي الذي استغل أزمة كورونا والوضع الصحي المستفحل في تونس لبدء مشروع عسكرة الوزارات بعد عسكرة البرلمان، على خلاف الرئيس الأمريكي جو بايدن مثلًا؛ الذي جيّر الأزمة لصالحه وأسقط محاولة انقلابية قام بها بلطجية الرئيس السابق دونالد ترامب خلال غزوهم لمحيط مبنى الكابيتول في سابقة تاريخية، وهذا ما يفسر دعم الديمقراطيين للحريات وحقوق الإنسان في العالم العربي، فمن الطبيعي أن يقف البيت الأبيض مع عودة تونس إلى مسارها الدستوري والديمقراطي، لكن تعيين قيس سعيّد لأوّل عسكيري لتسيير وزارة الصحة ينبئ بعسكرة السلطة في تونس بعد مدنيتها في منعرج غير مسبوق حتى في أسوء عهود الدكتاتورية.
هوى العسكر
بدأ الرئيس التونسي قيس سعيّد بعسكرة وزارة الصحة بعد تكليفه العميد بالجيش التونسي علي مرابط بتسيير الوزارة، في خطوة قد تكون بداية لعسكرة يقية الوزارات، في وقت يثير مزيدًا من الشكوك بشأن طبيعة الحكومة التي لم ترَ النور بعد، غير إطلاق شائعات هنا وهناك حول بعض شخصياتها التي لم تؤكد أو تنفي، فيما يبدو أن سعّيد يسير بخطى متثاقلة لغاية في نفسه قد تخدم الانقلاب أو لا تخدمه عن قصد أو غير قصد، فلربّما تفطّن التونسيون لخداعه فأحبطوها أو نجح هو بمكره غير المشهود له به، في لي عنق الثورة كما لوى عنق الدستور.
ذلك الهوس الذي تحدث عنه كثيرون في رغبة سعيد في إدخال العسكر للسلطة هو لترسيخ الانقلاب لاسيما وأن سعيد تحدث في برنامجه الانتخابي عن نظرته وتنظيره للحكم المحلي الذي يبدأ من القواعد إلى الهرم على طريقة تشبه نظرية معمر القذافي القائمة على التصعيد أي باستغلال اسم “سلطة الشعب” أو “الشعب يريد” للحكم باسم الشعب في نظام عسكري قمعي.
أمر بتعيين عميد بالجيش في هرم وزارة الصحة.. هو عبارة عن إقحام العسكر في السلطة مما قد سيرجح كفة الانقلاب
وستكون دولة اللجان الشعبية بقذافي جديد وبحراسة الكتائب #لا_لعسكرة_الدولة#لا_لانهيار_المؤسسات#عودة_البرلمان pic.twitter.com/DlEhIX1VtD
— مختار غُمّيض (@ghommokh) August 7, 2021
ولا تكاد تخلو ميولات قيس سعيّد للعسكر وضمّ بقية أسلاك الأمن والجمارك إلى سلطانه، كما تكشفها خطاباته التي أصبحت فترة ما قبل انقلابه متشنجة جدًا بهدف إحكام القبضة الأمنية على السلطة كأن أحلامه تنفلت منه لفضح هواه وعشمه بحب العسكرة الشاملة التي يضفيها على كل الأسلاك، كيف لا وهو الذي يفتخر دائمًا بأنه القائد الأعلى لجميع القوات المسلحة لا بل والمدنية مما أثار حفيظة رئيس الحكومة عديد المرات.
ويحاول سعيّد بكل قوة إقناع الناس بذلك ليؤوّل ويلحّ في التأويل والإعادة وبالعودة إلى توظيف نصوص قانونية كما فعل خلال إحياء عيد قوات الأمن الداخلي أبريل نيسان الماضي.
سابقة تاريخية
لم يسبق حتى في أسوء عهدي الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة والرئيس المخلوع زين العابدين بن علي أن جرى استغلال الأزمات وتوظيفها لتجييش الشارع وشحن الأنفس لضمان ولاء الجيش وعسكرة الشارع بل بالعكس حتى نظام المخلوع بن علي قام بإضعاف المؤسسة العسكرية خوفًا من تغوّلها عليه.
كذلك فإن بورقيبة نأى بالمؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية ووجّها في أكثر الأحيان إلى المساهمة في مشاريع تنموية وبنيوية ولو بسيطة بحجم دولة خارجة لحينها من فترة استعمار.
ولأوّل مرة يدفع حاليًا قيس سعيّد مؤسسة العسكر نحو أداء أدوار سياسية بامتياز مما قد يُسيل لعابها، ورأينا حجم التخوّف الشعبي عندما قدّم عدد من المتقاعدين العسكريين مبادرة لحل سياسي للمأزق التشكيل الحكومي عندما رفض سعيد تمرير التغيير الحكومي لهشام المشيشي.
فما بالك عندما يُقحم الرئيس الحالي قادة الجيش في المناصب السياسية في بدعة جديدة لم تعرف تونس لها مثيلًا، بعد أن كان أفراد الجيش محايدين ولا يقترعون في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية باستثناء الانتخابات البلدية التي بدورها كانت أول انتخابات في تاريخ تونس وهي بدرجة ثانية خالية من السياسة ومعلقة بالتنمية المحلية بشكل أكبر.
وفضلًا عن كل ذلك تفطن حكومات ما بعد الثورة المتعاقبة إلى أهمية تعزيز المؤسسة العسكرية كإحدى ركائز الديمقراطية وإبقائها داخل الثكنات أو في حراسة المؤسسات من أعمال الشغب، بات حديث القاصي والداني يشهد بالظاهرة الصحية للديمقراطية التونسية الفتيّة مع ما تلقاه العسكريون من دعم كبير لمكانتهم والاهتمام بهم من طرف الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي.
عسكرة وزارة الصحة
استغلال قيس سعيّد للوضع الوبائي وصحة المواطن تاج الإنسان ومعيار تقدم الأمم ورأس الدول، للإذن للجيش الوطني باستقبال الإعانات الصحية واللقاحات وحفظها، مرورًا بتكليفه بالقيام بحملات التطعيم ضد الوباء، وصولًا إلى تعيين عسكري لتسيير وزارة الصحة العمومية، كلها دلائل تنبئ بأن الرئيس ينقلب على المؤسسات المدنية للدولة نحو عسكرتها لنيل رضاها وولائها، فضلًا عن توظيف الأزمة الصحية في حملة انتخابية سابقة لأوانها لكسب ودّ الناس.
لكن ودّ الناس هذا لا يمكن أن يكون بتملّق الجيش وعسكرة وزارة الصحة كما عسكر البرلمان بعد إغلاقه وبضرب مؤسسات الدولة ببعضها.
فالجيش التونسي حسن الصورة والسمعة والسلوك رغم محاولة قيس سعيّد الانقلابية بالزجّ به في معارك ليست معاركه ولم يُعرف بها، فهو لم يزوّر انتخابات ولم يتلف صناديق اقتراع ولم يواجه الشعب، ليأتي قيس سعيّد هذه المرّة ويخرج عن العرف التونسي ليضع الجيش في مواجهة مع الشعب المتظاهر (الموالي له والمعارض) أمام مجلس نواب الشعب.
كما وضع سعيّد الجيش في مواجهة مع البرلمان نفسه، وبالتالي هو مخطط خطير أقحم فيه قيس سعيّد مؤسسات الدولة لضربها بعضها ببعض لولا حكمة رئيس البرلمان راشد الغنوشي الذي دعا أنصاره إلى الانسحاب.
وبالتالي، فلا نائبة رئيس البرلمان سميرة الشواشي أخطأت عندما قالت للجندي الذي رفض فتح باب مقر البرلمان، إنها أقسمت على تطبيق الدستور، ولا الجندي أخطأ عندما ردّ عليها بالقول إنه أقسم على حماية الوطن، فالمذنب الوحيد هو الانقلابي الذي يدري أنه وراء ضرب الدولة بالدولة، وهو ضرب الدولة من الداخل الذي لطالما قال سعيّد إنه لن يسمح به، ما كشف عن نزواته ونزعاته التي لا يبدو أنها وليدة عشية أو ضحاها، على طريقة أنا أو الخراب وفرّق تسد.
عسكرة الدولة
لئن كانت الدولة زمن بورقيبة ثم الدولة زمن بن علي مرتبطة مباشرة بالحزب بل شخص الرئيس القائد الملهم والفذّ، فإن أوّل إنجاز لدولة ما الثورة الشعبية لما بعد 2011، هو الفصل بين الحزب والدولة لذلك تم حل الحزب الحاكم وهو الذي لا حزب غيره ينشط على الساحة ويغلب على المشهد ويهيمن عليه أما بقية الحزيبات فهي مجرد ديكور لشرعنة مشروعية الانتخابات وشرعيتها، لذلك أصبحت الدولة زمن الاستبداد هي الحزب وهي النظام وهي الدولة وهي شخصية القائد.
لذلك عندما اندلعت الثورة وضع أعداؤها نصب أعينهم وروّجوا لفكرة أن إسقاط النظام هو شرعنة الفوضى وليس استبداله بنظام جديد يفصل بين السلط والأحزاب والنظام الحاكم والدولة.
إلا أن الأخطر من كل ذلك هو عسكرة الدولة أي أن تصبح الدولة كأعلى هرم في منظومة السلطة بعد الأحزاب والنظام والشعب هي العسكر والعسكر هو الدولة وهذا ما يطمح إليه كل شخص انقلابي ليحل محل الدولة.
ويبدو من خلال تجارب مقارنة أن قيس سعيّد يبحث عن ذلك ولو عبر سياسة المراحل، وبدايته المبكرة بتوظيف القضاء العسكري بهدف تصفية المعارضين ومحاكمتهم في محاكم عسكرية بعد السيطرة على النيابة العامة والمجلس الأعلى للقضاء.
الترويج للعسكرة
الأغرب من كل ما سبق أن يستغل قيس سعيّد أزمة المواطن الصحية ويوظفها سياسيًّا لصالحه على خلاف قوله دائمًا إن صحة المواطن ليس لقمة سائغة بيد السياسيين، بل ترجَّح أن قيس سعيّد يخدم انقلابه عبر تجميع الأدوية والتلاقيح والبدء في التطعيمات عن طريق الجيش الوطني وتحت إشراف وزير صحة عسكري، ليجني الثمار وحده، وهو نفسه يدرك قبل غيره أنه لا الجيش سيعارض ولا الشعب يرفض، فلاغرابة أن يهلل له إعلام الدولة العميقة بمنحه نسب عالية في سبر الآراء الموجهة كما فعلوها بشكل مفضوح سابقًا، تمهيدًا لإيهام الناس بالأمل والمستقبل الواعد تحت ظل نظام عسكري!
وبناء عليه، فإن نائب رئيس حركة النهضة علي لعريض لم يجانب الصواب عندما قال منذ أن أطلّت كورونا برأسها المخيف، إن الوباء ستكون له تداعيات سيئة على الديمقراطيات في العالم الثالث وسيخدم الأنظمة المستبدة لأن الشعوب لا تعطي الأولوية في الأزمات الخانقة للحريات أو الحقوق بل للقمة العيش وما يسد رمقها ويهبها أوكسجين الحياة.