كانت ندى جبار أحمد (17 عامًا) ما تزال تدرس في المرحلة الثانوية، حين تفاجئت أنها ستُزف إلى رجل لا تعرفه ولم تره من قبل ويكبرها بأكثر من 20 عامًا، وسبب ذلك أنها ذهبت ضحية لحل مشكلة عشائرية سببها قتل أحد أقاربها لفرد من عشيرة ثانية، فنص الفصل العشائري على تزويج إحدى ذوات القاتل لأحد ذوي المقتول لإنهاء الخلاف، وهكذا ضحت العشيرة بندى على طريقة أعراف جاهلية العرب الأولى.
يقول والد ندى في تحقيق لقناة DW الألمانية إنه لم يكن هناك إمكانية لمخالفة الأعراف العشائرية لأنها القانون الحاكم الآن. ندى ليست حالة شاذة في المجتمع العراقي وليست الأخيرة بالطبع، وإنما جزء من عادة عشائرية لإنهاء النزاعات بإنشاء صلة قرابة، وهو ما يُعرف في العراق بـ”زواج الفصلية”.
الحكم العشائري: أين الدولة؟
تتمتع العشائر في العراق – خاصة في المناطق الجنوبية – بنفوذ كبير وسيطرة على الحياة العامة وتتدخل بطريقة فجة في كثير من الأحيان حتى في الحوادث الطبية أو حوادث السير أو شجار بين جارين أو تعنيف من مدرس لطالب لعدم حله الواجب أو خلاف بين زوجين أو مشاكل في البيع والشراء أو المعاملات الحكومية الرسمية، ولا أبالغ إذا قلت إن هذا المقال قد يكون سببًا في جر كاتبها لفصل عشائري!
يبدأ الموضوع عادة في طلب عشيرة أحد أطراف المشكلة من الطرف الآخر التحاكم إلى المحكمة العشائرية التي تُعقد برعاية عشيرة ثالثة يكون أحد أفرادها متخصصًا عادة في حل الخلافات، تسمى هذه الجلسة “الفصل العشائري”، وقد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أن الحل بسيط وهو الامتناع عن حضور مثل هذه الجلسات وينتهي الموضوع.
لكن المسألة ليست بهذه البساطة، إذ تقوم العشائر بعمل ما يُسمى “الدكة العشائرية” وهي أن تذهب مجموعة مسلحة لبيت أحد المطلوبين، ثم تطلق النار على البيت كإنذار نهائي بأن العشيرة الفلانية ستطبق الحكم العشائري من طرف واحد في عدم حضور الشخص المعني!
على سبيل المثال، يظهر في هذا الفيديو أفراد إحدى العشائر وهم ينفذون دكة عشائرية، بينما قوات الشرطة تشاهد ولا تتدخل!
إذن من أين جائت العشائر بهذه القوة؟
يتميز العراق منذ مرحلة ما قبل دخول الإسلام، بتعدد القوميات والأعراق والأديان، ولها مسالك خاصة في التعامل كمجتمعات إلى حد أن كثيرًا من المؤرخين وصفوا العراق بأنه شعوب متعددة وليس شعبًا واحدًا.
لعبت التجمعات المجتمعية المتعددة، دورًا كبيرًا عبر تاريخ العراق، فكانت إحدى العشائر “بنو شيبان” مثلًا سببًا كبيرًا في إقناع الخليفة أبو بكر الصديق بالدفع بأحد الجيوش الإسلامية – بقيادة خالد بن الوليد – للدخول إلى جنوب العراق، وهو ما حصل بالفعل، بسيطرة المسلمين على كل مناطق جنوب الفرات وصولًا إلى الحيرة “عاصمة المناذرة، القبائل الموالية للفرس في العراق وقتها”، ثم اتسعت رقعة الفتوحات ليدخل العراق وما وراء العراق كله ضمن الحكم الإسلامي.
طوال فترة الحكم الإسلامي وحتى الدولة العثمانية، كانت العشائر عنصرًا مساعدًا في التحشيد لصالح القوى المختلفة التي سيطرت على البلاد، فكان دور العشيرة يضعف ويقوى بناءً على قوة الدولة المركزية في بغداد، ثم حصل أن احتل المغول أراضي الدولة العباسية، لتدخل المنطقة في دوامة من الفوضى السياسية، انتهت مع مجيء العثمانيين بعد فتح بغداد على يد السلطان العثماني مراد الرابع عام 1638.
كان دور العشائر طوال فترة العثمانيين، يتأرجح بين القوة والضعف، يصف الكاتب والباحث الاجتماعي علي الوردي في كتابه لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الوضع بأنه كان مثل الكر والفر بين الحكومة في بغداد والعشائر، فتقوى العشائر وعاداتها تارة، ثم تضعف مع قوة الدولة المركزية تارة أخرى.
وفي المئة عام الأخيرة من حكم الدولة العثمانية، كان للعشائر الدور الأكبر في تسيير الحياة العامة نتيجة ضعف الدولة الشديد، ثم بناءً على تلك الفترة، تم الإعلان عن الدولة العراقية بالاعتراف ضمنًا بقوة العشائر ومحاولة الحصول على تأييدها.
تملك عشائر البصرة وحدها، سلاحًا يعادل فرقتين عسكريتين
طوال القرن المنصرم، منذ إعلان قيام الدولة العراقية الحديثة، كانت العشائر تلعب الدور الأكبر في الحياة الاجتماعية بدرجات متفاوتة، وبعد عام 2003، ومع وقوع البلاد تحت الاحتلال الكامل أصبحت العشائر الحاكم الأبرز والأكثر فاعلية، وفي المناطق الجنوبية، يمكن القول إنها تأتي في الدرجة الثانية بعد المليشيات، وهنا تكمن المشكلة كما سيرد بعد قليل.
ولتوضيح قوة العشائر الآن، يكفي معرفة أن عشائر البصرة وحدها، تملك سلاحًا يعادل فرقتين عسكريتين، بحسب قائد شرطة البصرة الفريق رشيد فليح!
المرأة في الأعراف العشائرية
بصورة عامة، تعيش المرأة درجة أدنى في الحياة العشائرية، ففي غالب المناطق التي تسيطر عليها العشائر، لا تملك المرأة حق الحصول على عمل، وتبقى بلا تعليم في كثير من الأحيان، كما أنها تلتزم بالأعمال المنزلية، إضافة للأعمال الزراعية في المناطق التي تحمل الطابع الزراعي، فهي تهتم بتربية المواشي والعناية بالمحاصيل الزراعية في الحقل رفقة الزوج بطبيعة الحال.
المرأة إذن تابعة للرجل تبعية كاملة دون الحصول على حقوقها التي كفلها الإسلام وحتى القانون العراقي، ويمكن القول ببساطة إنها في أغلب المناطق التي تسود بها الأعراف العشائرية تعتبر ملكية للرجل أكثر منها كيانًا مستقلًا، وهو ما يفسر استخدامها كـ”فصلية” في النزاعات العشائرية التي يكون فيها الدم حاضرًا.
يدافع أحد شيوخ العشائر في تصريح لإحدى الشبكات المحلية عن الفكرة قائلًا: “إنها وسيلة لحقن الدم، بجعل عشيرة المقتول “خؤولة” لعشيرة القاتل عن طريق الزواج من ابنتهم”!
رغم المنطق العشائري في تجميل الأمر، لكن لمحة بسيطة تعطي فكرة عن الجحيم الذي تعيشه المرأة في هذا الزواج، فهي أولًا قادمة إلى قبيلة تحمل ثأرًا على قبيلتها، وبغض النظر عن المنطق العشائري المعوج، فهذا لا يغني عن حقيقة أن كل الموضوع غرضه منح نصر لقبيلة المقتول بأخذ “سبيّة” من قبيلة القاتل على طريقة العرب قبل الإسلام، لكن المختلف هذه المرة أن العملية تتم بموافقة أهلها.
ثانيًا، لا يعتبر هذا الزواج قانونيًا بأي شكل، إذ تنص المادة 9 من قانون الأحوال الشخصية 188 لسنة 1959 على أنه:
– لا يحق لأي من الأقارب أو الأغيار إكراه أي شخص ذكرًا كان أم أنثى، على الزواج دون رضاه، ويعتبر عقد الزواج بالإكراه باطلًا إذا لم يتم الدخول، كما لا يحق لأي من الأقارب أو الأغيار منع من كان أهلًا للزواج بموجب أحكام هذا القانون، من الزواج.
– يعاقب من يخالف أحكام الفقرة (1) من هذه المادة بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات وغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا كان قريبًا من الدرجة الأولى، أما إذا كان المخالف من غيرهم، فتكون العقوبة بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنوات ولا تقل عن ثلاث سنوات.
بالتالي لا يمكن تسجيل هذا الزواج رسميًا ولا يعترف القانون بالأولاد في هذا الزواج، وما يعنيه ذلك أن هذه المرأة فقدت أي حق لها بحكم الأمر الواقع، وفقدت الحق الموضوعي بحكم القانون، على افتراض أن القانون سيجلب لها حقًا!
ميزان مختل
إضافة لمخالفتها كل الشرائع السماوية والأعراف والمنطق الإنساني، تكمن مشكلة التدخلات العشائرية في أنها قوة إضافية إلى كفة في ميزان اجتماعي وسياسي مختل أصلًا في العراق وقوة ظلم تُضاف إلى قوى الظلام التي تعيث في البلد فسادًا، ففي غياب القانون، يكون تعدد القوى المجتمعية سببًا في تحقيق العدالة أمام قوى أخرى أحيانًا، لكن ما يحصل في العراق هو العكس، والمليشيات مثال على ذلك.
المئات من أبناء تلك القبائل، يُقتلون في العراق، دون أن يكون هناك من يحميهم في بلد لم تعد تحكمه عدالة الإسلام ولا أخلاق العرب
فالقوات الأمنية العراقية تعيش في معزل تام عما تفعله المليشيات من قتل للناشطين وغير الناشطين في البلد، وبغياب قوة القانون، ربما يكون الحل الأفضل، وجود قوة رادعة أخرى يمكنها صنع نوع من التوازن وتحقيق العدالة – كأمر واقع مؤقت – إلى حين استتباب الأمن والقانون.
كان يمكن للعشائر في العراق أن تكون المعادل الاجتماعي الآخر للمليشيات، فتكون الكفة متساوية بوجود قوة ردع أمامها، وقل مثل ذلك أمام انتهاكات الشرطة والجيش، فهل هذا حاصل في العراق؟ لا بالطبع.
يمكن لأي مراقب أن يرى حجم الاشتباكات المسلحة بين العشائر من أجل أسباب بسيطة لا تختلف – بلا مبالغة – عن المشاكل التي كانت تعيشها العرب أيام جاهليتها الأولى.
لكننا لم نشهد يومًا، أن عشائر الـ600 شهيد الذين سقطوا في احتجاجات 2019، أخذوا ثأرًا أو وجهوا تهديدًا لأي من قاتليهم، لم نشهد يومًا أن عشيرة مخطوف سعت لتحرير أحد أبنائها رغم معرفة الجميع بالجناة سواء كانوا من المليشيات أم من قوات الأمن، فكل الأطراف لهم عشائر أيضًا.
هكذا يكون الميزان مختلًا في كل مقاييسه! يمكن أن يُذبح العشرات في معركة عشائرية بسبب ناقة أو دجاجة عبرت أرض هذه القبيلة أو تلك، لكن المئات من أبناء تلك القبائل، يُقتلون في العراق، دون أن يكون هناك من يحميهم في بلد لم تعد تحكمه عدالة الإسلام ولا أخلاق العرب ولا حتى حمية الجاهلية الأولى.