يعد ملف سلاح العراق من أعقد الملفات التي يمكن طرحها في وسائل الإعلام، فتعدد الأجهزة والوكالات الأمنية والجهات التي تمتلك السلاح وأعداد الجنود والموازنات المخصصة للتسليح والأمن تجعل فتح هذا الملف غاية في الصعوبة، خاصة مع افتقار العراق للإحصاءات الحكومية الدقيقة.
يقرأ هذا التقرير -وهو الأخير ضمن ملف “سلاح العراق” الذي ينشره لـ”نون بوست”- في معادلة الموازنة بين التسليح في العراق وما أنفق على الأجهزة الأمنية منذ الغزو الأمريكي ومقارنة ذلك مع ترتيب العراق عالميًا في مؤشر الأمن الدولي وأعداد منتسبي القوات الأمنية الحاليّة في مختلف صنوفها.
أعداد القوات العراقية
في سلسلة التقارير عن ملف سلاح العراق، استطاع موقع “نون بوست” التوصل لرقم تقريبي لأعداد القوات الأمنية في العراق بمختلف صنوفها، فبحسب ضابط رفيع المستوى عمل في الجيش العراقي الحاليّ حتى وقت قريب (متقاعد حاليًّا) ، فإن تعداد الجيش عام 2020 بلغ 310 آلاف منتسب مدني وعسكري، وأن الجيش يضم 14 فرقةً عسكريةً منتشرةً في مختلف المحافظات باستثناء إقليم كردستان.
أما أعداد قوات الأمن التابعة لوزارة الداخلية، فقد شهدت الوزارة توسعًا هائلًا في أعداد منتسبيها بعد الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003، ففي الوقت الذي لم يكن يتجاوز عدد المنتسبين للوزارة 40 ألف بحسب إحصاءات ما قبل الغزو، أشار المتحدث السابق باسم وزارة الداخلية عبد الكريم خلف إلى أن أعداد المنتسبين للوزارة عام 2018 وصل إلى 650 ألف منتسب، يشمل ذلك المتطوعين في الوزارة العسكريين منهم والمدنيين.
أعداد قوات النخبة العراقية تقارب 16 ألف عنصر أمني بين ضابط وجندي
أرقام صادمة تلك التي يملكها العراق في تعداد قواته الأمنية، إذ أشارت موازنة عام 2021 إلى أن أعداد منتسبي هيئة الحشد الشعبي تقدر بنحو 160 ألف عنصر، أما قوات البيشمركة فيبلغ عددها نحو 160 ألف عنصر أيضًا بحسب ما أكده أمين عام وزارة البيشمركة الفريق جبار ياور في حديث لإحدى وسائل الإعلام.
وكان الخبير الأمني العراقي سرمد البياتي قد أكد في وقت سابق في حديثه لـ”نون بوست” أن أعداد قوات النخبة العراقية أو ما يعرف بـ”جهاز مكافحة الإرهاب” تقارب 16 ألف عنصر أمني بين ضابط وجندي.
أرقام صادمة
بمعادلة رياضية صغيرة، وباحتساب مجموع أعداد القوات الأمنية في العراق وفق البيانات التي عمل عليها موقع “نون بوست” يتبين أن العراق يمتلك قرابة مليون و294 ألف عنصر أمني باستثناء أعداد منتسبي جهاز المخابرات العراقي الذين لا تتوافر إحصاءات دقيقة عن أعدادهم.
وإذا ما قورنت هذه الأرقام مع تعداد سكان العراق الذي وصل إلى 40 مليون نسمة وفق آخر إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط العراقية، فإن كل 40 عراقيًا يحظون بحماية عنصر أمني ضمن الدولة العراقية.
ويتضح من هذه المعادلة أن الشعب العراقي يحظى بأعلى نسبة من قوات الأمن في العالم، وهذا ما قد يعطي انطباعًا أن العراق يعد من أكثر دول العالم أمانًا وفقًا للأرقام، إلا أن الواقع يشي بخلاف ذلك.
ونظرًا للأعداد الكبيرة لأفراد القوات الأمنية العراقية بكل صنوفها، فقد أنفق العراق مليارات الدولارات على مدى الـ18 عامًا الماضية كموازنات لوزارتي الدفاع والداخلية، إلا أن هذه الموازنات لم تترك أثرًا كبيرًا واضحًا في الأمن الداخلي للبلاد.
وخصص العراق في موازنته العامة لهذا العام 2021 موازنة قدرها 18.7 مليار دولار للأجهزة الأمنية، وتشمل النفقات التشغيلية وتسليح الجيش وهيئة الحشد الشعبي وجهاز مكافحة الإرهاب ووزارة الداخلية بجميع مؤسساتها الأمنية.
كما أن نص مشروع الموازنة الاتحادية للعراق لعام 2021 تضمن طلب قروض من جهات دولية لتسليح المؤسسات الأمنية العراقية، بمجموع قروض تبلغ قيمتها 600 مليون دولار، ليبلغ الإنفاق العسكري الكلي نحو 16.6% من الإنفاق العام للبلاد.
وفي هذا الصدد، يقول الضابط السابق في الجيش العراقي حسين العنزي: “هذه الموازنات الانفجارية للقوات الأمنية العراقية كانت كفيلة بجعل العراق من أقوى دول العالم على مستوى القوة والجاهزية”.
ويشير العنزي في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن مجموع ما أنفقه العراق على القوات الأمنية يزيد على 100 مليار دولار، وهذا الرقم لا يشمل قيمة السلاح والعتاد الذي حصل عليه العراق كهبات دولية من الولايات المتحدة الأمريكية أو من حلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ عام 2003.
وعن السبب الذي أدى لعدم استثمار العراق هذه الأموال، أوضح العنزي أن الفساد في الوزارات الأمنية (الداخلية والدفاع) ولجنة الأمن والدفاع البرلمانية يعد الأوسع على الإطلاق في البلاد، مستدلًا بالأسلحة التي استوردها العراق خلال العقدين الماضيين وتبين أنها قديمة وفيها مغالاة كبيرة، فضلًا عن أن جزءًا كبيرًا منها كان قد خرج من الخدمة من الدولة الموردة لها.
العراق فيه عدد كبير من القوات الأمنية، والدول الحديثة باتت تعتمد على التكنولوجيا الحديثة والجيوش ذات التدريب العالي في حماية البلاد خارجيًا وداخليًا
ويستدل العنزي على ذلك بسقوط المروحية Mi-17 قبل أيام في منطقة آمرلي بمحافظة كركوك شمال بغداد ومقتل 5 عسكريين عراقيين كانوا على متنها، لافتًا إلى أن هذه المروحية كانت ضمن سرب طائرات من ذات النوع استوردها العراق عام 2009 في حكومة رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي.
ويتابع العنزي حديثه لـ”نون بوست” مشيرًا إلى أن هذه الطائرة كانت قد خرجت من الخدمة في روسيا منذ سنوات، وامتنعت الأخيرة عن تقديم خدمات الصيانة وقطع الغيار لها بسبب تقادمها وعدم فعاليتها القتالية.
ويؤشر العنزي سببًا آخر لتبديد الأموال المخصصة للأجهزة الأمنية العراقية على مدى الـ18 عامًا الماضية، لافتًا إلى أن العراق فيه عدد كبير من القوات الأمنية، وأن الدول الحديثة باتت تعتمد على التكنولوجيا الحديثة والجيوش ذات التدريب العالي في حماية البلاد خارجيًا وداخليًا، دون الحاجة لهذا الكم الهائل من الجنود، مستدلًا بالتجربة الصينية التي يربو عدد سكانها على 1.4 مليار نسمة دون أن تكون لها نسبة كبيرة من القوات الأمنية كما في العراق.
التصنيف العالمي
صنف مؤشر السلام العالمي لعام 2021، قطر الأولى عربيًا فيما احتل العراق المرتبة الـ159 عالميًا من مجموع 163 دولة شملها مسح المؤشر، وسبق العراق كلًا من اليمن وأفغانستان وسوريا وليبيا.
ويعتمد تقرير مؤشر السلام العالمي على ثلاثة معايير رئيسية في تصنيف الدول على مستوى الأمن، إذ يتمثل المعيار الأول في مستوى الأمن والأمان الداخلي في المجتمع، بينما يعتمد المعيار الثاني على وضع الصراع المحلي والعالمي المؤثر في الدولة، في حين يعتمد المعيار الثالث على درجة تزود البلاد بالقوة العسكرية.
في غضون ذلك، وضع تصنيف غلوبال فاير باور لعام 2021 العراق في المرتبة الـ6 من حيث القوة على مستوى الدول العربية، بينما حل العراق في المرتبة الـ57 عالميًا من مجموع 140 دولة شملها مسح المؤشر.
ويعتمد هذا المؤشر على عوامل عدة في التقييم العسكري منها أعداد أفراد القوات العسكرية نسبة لعدد السكان، إضافة إلى التجهيزات العسكرية والتسليح والدفاع الجوي وسلاح الجو والدبابات وناقلات الجند المدرعة وسلاح الهندسة.
واقع أمني مترد
يحظى العراق بأعلى معدل للقوات الأمنية في العالم نسبة لعدد سكانه، إلا أنه لا يكاد يمر يوم في البلاد دون تسجيل حادث جنائي أو إرهابي نتيجة هجوم تنظيم داعش على النقاط العسكرية أو التجمعات المدنية.
ويعزو ضابط سابق في القوات الأمنية العراقية قبل الغزو ذلك إلى أن غالبية الأجهزة الأمنية في البلاد تفتقر للمؤهلات اللازمة، فضلًا عن افتقارها للروح المعنوية من أجل حماية البلاد خارجيًا وداخليًا.
ولا يخفي المصدر الذي فضل عدم كشف هويته أن العراق حقق خلال الأعوام الثلاث الماضية قفزة نوعية في ضبط الأمن من ناحية كشف الجرائم والتحقيقات الجنائية ومكافحة المخدرات، غير أنه يرى أن تراكمات 18 عامًا لا يمكن حلها سريعًا، وبالتالي يحتاج العراق لإعادة هيكلة أجهزته الأمنية وإعادة توجيه عناصرها بما يخدم الهدف الأمني الذي تنشده كل من وزارتي الدفاع والداخلية مع ضرورة تدريب الضباط على أحدث وسائل الأدلة الجنائية والتحقيقات والاستخبارات والتجسس.
وكان العراق قد شهد عام 2020 ارتفاعًا كبيرًا في أعداد الجرائم، إذ سجّلت البلاد أكثر من 4700 حالة، بحسب جمال الأسدي المدير العام لدائرة التدريب والتأهيل في وزارة الداخلية العراقية الذي أكد أن هناك تصاعدًا مخيفًا للجرائم في البلاد.
العراقيون لا يزالون يعانون من الأوضاع الأمنية السيئة بعد 18 عامًا على الغزو، وسط غياب إستراتيجية حكومية فاعلة لحلحلة الملف الأمني
ولفت الأسدي إلى أن العراق يعد الدولة الأولى عربيًا في أعداد حالات القتل وبنسبة سنوية بلغت أكثر من 11.5% لكل مئة ألف نسمة.
من جانبه، يؤكد مسؤول أمني في وزارة الداخلية العراقية، أن ضحايا الجرائم المنظمة الناتجة عن السرقة والسطو المسلح والخطف وتجارة المخدرات والابتزاز والنزاعات العشائرية وغيرها باتت تتجاوز ضحايا العمليات الإرهابية في مناطق كثيرة من البلاد.
ويتابع المسؤول في حديثه لإحدى وسائل الاعلام أن ضبط السلاح المنفلت لم يعد شعارًا سياسيًا أو محاولة لفرض هيبة الدولة العراقية بقدر ما بات ضرورة لحماية المجتمع وأرواح المواطنين من الإزهاق.
وأرجع المصدر سبب هذا الارتفاع في معدلات الجريمة للوضع الاقتصادي الصعب في البلاد وارتفاع نسب البطالة بين الشباب، فقد وصلت بحسبه إلى 40%، إضافة إلى انخفاض معدلات الدخل ما يدفع الشباب للهجرة أو البحث عن وسائل غير شرعية للحصول على المال.
يبقى ملف سلاح العراق أحد أهم الملفات التي لا تزال تشهد زخمًا إعلاميًا وسياسيًا في حياة العراقيين اليومية، فرغم تجاوز أعداد القوات الأمنية المليون جندي، فإن العراقيين لا يزالون يعانون من الأوضاع الأمنية السيئة بعد 18 عامًا على الغزو، وسط غياب إستراتيجية حكومية فاعلة لحلحلة الملف الأمني الذي أزهق أرواح مئات آلاف العراقيين وأهدر أموالهم.