يعتقد كثيرون أن التحرّش مرتبط بالفقر، والكبت الجنسي، وأن مجتمعات يتفشى فيها التحرش مثل مجتمعنا ستكون أفضل إذا تحسنت فيها ظروف المعيشة بشكل عام. على الناحية الآخرى، يرى آخرون أن ما ترتديه النساء في المجال العام هو الدافع الأساسي للظاهرة، فلو التزمت جميع النساء بما يجب عليهن ارتداؤه (وهو أمر متفاوت بين المدارس والمذاهب والأديان) لانحسرت الظاهرة. يأتي الرد دفاعًا عن النساء من هذا الاتهام، فيُقال بأن التحرش يطال حتى الملتزمات والمنقبات. الأمر محيّر إذن، هل هو كبت الرجال أم ملابس النساء؟ في الواقع، لا هذا ولا ذاك، يبدو أنه حتى حين يجتمع يُسر الحال مع تواضع الملبس، يظل التحرش موجودًا.
انتشر مؤخرًا على اليوتيوب فيديو مصوّر لشابة أمريكية تجوب شوارع نيويورك لعشر ساعات، ويُظهر كيف يتم التحرّش بها لفظيًا أكثر من ١٠٠ مرة. الفيديو الذي تمت مشاهدته أكثر من ١٤ مليون مرة منذ وُضِع على الموقع يوم ٢٨ أكتوبر، ترتدي فيه الشابة ملابس متواضعة وبسيطة، وتسير في مقاطعة منهاتن.
للوهلة الأولى، سيبدو للمشاهد العربي أن الجلبة التي سيحدثها الفيديو فيما بعد منصبة بالأساس على التحرش وانتشاره من عدمه في الولايات المتحدة، وسيفوته أن يلحظ أن معظم المتحرشين في الفيديو هم من الأمريكيين الأفارقة واللاتينيين. ولكن المشاهد الأمريكي الأكثر حساسية لهذه المسألة لم يفته ذلك، وهو ما دفع الكثيرين إلى الانفجار على تويتر وغيره من مواقع مطالبين بمعرفة الأسباب وراء عرض الفيديو لمتحرشين فقط من الأقليات العرقية، في حين أن تعدادهم في منهاتن لا يزيد عن ٢٠٪، وتناسى الجميع أصلًا موضوع التحرش.
جاءت تبريرات المخرج، روب بليس، واهية للغاية، وهو ما أجج نار الحديث حول الفيديو. كانت التبريرات أنه لم يكن ممكنًا إظهار كافة حوادث التحرش اللفظي لأن البعض إما شوّشت عليه الضوضاء في الشارع أو كان صعبًا إخراجه بشكل جيد. يتساءل دانييل جرينفيلد الصحافي بموقع “فرونت ماج” ما إذا كانت مانهاتن متحيزة في ضوضائها بدرجة تجعلها تشوّش على تحرش البيض دون غيره. إحدى حجج المخرج كانت أن معظم ما قاله البيض كان عابرًا، أو غير مهم، وهي إشارة ضمنية إلى أن معظم ما قاله البيض لم يكن شديدًا مثلما صدر عن غير البيض. هل يعني هذا أن الأقليات أكثر بذاءة مثلًا؟ هكذا يتساءل جرينفيلد.
يشير موقع “سليت” الشهير إلى أن المخرج بليس نُشر له فيديو في السابق يعاني من نفس المشكلة، وهي عدم إظهار التعدد العرقي بشكل كافي وسليم. هل كان الفيديو مقصودًا إذن؟ يدافع بليس ويقول أن الأمر كان عشوائيًا تمامًا، وأن ما جرى هو أن الحوادث المائة التي اختيرت لم يكن من بينها حوادث تحرش قام بها البيض. يمكنك أن تُقنع البعض أن أول خمسة وقفوا في محل لشراء خبز كانوا بيض، أو أن أول ثلاثة زاروا حديقة ما كانوا من السود. هذه الأمور عشوائية لهذه الدرجة. ولكن عشر ساعات في شوارع نيويورك، وبعد تحرير ومونتاج الفيديو، تُظهِر فقط أقليات معينة دون غيرها في مدينة بيضاء بالأساس؟ كان صعبًا تصديق بليس.
يشير إيوان بالمر، كاتب بموقع إنترناشونال بزنس تايمز، أن مقارنة فيديو بليس بفيديو آخر عن التحرش في مقاطعة جراند رابيدز في ميتشجان، وهي مدينة نصفها تقريبًا من غير البيض، ستكون مفيدة لدحض دعاوى بليس.فالفيديو يُظهر بوضوح الكثير من البيض وهم يتحرشون لفظيًا. هذا بينما ردت الصحافية أبي ويلكينسون على حجة بليس ببساطة عبر حسابها على تويتر قائلة: “المشكلة أنه كان عليهم تصوير المزيد من البيض لإخراج الفيديو إن كانت فعلًا معظم مقاطع البيض عير مناسبة من الناحية التقنية.”
عائشة صديقي، رئيسة تحرير “نيو إنكاويري” نشرت ردًا أكثر غضبًا عبر حسابها على تويتر قائلة: “تصوير فتاة بيضاء لتجريم رجال سود لأنهم يقولون لها صباح الخير؟ هل أنتم متأكدون من أن المساواة التي تتدعونها ليست سوى طبقية وعنصرية؟”.
لا يزال الفيديو الذي لم يمر أسبوع على نشره على يوتيوب يثير المزيد على الإنترنت، وأصبحت السجالات بشأنه بالأساس عن العنصرية لا التحرش. قدمت الشركة المنتجة اعتذارًا عن أي سوء فهم تجاه الفيديو، بينما يستمر المخرج في محاولة تبرئة نفسه من تهمة التعمد في إخراج الفيديو بهذا الشكل العنصري في مواجهة الاتهامات الموجهة إليه. يبدو أن العنصرية لم تعد بالكامل صفحة مطوية من الماضي الأمريكي، وأنها لا تزال حاضرة بما يكفي للهيمنة تمامًا على مسألة التحرش وحقوق المرأة والمساواة بين الجنسين في الولايات المتحدة.