بعد المحامين، جاء الدور الآن على القضاة للتعبير صراحةً عن رفضهم لما وصفوه “إجراءات الرئيس التعسفية وتعدي السلطة التنفيذية على السلطة القضائية وسلطات المحاكم”، ما يعني أن جبهة المقاومة السلمية لانقلاب سعيد بدأت تتسع شيئًا فشيئًا، ما سيجعل الرئيس في ورطة بعد أن ظن أن الطريق معبد أمامه لخلق نظامه الاستبدادي.
إجراءات تعسفية شملت القضاة أيضًا
مباشرة إثر إعلانه الانقلاب على الدستور ومؤسسات الدولة الشرعية عبر تجميد عمل البرلمان وغلق أبوابه بآليات عسكرية وإقالة رئيس الحكومة ومنعه من الظهور الإعلامي ورفع الحصانة عن النواب وترؤسه النيابة العسكرية، بدأ الرئيس قيس سعيد في إجراءاته التعسفية التي شملت القضاة أيضًا.
لم يستسغ سعيد رفض القضاة قراره ترؤس النيابة العامة، الذي اتخذه من جملة قرارات انقلابية على السلطات الثلاثة في البلاد، حيث تم التأكيد له على استقلالية السلطة القضائية وألا سلطان على القضاة غير القانون، وضرورة النأي بهم عن كل التجاذبات السياسية، لذلك قرر الانتقام ما داموا ليسوا في صفه، فهو يعمل بمبدأ من ليس معي فهو ضدي.
يعمل سعيد جاهدًا للتحكم في القضاء ووضعه تحت وصايته قصد توظيفه لخدمة أجنداته السياسية والتنكيل بمعارضيه ومنافسيه
ضمن الإجراءات التعسفية التي اتخذت في حق القضاة، وضعهم جميعًا تحت طائلة الاستشارة الحدودية “S17” قبل السماح لهم بمغادرة البلاد، فضلًا عن منع عدد منهم من السفر أو تعطيل سفرهم دون أذون قضائية ودون الرجوع إلى المجلس الأعلى للقضاء، كما حصل مع قاضية مباشرة بالمحكمة الابتدائية بقرمبالية.
إلى جانب ذلك، تم وضع قاضيين حتى الآن – وهما بشير العكرمي وكيل الجمهورية السابق بتونس، والطيب راشد الرئيس الأول لمحكمة التعقيب – تحت الإقامة الجبرية بقرار إداري من المكلف بتسيير وزارة الداخلية طبق الأمر 50 لسنة 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ والمخالف للدستور التونسي لسنة 2014.
ويقتضي إخضاع القاضي إلى الإقامة الجبرية، إعلام المجلس الأعلى للقضاء مسبقًا بحقيقة ما ينسب إليه من نشاط يمكن أن يشكل خطرًا على الأمن والنظام العامين، والحصول على الموافقة المسبقة للمجلس قبل اتخاذ ذلك الإجراء، وهو ما لم يحصل في هذه الحالة.
رفض وتنديد كبير
لم يصمت القضاة التونسيون، فقد طالب عدد منهم السلطات (في يد قيس سعيد) بالتراجع عن هذه الإجراءات التعسفية التي اتخذتها بحق قضاة، وحذر 45 قاضيًا ومستشارًا مما وصفوه بتعدي السلطة التنفيذية على السلطة القضائية وسلطات المحاكم، وطالبوا بأن يكون اتخاذ أي إجراءات وفقًا للشفافية والحياد، وفي أجل معقول.
أعرب هؤلاء القضاة في بيان يحمل توقيعاتهم، عن صدمتهم من “الانزلاق الخطير الذي تردت إليه السلطة التنفيذية في تعاملها مع السلطة القضائية بالتعدي على سلطات المحاكم واختصاصات المجلس الأعلى للقضاء”.
وترى جمعية القضاة التونسيين أن “تطبيق إجراءات حالة الطوارئ على القضاة – في تجاوز لصلاحيات المجلس الأعلى للقضاء الضامن لموجبات استقلالهم والقائم بمسؤولية محاسبتهم – من شأنه أن يشيع أجواء الخوف والترهيب في صفوف كل أعضاء السلطة القضائية، بما يؤثر سلبًا على استقلالهم وحيادهم”.
بدوره انتقد رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء أحمد الرحموني، التمشي الذي يتبناه قيس سعيد في مواجهة القضاء الذي ظهر من خلال الإجراءات والمعاملات التي تستهدف تطويقه والحد من سلطاته وذلك من خلال التوجه إلى تفضيل القضاء العسكري في تتبع المدنيين على القضاء المدني وتولي رئاسة النيابة العمومية، رغم أن الدستور يقتضي التخلي عن تبعية النيابة للسلطة التنفيذية وتمتعها بالضمانات المكفولة للقضاة الجالسين.
يعمل سعيد جاهدًا للتحكم في القضاء ووضعه تحت وصايته قصد توظيفه لخدمة أجنداتها السياسية والتنكيل بمعارضيه ومنافسيه، ولا يُعتبر استغلال القضاء التونسي لأغراض سياسية وليد اليوم، فقد بدأ مع دولة الاستقلال، إذ عمل الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة على إخضاع القضاء لسلطته بهدف الانفراد بالحكم وإضعاف خصومه الذين تعددت توجهاتهم، بدءًا من الإسلاميين واليساريين وصولًا إلى القوميين.
نفس الأمر بالنسبة للرئيس الراحل زين العابدين بن علي الذي كرس القضاء لضرب خصومه السياسيين على رأسهم الإسلاميين، إذ سيطر النظام السابق وهيمن على القضاء بشكل كبير من خلال فرض وصايته على المحاكم بوسائل شتى ومن خلال تطويع القانون الأساسي المنظم للمهنة وفقًا لمصالحه.
تنوعت أشكال الهيمنة والتدخل في شؤون السلطة القضائية، فقد أنشأ بن علي محاكم استثنائية مثل محكمة أمن الدولة، ودجن عمل المجلس الأعلى للقضاء، أما سعيد فقد استغل قانون الطوارئ للتنكيل بالقضاة الذين رفضوا الانخراط في برنامجه المشبوه وأصروا على استقلالية القطاع.
ويرى العديد من التونسيين أن ضرب استقلالية القضاء، يتنزل ضمن برنامج قيس سعيد، لذلك وجب عليهم المقاومة والتصدي للقرارات والإجراءات الاستثنائية الصادرة عن رئاسة الجمهورية، فلا ديمقراطية فعلية دون استقلالية القضاء، وإعمال القانون وضمان العدالة.
حتى المؤيدين استشرفوا الكارثة
عقب الانقلاب مباشرة، خرجت القيادية في حزب التيار الديمقراطي تهلل لإجراءات الرئيس “التاريخية” وفق وصفها وتدعو للمزيد كونها جاءت لاسترجاع الدولة وإيقاف العبث، لكن يبدو أنها بدأت تتراجع عن موقفها الأول بعد أن استشرفت حجم الكارثة المقبلة عليها تونس.
عبو قالت في حوار إذاعي أمس، إنها لا تريد دولة النهضة ولا دولة قيس سعيد، إنما دولة الشعب والقانون والمؤسسات، وأكدت أنه لا سبيل إلى الانقلاب على الدستور والذهاب نحو دولة الشخص الواحد وغلق البرلمان، وذلك بعد أن تأكدت من نوايا سعيد “الخبيثة”.
بعد أن أقدم سعيد على إجراءاته الانقلابية تيقن صعوبة المضي فيها، خاصة إزاء الرفض الداخلي والخارجي الكبير لتعطيل مؤسسات الدولة
رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسى، التي أكدت اصطفافها منذ البداية إلى جانب قيس سعيد وطالبته بإجراءات عملية ضد حركة النهضة، وادعت أنها هي التي وفرت الأرضية المناسبة لقرارات 25 من يوليو/تموز 2021، يبدو أن هي الأخرى بدأت تراجع موقفها.
عشية أمس الإثنين خرجت موسى في مسيرة صحبة عدد من أعضاء حزبها احتجاجًا على منعهم من تنظيم مؤتمرهم الانتخابي، لكن تم منع مسيرتهم أيضًا المتجهة نحو قصر قرطاج، ما جعلها تحمل سعيد مسؤولية أي ضرر أو إقامة جبرية أو سجن أو تهديد من أي نوع قد يطالها مع أعضاء حزبها خلال الأيام القادمة.
سعيد في ورطة
بعد أكثر من أسبوعين على إجراءاته الانقلابية، يجد سعيد نفسه في ورطة فهو لم يتخذ إلى حد الآن أي إجراء لمكافحة الفساد، إذ تسبب فقط في سجن بعض النواب المناهضين للفساد وأقال بعض الوزراء والمسؤولين الذين لم يثبت فسادهم أو تعطيلهم لعمل الدولة، خاصة أن فيهم من هو محسوب عليه.
كل يوم يخرج أحد مستشاريه للتأكيد على قرب عرض خريطة الطريق للمرحلة القادمة لكن لم يحصل أي شيء بعد والمدة المتبقية على انتهاء تجميد عمل البرلمان قاربت على الانتهاء، فهذا الإجراء إن صدقنا كلام سعيد ينتهي يوم 27 من أغسطس/ آب الحاليّ.
هذا يعني أن سعيد وضع نفسه في ورطة، فبعد أن أقدم على إجراءاته الانقلابية تيقن صعوبة المضي فيها، خاصة إزاء الرفض الداخلي والخارجي الكبير لتعطيل مؤسسات الدولة والدستور والضغوطات الممارسة عليه لعودة المسار الديمقراطي في تونس، حتى لا تنزلق البلاد نحو الفوضى.