لا شك أن الدولة القطرية تملك أهمية كبرى في المنطقة في هذه الأوقات، لاسيما بعدما شكلت سياستها الخارجية نوعًا من الثنائية في الشرق الأوسط، وبعد تفكيك حالة الصوت الواحد في الداخل الخليجي تحديدًا وفي باقي المنطقة عمومًا.
مرت السياسة الخارجية القطرية بنقاط ومرتكزات هامة شكلت على إثرها حالات جديدة للتعامل مع الواقع العربي بكافة متغيراته، بل وأصبحت عاملاً في قضايا إقليمية ودولية؛ وذلك أوجب رصد ومتابعة أي تغير يطرأ على هذه السياسة ومنطق تعاملها مع متغيرات المنطقة الساخنة.
فبعدما حصرت قطر دورها في دولة لفك الاشتباك في نزاعات إقليمية من خلال مبدأ الوساطة باستضافة مؤتمرات لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء في عدة قضايا إقليمية، كالنزاع في السودان وكذلك الخلاف الفلسطيني -الفلسطيني، تحولت قطر بعد ذلك إلى الدولة الفاعلة صاحبة الدور الهام في مختلف الشئون العربية، وخرجت بهذا خارج الخط الخليجي المنضبط وأصبحت تغرد وحدها بعيدًا عن السرب، بل وأنشأت سربها الخاص.
ظهر ذلك جليًا في موقفها من الربيع العربي على عكس نظيرتها الجاره “المملكة العربية السعودية”، التي شكلت تحالفًا مع الدولة الصاعدة حديثًا على ساحة السياسية العربية بطريقة فاعلة “الإمارات”، والتي تسير في اتجاه صراع ثنائي مع قطر، شُكل هذا التحالف للإجهاز على الربيع العربي قبيل انتقال صداه إلى منطقة الخليج وهو ما حذرت منه الدولتان قطر، بسبب موقفها الداعم لمعظم الثورات في الربيع العربي باستثناء موقف متململ من الحراك البحريني لاعتبارات خليجية بحتة.
لم تكتفي الدولة القطرية باللعب في المنطقة كقوة منعزلة عن القوى الفاعلة في المنطقة كإيران وتركيا ومصر والسعودية، فالتقارب الإيراني القطري واضحًا وملموسًا بشواهد عدة، وأبرزها العرض القطري لإيران لمساعدتها في استخراج الغاز الإيراني من حقل الشمال، كذلك تردد الأنباء عن استعداد الدولتين للقيام بمناورات عسكرية مشتركة وهو ما يوضح مدى متانة العلاقات بين الدولتين.
أما عن العلاقات التركية – القطرية فهي في حالة من التناغم إزاء قضايا المنطقة، وخصوصًا القضيتين المركزيتين الآن المصرية والسورية.
هاتين القضيتين بهما من التفاهم بين قطر وتركيا ما يدع القول بأن الدولتين أصبحتا طرفين مباشرين في الصراع الدائر بمصر وسوريا، وذلك بموقف دعم الإسلام السياسي في مصر المنقلب عليه ودعم الفصائل المسلحة ضد نظام بشار الأسد في سوريا.
لا تقف العلاقات التركية القطرية عند هذا الحد السياسي بل ثمة ارتباط اقتصادي مهم، يتمثل في التعاون في مجال الطاقة بعد الأزمة التي حدثت في تركيا، نتيجة توسعها في استخدام الطاقة؛ ما دعت الحاجة لإيجاد مصادر طاقة جديدة، وهو ما تمثله قطر أحد أبرز مصدري الغاز في العالم والذي لا شك أن تركيا بحاجة إليه، وهذا التعاون السياسي والاقتصادي أكدته زيارة الأمير الشاب “تميم” إلى تركيا في فبراير الماضي.
وفي شأن العلاقة بمصر ظهر موقف قطر جليًا من دعم الثورة المصرية في كافة مراحلها منذ إسقاط حكم مبارك إلى مرحلة الانقلاب على الرئيس السابق محمد مرسي، فقد كان لقطر دأبٌ ملحوظ في محاولة الصعود على الدور المصري الإقليمي بل وإعلان نفسها شرك إقليمي لا يغفل، اتضح في عدة مواقف أبرزها موقفها من انتخاب الأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية “نبيل العربي”، واشتراط دولة قطر عدم ترشيح شخصية محسوبة على نظام المخلوع مبارك لدعم مرشح مصر؛ مما اضطر مصر لتغيير مرشحها بالفعل.
وبجانب آخر من العلاقات المصرية القطرية كان الاختيار القطري بدعم مطلق لتيار الإسلام السياسي في مصر وعلى رأسه “جماعة الإخوان المسلمين”، على عكس رغبة المؤسسة العسكرية في مصر حتى وصل بالفعل أحد قيادات الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر، وهو انتصار سياسي لقطر بأي حال من الأحوال، فكان الدعم القطري للنظام الذي يرأسه أحد حلفاء دولة قطر والذي سقط بعد أقل من سنة على يد المؤسسة العسكرية حتى دخلت قطر في صراع مع إرادة المؤسسة العسكرية المصرية؛ الأمر الذي جعل النظام الجديد يتهم الرئيس السابق محمد مرسي بالعمالة لدولة قطر، بل وصل الأمر بالسلطات في مصر لتحريض أبواق إعلامية موالية للسلطة لتكيل الاتهامات لدولة قطر وتحميلها المسئولية عما يحدث في مصر في محاولة لتوريطها في الصراع الدائر عقب الانقلاب العسكري.
استمر الدعم الإعلامي والسياسي بعد الإطاحة بحكم الرئيس السابق محمد مرسي لجماعة الإخوان المسلمين، مع محاولات لتهدئة الأوضاع مع الواقع المصري الجديد من خلال الدبلوماسية والقوة الناعمة، مع التأكيد على أن قطر تدعم الشعب المصري لا تدعم الحكومات، لكن ثمة حملة إعلامية مازالت مستمرة بين البلدين، مع استمرار محاولات قطرية لعدم الدخول في صراع صفري مع الدولة المصرية بواقعها الجديد، وهو ما ظهر في قرار قطر الأخير بإبعاد 7 من قيادات جماعة الإخوان المسلمين وسياسييها من العاصمة القطرية الدوحة، هذا القرار يصفه البعض بأنه إعلاميًا أكثر منه واقعيًا لتهدئة الأجواء مع مصر، ويعزز ذلك عدم تنفيذ القرار بشكل عملي فيما يخص جميع القيادات.
فيما فسر بعض المتابعين أن هذا القرار أصبح صياغة جديدة لشكل السياسة الخارجية القطرية، والتي يتنبأ لها البعض بالعودة لطورالبداية كدولة لفك الاشتباك في النزاعات، والتأكيد على أن قطر تجيد هذا الدور تمامًا، وهو ما ستسعى له قطر الفترة القادمة في الحالة المصرية بعدم إعلان مساندة فصيل بعينه، خصوصًا بأن الظرف الإقليمي لا يساعد على إحراز أي تقدم بنفس السياسات السابقة، ولكن في انتظار مزيد في الخطوات لترجيح هذا الاحتمال.
وعلى هذا يمكن تفسير العلاقات القطرية – السعودية الملتهبة دائمًا في الفترة الأخيرة بأنها ضغوط تمارس من الثانية على الأولى للرجوع إلى الخلف، فيما يخص سياستها الخارجية وذلك بعد أزمة سحب السفراء من قطر، وهو ما كان بإيعاز واضح من المملكة العربية السعودية والتي سبق وقد أشرنا إلى أنها تقود تحالفًا إقليميًا يبدو وأنه مدعوم دوليًا للانقضاض على بقايا الربيع العربي، وهو ما حاولت قطر تلافي حدوثه ولكن يبدو أن الظرف كان أكبر من قدراتها.
قطر والالتحام مع القوى الدولية خارج نطاق الإقليم
حاولت قطر الظهور على الساحة الإقليمية والدولية بكل ما تملكه من إمكانيات، وظهر ذلك في تسخيرها لإظهار اسم قطر في العديد من المحافل الدولية، كان أبرزها الجدل الذي أُثير في قضية حصول قطر على حق تنظيم كأس العالم لكرة القدم في العام 2022 والمجهود المبذول للحصول على هذا الحق، كذلك الأزمة المالية العالمية شكلت لقطر نوعًا من الظهور، حين شاركت في المنتدى الاقتصادي العالمي بمبادرة استضافتها الدوحة في عام 2010 لمناقشة وجهات نظر اقتصادية جديدة بعد الأزمة العالمية وذلك كإحدى الدول التي لم تتضرر بشكل أو بآخر بهذه الأزمة.
كما شاركت قطر وبقوة باتجاه قرار الحظر الجوي أثناء الثورة الليبية، بل ودعت لاتخاذ إجراءات أكثر جدية تجاه نظام القذافي، كما شارك سلاح الجو القطري بمقاتلات ميراج في الضربة التي وجهها حلف الناتو لنظام القذافي لتنفيذ قرار الحظر الجوي، وكان هذا ظهورًا قويًا لدولة قطر جنبًا إلى جنب مع قوى عالمية في ظل تراجع الوكلاء الحصريين لتنفيذ السياسات الغربية في المنطقة.
قطر نجحت في تخطي الأزمات التي أدت للربيع العربي بينما فشلت جاراتها
حينما كانت الأنظمة العربية في أوج صراعها مع الشعوب في الثلاث سنوات الماضية بالثورات أو ببوادرها أو المطالبات الإصلاحية من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، كانت قطر بمنأى عن هذا كله، حيث وصل إجمالي نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي ما يقرب من 440 ألف دولار سنويًا، مع قلة عدد السكان شكل هذا حالة من الاستقرار النسبي جعلت الحكومة القطرية في عام 2011 تستبعد حدوث أي نوع من الاضطرابات كالتي عصفت بالمنطقة.
هل أخذت قطر دورًا أكبر من حجمها الفعلي
يجب أن ندرك حجم الضغوطات التي تتعرض لها قطر من قوى إقليمية ودولية بسبب تورطها في العديد من القضايا، ليس بمنهج الوسيط القديم وإنما بمنهج الفاعل ومنها القضية الليبية بدعم فصائل مسلحة ذات خلفية إسلامية بعد سقوط نظام القذافي وحتى الوضع الليبي المتدهور الحالي، كذلك بالطبع الوضع في سوريا ودعم فصائل مسلحة هناك وتدعيم خطابات سياسية بعينها ضد نظام بشار الأسد، كذلك اللاعب الجديد في المنطقة المعروف باسم “تنظيم الدولة” وموقفها منه؛ جعل المسارات والخيوط تشتبك مع الضغوط المستمرة من الجيران الخليجيين لمحاولة تحجيم الدور القطري، وهو ما يمثل إشكالية قطر الدائمة أنها لا تستطيع التراجع حاليًا بضغوط حتى لا تفقد ورقة استقلالية القرار السياسي لدولة قطر، كما تؤكد دائمًا الدولة على لسان حاكمها الشاب أو وزارة خارجيتها.
فبذلك تواجه قطر عدة اتهامات دولية بدعم فصائل “متطرفة” في عدة بؤر ساخنة من الصراع في الشرق الأوسط، ما استلزم نفيًا قطريًا على لسان الأمير تميم في كلمته أمام الأمم المتحدة منذ عدة أسابيع.
كذلك كانت هناك عدة محاولات رصدتها قطر لمحاولة إلصاق أمر دعم “الإرهاب” بها أمام عدة دول غربية؛ وهو ما استدعى تدخل الخارجية القطرية لنفي هذه التهم، كما جرت حملة مناوئة لهذا كانت آثارها حاضرة في لقاء الأمير “تميم” برئيس الوزراء البريطاني “ديفيد كاميرون”، والذي تبين في نشر جريدة الجارديان البريطانية في هذا الصدد تصريحات لرئيس الوزراء القطري “عبد الله بن ناصر بن خليفة آل ثاني” والتي أكد فيها على وقوف المملكة المتحدة جنبًا إلى جنب مع دولة قطر في مواجهة الإرهاب؛ وهو ما أثار غضب قطاع آخر من الصحافة البريطانية والذي اعتبر أن هذه التصريحات في هذا الوقت بمثابة “مقال مدفوع الثمن” لنفي صلة قطر بدعم فصائل إسلامية “متطرفة”، وطالبت عدة جهات في بريطانيا باستغلال فرصة وجود أمير قطر في بريطانيا وفتح معه ملف دعم الجماعات المسلحة التي يتردد من أوساط خليجية أن بلاده تدعمها حسب ما جاء بجريدة “التليجراف”، كما توقع المراسل السياسي للجريدة “ماثيو هيوليهاوس” أن يفتح هذا الملف في لقاءات خاصة بين الجانبين.
كذلك جاءت ردة الفعل هذه في الصحافة البريطانية على زيارة الأمير “تميم” مؤكدةً على ضرورة التغاضي عن المصالح الاقتصادية أمام مواجهة التطرف والإرهاب حسب وصف الكاتب البريطاني، كون كوخلن، الكاتب بجريدة “ديلي تيلجراف”.
يذكر أن حجم الاستثمارات القطرية في بريطانيا تجاوز 32 مليار دولار، وأكدت قطر أنها في طريقها لزيادتها كما صرح رئيس الوزراء القطري، وذلك يعد نوع من القوة الناعمة لوقف الهجمة عليها في الغرب، ولكن يتوقف المحللون على متابعة الأمر لحين ورود جدواه.
فتلك كانت تكلفة تدفعها قطر إزاء جميع مواقفها بملفات إقليمية عدة، وهي إمكانية خسارة رصيد تعاون دولي مع حلف الناتو والإدرات الغربية، بسبب تضارب مواقفها وعدم اتضاحها بالنسبة “للغرب” على الأقل، وهو ما عبر عنه السير “مالكوم ريفكيند” رئيس اللجنة المركزية والأمن والاستخبارات البريطانية بقوله: “لا يمكن لقطر أن تجري مع الأرانب وتصيد مع الكلاب في نفس الوقت”؛ ما أعاد في الأذهان احتمالية إعادة قطر لصياغة خطاب سياسي خارجي قد يعود بها لمرحلة إلى الخلف، وهو الوقوف موقف الوسيط وهو ما لا يتعارض مع المصالح الغربية بالطبع لأنهم يحتاجون لسياسة ” العصا والجزرة دائمًا” مع الاحتفاظ باستقلالية القرار السياسي لقطر، وهو ما يتناسب مع إمكانيات قطر الحالية لحين تطوير الأدوات لتكون بحجم الأهداف.
ولكن مع إمكانية تراجع قطر للخلف، هل ستعود القوى التقليدية إلى مكانها الطبيعي؟ أم أن ثمة قوى جديدة يمكن أن تحل محل اللاعب القطري المُتعَب؟