ما أصعب الحياة بنصف إنسان، نصف روح، نصف عقل، حتى نصف حلم، ليس هناك أسوأ من أن يعيش الشخص مشطورًا، جزء في وطنه حيث ذكرياته وطفولته وأحبابه وماضيه بكل ما فيه، والآخر في بلد جديد، اضطر للجوء إليه، فلا هو بالقادر على العودة لحضن الوطن الأم ولا المنخرط في الحياة الجديدة.
ما أقسى أن تعيش متهمًا في بلاد غير بلادك، مجتمع مجهول يتعامل معك كعنصر دخيل، لا يعرف من أين أتيت، ولما غادرت وطنك، وماذا تريد، وأي إرث حملته معك قادمًا من بلاد دفعتك للهروب منها، وحتى تثبت للجميع نقاء معدنك وحسن أصلك وعدالة قضيتك، يستمر مسلسل النزيف الروحي والجسدي، وقلما من ينجو منه حيًا.
قبل عشر سنوات من الآن، وطأ الشباب المصري بأقدمه ناصية المجد، ودخل التاريخ من أوسع أبوابه، حتى أبهر العالم وبات حديث الصحف ووسائل الإعلام بشتى انتماءاتها، حين أزاح نظام حسني مبارك بعد 30 عامًا من الحكم، حينها شعر المصريون أن حلم الديمقراطية والحياة المدنية لم يعد بينهم وبينه إلا خطوات قليلة.. كان الأمل فوق مستوى التخيل.
لكن سرعان ما تحول هذا الأمل إلى كابوس، فالحلم الوليد لم يكتمل نموه بعد، ليولد مشوهًا بفعل فاعل، والواقع الذي عاين الجميع تغييره عاد بسرعة الصاروخ أقبح مما كان، ليتفرق الشباب المنتشي أملًا عبر ثلاثة دروب، إما السجن الذي يقود حتمًا إلى حبل المشنقة وإما الخنوع التام، شكلًا ومضمونًا، ومن استطاع الإفلات عاش مطاردًا في المنفى، يقتات من روحه الممزقة على وطن سلبه حتى حلمه.
شهادات عدة وثقتها عشرات الكيانات البحثية والإعلامية لرصد حالة المعاناة التي يعايشها المنفيون ليل نهار، لكن تبقى الحسرة والألم وويلات الفرق والحرمان أحاسيس كامنة لا تستطيع الكلمات وصفها، فيما يبقى الحنين للوطن الجرح الأكثر ألمًا في الغربة.
“المنفيون: قصة جيل“.. أحدث التجارب الإعلامية لـ”Middleeasteye” لتوثيق معاناة الشباب المصري المنفي بعد 10 سنوات من قيامهم بثورتهم الخالدة، رصد شمولي يضم عدة أطياف سياسية متباينة، يجمع بين دموع الحنين ونبرات الألم وآهات التمزق بعيدًا عن الوطن.
العمل يقوم في الأساس على قراءة الماضي بعيون الحاضر لخمسة نشطاء مصريين من مختلف الخلفيات والأيديولوجيات السياسية، وهم: حسام يحيى ووليد عبد الرؤوف وإسلام لطفي وعلي خفاجي وأسامة جاويش، من خلال جمعهم مرة أخرى بعد عقد كامل على أول اجتماع ضمهم في ميدان التحرير، حين كان يراودهم الأمل، ها هم يجتمعون اليوم للحديث عن نضالهم وتجربتهم وكيف تأثرت حياتهم بعد مغادرة الوطن.
جمعتنا ديكتاتورية مبارك
ما كانت أعمار النشطاء المصريين تتجاوز العقد الثاني حين كان مبارك وزبانيته يعيثون في الأرض فسادًا، حينها جمعهم رفض تلك الديكتاتورية التي جثمت على صدور المصريين لعقود طويلة، كانت اللبنة الأولى لتفتيت هذا النظام من خلال الالتحاق بحركة “كفاية” عام 2004، تلك الحركة التي كانت الحجر الأول الذي ألقي به في مياه الثورة الراكدة، تبعها حركة “6 أبريل”.
لم يكن صمت الشباب المصري حينها عن ممارسات مبارك عجزًا قدر ما هو ترقب للحظة المناسبة تجنبًا لأي مصير يحول دون تحقيق هذا الحلم المنشود، حتى جاءت دعوات التظاهر يوم 25 من يناير/كانون الثاني للاعتراض على بعض الانتهاكات الممارسة من السلطة الأمنية تحديدًا.
يكشف النشطاء كيف أنهم تلقوا تلك الدعوات بصدر رحب، نزلوا للميادين دون هدف محدد إلا الاعتراض وتسجيل موقف رافض لبطش وزير داخلية مبارك، حبيب العادلي، كان التحرك تلقائيًا، لا قيادة واضحة، ولا إستراتيجية محددة سلفًا، خرج الشباب لسد ثغرة واحدة في جدران الوطن الممزق.
وبينما كان الوضع في القاهرة وبعض ميادين مصر هادئًا نسبيًا، اللهم إلا من بعض المناوشات المألوفة بين المتظاهرين الذي لم يتجاوز عددهم بضعة آلاف قليلة، إذ بالبشرى تأتي من تونس (تلك الدولة القمعية المغلقة بالضبة والمفتاح بحسب الناشط إسلام لطفي)، فالشعب هناك أسقط النظام، وأطاح بنظام بن علي، وهي النقطة المحورية التي غيرت فكر الشباب من الألف إلى الياء.
الثورة.. وحدة الهدف ولحمة الجسد
“كنا نجهز بيان نكتب فيه مطالبنا المتعلقة بقانون الطوارئ وانتهاكات العادلي.. إذ بنا نسمع هتاف الشعب بالخارج.. الشعب يريد إسقاط النظام.. هنا مزقنا البيان وخرجنا للمتظاهرين”، هكذا وصف الناشط إسلام لطفي حالة التحول المفاجئ في مطالب الثوار من مجرد الاعتراض على سياسات وزير إلى المطالبة بإسقاط النظام بأكمله.
التطورات التي شهدتها الساحة المصرية حينها بحسب – النشطاء – كانت تربة خصبة لالتحام كل ألوان الطيف السياسي في البلاد، فالجميع في لحمة متكاتفة لا يعرف الواقف هوية من بجانبه السياسية ولا الدينية، الجميع على قلب رجل واحد “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهنا بدأت الدموع تنهمر، الحلم يبدو أنه يقترب.
لم يكن التمسك بالحلم بالقوة المكتملة بدايات الثورة، لكن مع بداية سقوط الشهداء واحدًا تلو الآخر، تأججت نار الغضب في نفوس الشباب، هكذا يواصل النشطاء الخمس استدعاءهم لذكريات تلك الأيام، لا سيما بعد استشهاد صديقهم مصطفى الصاوي الذي سقط برصاص قوات الأمن.
خرجت جنازة الصاوي من الدقي بوسط الجيزة ومنها إلى العجوزة وصولًا إلى ميدان التحرير، وما إن دخلت شارع محمد محمود المتفرع من الميدان، حتى انهال رصاص الأمن، وكان ذلك إيذانًا بمواجهات قوية بين الثوار ورجال الأمن أسفرت عن سقوط العديد من الشهداء والمصابين، حينها كان التصميم على مواصلة الثورة حتى اكتمال الحلم، خاصة بعدما بات الرهان على الحياة نفسها.
زادت لحمة الشباب المتباين الأطياف والتوجهات، المرابط في ميدان التحرير، بصورة كبيرة، يومًا تلو الآخر، ما أثار غيظ ذيول نظام مبارك، ساسة وأمنيين، ومن ثم كان التخطيط للهجوم فيما عرف بـ”موقعة الجمل”، فقد انهمرت الخيول والجمال رفقة بلطجية واقتحموا الميدان لتفريق المعتصمين وتشتيت تجمعهم.
“كان هناك شاب لا يتجاوز عمره 18 عامًا يقف بجواري يحذرني من وجود قناصة فوق فندق سميراميس الملاصق للميدان، وفجأة وبينما صوته لم يتوقف قط من التحذير إذ بالصمت يخيم على المكان، وفجأة سقط هذا الشاب الملتحي برصاصة أحد القناصة الذي كان يحذرني منهم”، بدموع خانقة استدعى وليد عبد الرؤوف هذا المشهد دالًا على حالة المؤامرة التي كانت تحاك بالثورة عكس ما كان يتردد وقتها بأن الشرطة والجيش كانوا في حمايتها.
لم يكن الهروب جبنًا قدر ما هو محاولة للحفاظ على ما تبقى من أجل القدرة على الاستمرار
كان التلاحم الشعبي في التحرير وبقية ميادين مصر عجيبًا، مشهد لم يألفه المصريون الذين عاشوا سنوات طوال في مخمضة الطائفية والنزاعات القبلية والأزمات الطبقية المزعومة، التي كان يصدرها النظام لتفتيت لحمة الشعب، من باب “فرق تسد”.
ويواصل عبد الرؤوف باكيًا: جاءتني سيدة عجوز بكيس مغلق، وحين سألتها ما هذا؟ أجابت: كيس لحمة وهذا كل ما عندي في الثلاجة، جئت به للثوار”، تتناغم تلك الشهادة مع العديد من الصور التي التقطتها عدسات المصورين لعجائز يوزعون الأطعمة والمشروبات على المرابطين في الميدان.
التنحي.. الفرحة تذيب الخلافات
كان الجميع ينتظر بيان رئيس جهاز المخابرات المصرية الأسبق، عمر سليمان، مساء الـ11 من فبراير/شباط 2011، وما إن أعلن سليمان تنحي حسني مبارك حتى اكتظ الميدان بالهتافات والتهليل والتكبير، وإذ بالجميع في حالة احتضان هستيري، كل يحتضن من جواره دون أن يعرفه، وكان الشعار “تحيا مصر” هكذا أشار أسامة جاويش بعين مضيئة بلمعة دموع الفرح رغم مرور عقد كامل على هذا المشهد.
وفي استدراك زمني عابر، وعبر تنهيدة عميقة، علق عبد الرؤوف على هذا المشهد، واضعًا يده على أصل الداء، قائلًا: مكنش حد متوقع أنه يمشي.. ومحدش كان محضر السيناريو بعد ما يمشي.. كان الغرض مبارك يمشي وبعدين نتكلم.. مشي مبارك ولم يتكلم أحد”، ملخصًا الصورة في عبارة واحدة “قرأنا تاريخ قبل ثورة، لكن حين كتبنا التاريخ نسينا كل ما كتبناه”، ليؤكد كلامه خفاجي “وقعنا في نفس الأخطاء التي حذرنا منها بعض العقلاء حينها بشأن عدم ترك الثورة حتى تكتمل استأثرنا بالسلطة ولم نسمع لأحد”.
أما إسلام لطفي فأشار إلى عدم وجود الوعي الكافي بأن الثورات لا تعتمد على أنصاف الحلول، إما تطهير كامل وإما مصالحة فورية، وهو الخطأ الذي وقع فيه الثوار ودفعوا ثمنه غاليًا، ليقدم الثوار الفرصة على طبق من ذهب لرافضي الثورة للانقلاب عليها فيما بعد.
فض رابعة.. بداية الانهيار النفسي والجسدي
رغم حالة القوة والثبات التي كان عليها الشباب الثائر، المدافع عن ثورته، لكن ما حدث يوم فض رابعة منتصف أغسطس/آب 2013 عقب الانقلاب الذي قام به وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي في 3 من يوليو/تموز من نفس العام، كان مرعبًا للجميع.. هكذا قال الشباب المنفي.
المشاهد كانت وحشية بامتياز، لا حرمة لجسد أو روح، الكل تحت أنقاض عجلات المدرعات والمجنزرات سواء، تبع ذلك حالة عنف أهلي غير مسبوقة في تاريخ مصر، وكل من له سمت إسلامي كان مستهدفًا، فيما أشار جاويش إلى أنه عثر على ورقة مدون بها قائمة بأسماء الشباب الثوري، في أيدي بلطجية، واصفًا إياها بأنها أشبه بـ”قائمة اغتيالات” فيما تعرض لاعتداءات وكسر زجاج سيارته ونجا بأعجوبة من أحد الأكمنة التي كانت تستهدفه وبعض الشباب الآخرين.
حينها وصل الأمر إلى احتراب داخلي ممنهج، الآلة الإعلامية الداعمة لنظام ما بعد الـ3 من يوليو/تموز استطاعت شحن الشارع وتجييشه ضد كل من شارك في الثورة، البداية كانت بالإسلاميين كمرحلة أولية تمهيدًا لوأد كل من تبنى هذا الحلم من جذوره.
لم تكن دموع الألم المنهمرة على وجنات النشطاء المصريين المنفيين خارج بلادهم حسرة على مشاركتهم في الثورة، أو ندمًا على مساعي التغيير، لكنها دموع الظلم الذي تجرعوه كؤوسًا وأكوابًا ليس لسبب إلا لأنهم حلموا لبلادهم أن تكون أفضل
حسام يحيى يقول إن أصدقاء له أبلغوه أن الأمن طلب بياناته وعنوان بيته تمهيدًا لاعتقاله، وعليه كان لا بد من السفر والهروب خارج الوطن، الأمر ذاته أكده بقية النشطاء بعدما بات وجودهم في وطنهم جريمة ومشاركتهم في تحقيق حلم الديمقراطية والمدنية ذنب سيقضون ما بقوا من حياتهم في السجن ثمنًا له، ومن ثم كان الخيار المر.. مغادرة الوطن، لتبدأ رحلة جديدة من المعاناة والألم لا تقل أبدًا عن معاناة الداخل.
المنفى اغتيال الروح.. والجسد أحيانًا
كان الهروب بما تبقى من الجسد المنهك بالمشاهد الدموية الوحشية، والمقيد بسلاسل الخوف والترقب في ظل الحملة العنصرية الإقصائية التي كان يشنها النظام الجديد ضد كل من له علاقة بالثورة، سواء من شارك أم حتى أيد بالقول أم التلميح، هو الحل الوحيد أمام عشرات الآلاف من الشباب.
“خرجنا من مصر جسدًا فقط، لكن القلب والعقل والروح ما زال عالقًا بداخلها”.. هكذا وصف عبد الرؤوف حالة الانشطار التي كان عليها حين قرر مغادرة وطنه قهرًا، خرج بربع إنسان وحلم لم يكتمل وتجربة مريرة فقد خلالها أعز أصدقائه وعشرة عمره.
لم يكن الهروب جبنًا قدر ما هو محاولة للحفاظ على ما تبقى من أجل القدرة على الاستمرار، إما في الدرب ذاته إن تحسنت الأوضاع مستقبلًا وفي ظروف مغايرة، أو الاستثمار في الأبناء وزرع معاني الشجاعة والنضال وحب الوطن بديمقراطيته وكبريائه في نفوسهم البريئة.
معاناة شبه يومية يعايشها المنفيون، ورغم مساعي الانخراط في المجتمعات الجديدة والنجاحات المؤقتة التي حققها البعض، سواء على المستوى الوظيفي أم الاجتماعي، لكن تظل الروح مقسمة بسكين الحنين للوطن، والعقل مشتت بغبار فقدان الاستقرار والتأرجح مدًا وجزرًا بين الليلة وضحاها.
عشر سنوات كاملة كانت كفيلة بتغيير خريطة الجسد والروح معًا للشباب المنفي خارج بلاده، فالشيب بدأ يتسلل الرأس والذقن معًا، والتجاعيد الخفيفة تفرض نفسها أسفل العين وفوق الجباه، حتى الصوت الذي كان يصدح في ميدان التحرير في 2011 تراه اليوم مثقلًا بأنات الألم المتجذر.. لكن يبقى السؤال: ماذا لو عاد الزمن مرة أخرى؟ هل كانت قرارات النشطاء ستتغير بشأن المشاركة في تحقيق هذا الحلم الذي استحال كابوسًا اليوم؟
ماذا لو عاد الزمن؟
لم تكن دموع الألم المنهمرة على وجنات النشطاء المصريين المنفيين خارج بلادهم حسرة على مشاركتهم في الثورة، أو ندمًا على مساعي التغيير، لكنها دموع الظلم الذي تجرعوه كؤوسًا وأكوابًا ليس لسبب إلا لأنهم حلموا لبلادهم أن تكون أفضل مما كانت عليه، حين تُعاقب على الحلم فتلك جريمة، وحين يكون العقاب النفي خارج الوطن فالجريمة أعظم.
لو عاد الزمن هشارك في الثورة لكن مع تصحيح الأخطاء.. هكذا أجاب حسام يحيى ردًا على سؤال عن موقفه إن عاد به الزمن مرة أخرى، وهو الرأي ذاته الذي ذهب إليه وليد عبد الرؤوف الذي أكد ثقته الكاملة بأن بذرة ثورة يناير مستمرة وستظل مهما توارت عن الأعين طيلة السنوات الماضية.
الحنين للوطن والعودة إليه مرة أخرى لسان حال الجميع، لكن تبقى مخاوف الاستهداف الأمني والملاحقات والزج في السجون، عراقيل تدفعهم للتفكير ألف مرة قبل الإقدام على تلك الخطوة، وهنا يقول إسلام لطفي: “لو مفيش استهداف لي وحبسي هرجع مصر”، ليرد عليه خفاجي “لو أنا صاحب القرار هرجع النهاردة قبل بكرة.. لولا وجودي على قوائم الترقب، وأقسمت ألا أعود لأدخل السجن مرة أخرى (6 آلاف سجين في 2010 فيما ارتفع العدد منذ 2013 ليتجاوز 60 ألف بحسب هيومن رايتس ووتش) السجن ظلمة وذل وسيؤدي إلى الانتحار”، أما عبد الرؤوف فقال: “لو وجودي في السجن هيحلحل الوضع معنديش مشكلة، لكن الوضع غير كده، لن أكون أكثر من رقم.. من الخارج ربما أقول كلمة لكن في الداخل لا.. أتمنى أرجع مصر في أقرب وقت”.
لا ينكر الجميع الأخطاء التي وقع فيها الثوار والقوى الممثلة لهم، تلك الأخطاء التي دفعت البلاد ثمنها غاليًا جدًا، أجساد خلف القضبان، وأرواح ذهبت إلى بارئها، ومستقبل بلد بات في مصير المجهول، لكن هذا لا يمنع إيمانهم بالفكرة ذاتها، وإصرارهم على أن الحلم، بعد تنقيته من الشوائب التي علقت به، وإن لم يتحقق فلن يموت، ليظل نطفة محبوسة في أجنة الأمل، في انتظار موعد الميلاد الحقيقي وإن تجاوز المدد الطبيعية المحددة له.