يواصل اللواء متقاعد خليفة حفتر مسيرته الممتدة عبر سنوات في إثارة الجدل والبلبلة داخل الشارع الليبي، متأرجحًا بين تصريحات استفزازية أحيانًا، وقرارات كارثية أحايين أخرى، ليبقي على الوضع الليبي في حالة سخونة مستمرة رغم جهود التبريد المتواصلة من الداخل والخارج.
فالرجل الخارج من معركة طرابلس بهزيمة نكراء لم يلق بالراية البيضاء بعد، في ظل الدعم المتواصل له من بعض القوى الخارجية التي تستميت لإجهاض أي انفراجة سياسية في البلاد لا تحقق أجنداتها الإقليمية، الأمر الذي أوقع البلاد في آتون حرب ممتدة لا يرجى طي صفحتها في القريب العاجل قبل تجفيف منابع تغذية الفتن والاختلافات الداخلية.
وبينما كان الأمل يداعب الليبيين بشأن حلحلة للوضع المتدني على المستويات كافة، التزامًا باتفاق برلين ومخرجات جنيف، وما تمخض عنه من اختيار مجلس أعلى للدولة وحكومة انتقالية، تمهيدًا لإجراء انتخابات عامة نهاية العام الحاليّ، خرج حفتر بحزمة قرارات استفزازية تهدد بانقلاب قريب على مخرجات الحوار السياسي التي تم إقرارها نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
مثير للجدل
في الـ9 من أغسطس/آب الحاليّ، وخلال حفل أقيم في قاعدة بنينا في بنغازي بمناسبة مرور الذكرى الحادية والثمانين لتأسيس الجيش الليبي، أصدر حفتر قرارات بشأن ترقية ثلاثة ضباط من رتبة لواء إلى رتبة فريق، وتعيينه رؤساء أركان الحدود والبرية والجوية، بالإضافة إلى تعيين ثلاثة ضابط آخرين رؤساء لمناطق طبرق وسرت والبيضاء العسكرية.
القرارات شملت كذلك عودة رئيس الحكومة الموازية المنبثقة عن مجلس النواب، عبد الله الثني، للمشهد السياسي مرة أخرى وذلك بعد ترقيته لرتبة فريق وتعيينه رئيسًا للإدارة السياسية في قيادة قوات حفتر وهو القرار الذي أثار الكثير من اللغط واستفز السلطة الانتقالية الليبية.
خطوة الجنرال الليبي جاءت بعد يومين فقط من إعلان المجلس الرئاسي أحقيته فقط في منح الترقيات والتعيينات وإنشاء الوحدات العسكرية بصفته القائد الأعلى للجيش الليبي، بحسب خريطة الطريق المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي الأخير في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
التصريحات الاستفزازية للجنرال ربما تحمل بين ثناياها تنصلًا من اتفاق برلين ومخرجات جنيف، رغم تأييده الكامل لها سابقًا، وهو ما يعزز مخاوف عودة الانقسام والطائفية والقبلية للمشهد مرة أخرى
المجلس في بيان له أكد بطلان أي قرارات ترقية استثنائية، في إشارة لمنح حفتر أعضاء (لجنة 5+5) ترقيات استثنائية، رغم رفض بعضهم لها لعدم شرعيتها، منوهًا أن “ترقية الضباط العادية والاستثنائية، ومنحهم القدم الممتاز، وإنشاء الوحدات العسكرية، وتعيين آمري المناطق العسكرية ومعاونيهم، اختصاص أصيل للمجلس الرئاسي قانونًا، بصفته القائد الأعلى مجتمعًا”، مشيرًا إلى “أن أي قرار يصدر من أي جهة أو منصب يعتبر باطلًا وجب إلغاؤه لصدوره من جهة غير مختصة”.
البيان أثار حفيظة اللواء المتقاعد الذي رد عليه بقرارات الترقية الأخيرة، مؤكدًا خلال كلمته في حفل تأسيس الجيش، أن قواته “لن تخضع لأي سلطة غير منتخبة من الشعب مباشرة”، في إشارة واضحة إلى رفضه قرارات المجلس الرئاسي الذي أكد ضرورة أن “يكون الجيش ولاءه الأول للوطن، وألا يتدخل بشكل من الأشكال في المشهد السياسي، وأن يعمل تحت سلطة مدنية”، مشددًا على أنه لن يسمح بـ”العودة إلى القيود من جديد، وتسلط أفراد جهة أو قبيلة على المؤسسة العسكرية”.
البعض قرأ تصريحات حفتر التي تحدى فيها المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية باعتبارها خطابًا محفزًا لإجراء انتخابات مبكرة في ظل الجدل الحاليّ بشأن الانتخابات العامة المقرر إجراؤها في 24 من ديسمبر/كانون الأول المقبل، حسبما نقل مراسل “الجزيرة” في طرابلس، صهيب جاسم.
رسائل طمأنة وتحذير
وبعد ساعات قليلة من قرارات حفتر بعث رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، بعدة رسائل خلال كلمته أمس على هامش احتفالية تأسيس الجيش، أكد خلالها استقلالية المؤسسة العسكرية والتزامها بمصالح البلاد العليا، وتجنبها الانخراط في أي نزاع سياسي من شأنه أن يؤثر على حياديتها.
حذر الدبيبة من الانخداع بالشعارات الرنانة لتبرير الدخول في حروب من شأنها أن يدفع ثمنها الشعب الليبي، مضيفًا: “أراهن اليوم على حرص الآباء وحب الأمهات ليمنعوا أولادهم من دخول حروب خاسرة مهما كانت الشعارات رنانة”، متابعًا “لا يملك بعد نظر أبدًا من يتخذ الحرب وسيلة ويضحي بالجميع من أجل غطرسة واهية”.
كما حذر رئيس الحكومة من خسائر الحروب التي ساهمت في تأخير البلاد لعشرات السنين، مشددًا في الوقت ذاته على أنه “لا يمكن للجيش أن ينتسب لشخص مهما كانت صفته، بل هو جيش الليبيين جميعًا”، مؤكدًا “الجيش ولد ليحمي السلام وقوته يجب أن تكون معول بناء وليس معول هدم وقتال”.
وفي إطار التأكيد على ذات السياق، أكد رئيس الأركان العامة الفريق محمد الحداد “لن نسمح بأن يكون الجيش خادمًا للسياسيين وصراعاتهم وأطماعهم وللأجندات الوافدة، وتابع “نعتبر رئيس الدولة أو من يمثله هو القائد الأعلى للجيش، والمؤسسة العسكرية تلتزم بالعقيدة السليمة التي تلزمنا بالخضوع للدستور”.
تحمل تلك الرسائل المباشرة تأكيدًا على ضرورة كسر حالة الارتباط القوية بين حفتر والجيش الليبي، تلك الحالة التي وضعت الأزمة الليبية في إطار من الشخصنة الضيق، الأمر الذي انعكس على صورة المؤسسة العسكرية لدى الشارع ونزاهة أهدافها فضلًا عن التشكيك في نواياها وأجندة مصالحها التي تتطابق مع بعض الأجندات الإقليمية التي تريد تأجيج الوضع الداخلي ووأد أي مساعٍ للخروج من تلك الشرنقة التي يدفع الليبيون وحدهم ثمنها طيلة السنوات العشرة الماضية.
تهديد مخرجات الحوار
تدشن قرارات حفتر وما تحمله من تحد سافر للمجلس الأعلى والحكومة إرهاصات انقلاب ناعم على بوادر الانفراج السياسي الذي شهدته البلاد منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وتهديد صريح لمخرجات الحوار الوطني التي قوبلت بترحيب كبير من الغالبية العظمى من ألوان الطيف السياسي الليبي.
التصريحات الاستفزازية للجنرال ربما تحمل بين ثناياها تنصلًا من اتفاق برلين ومخرجات جنيف، رغم تأييده الكامل لها سابقًا، وهو ما يعزز من مخاوف عودة الانقسام والطائفية والقبلية للمشهد مرة أخرى، الأمر الذي قد يقود البلاد إلى الوراء مجددًا، لكن هذه المرة ستكون الخسائر أكبر.
تمسك حفتر بقيادة الجيش ومحاولة التفرد بكل القرارات الداخلية بشأنه رغم انتهاك ذلك لمخرجات الحوار التي نصت على تكليف المجلس الرئاسي الجديد بمهام القيادة العليا للجيش والعهدة إليه بإصدار الترقيات والتعيينات وتشكيل الوحدات، يهدد بتفتيت المؤسسة العسكرية، ويمكن قراءة هذا التخوف في ضوء رفض بعض الضباط الترقيات التي منحها لهم الجنرال المتقاعد.
يعلم اللواء المتقاعد أنه وبحسابات السياسة ووفق المستجدات الأخيرة بات خارج دائرة الاهتمام، كونه ورقة خاسرة ثبت فشلها طيلة السنوات الماضية، ومن ثم يريد الرجل التذكير على أنه ما زال رقمًا صعبًا في المعادلة
ماذا يريد الجنرال؟
قراءة أهداف حفتر من خلال هذه البلبلة التي يحدثها وإثارته المتوالية للجدل بين الحين والآخر لا تحتاج إلى جهد لإدراكها، فالرجل يعد من أكثر أطراف المشهد صدقًا مع الذات، كونه ليس محترفًا سياسيًا ولا يجيد ممارسة الدبلوماسية، ومن ثم تكشف كل تحركاته وتصريحاته ما يخطط له في قريرة نفسه.
الانقلاب الناعم الذي يخطط له الجنرال على مخرجات الحوار كما يسميه البعض، يجيب عن التساؤل الأبرز: ماذا يريد؟ والإجابة هنا تحمل محورين رئيسيين وآخر فرعي، الأول انزعاج حفتر من خفوت الأضواء عنه، واستبداله بأسماء أخرى لإدارة المشهد والمرحلة الانتقالية الحاليّة.
يعلم اللواء المتقاعد أنه وبحسابات السياسة ووفق المستجدات الأخيرة بات خارج دائرة الاهتمام، كونه ورقةً خاسرةً ثبت فشلها طيلة السنوات الماضية، ومن ثم يريد الرجل التذكير على أنه لا يزال رقمًا صعبًا في المعادلة يجب الالتفات إليه وعمل حسابه، ومن ثم لا بد من مثل تلك التحركات التي تحرك المياه الراكدة في بحيرة الجنرال الخاوية سياسيًا.
أما المحور الثاني فقد يرتبط من بعيد بالأول، ويتعلق بمساعي حفتر غض الطرف عن الفشل العسكري الذي مني به في معركة طرابلس بعد 14 شهرًا من المواجهات، رغم الإمدادات والدعم غير المسبوق الذي حصل عليه من بعض القوى الإقليمية.
وعليه يحاول الجنرال جاهدًا استبدال هذا الفشل، الذي كان له مفعول السحر في تغيير الخريطة السياسية للبلاد بصورة أعادت ترتيب الأوراق مجددًا، بمعارك سياسية جانبية، وقد تكون عسكرية إن تطلب الأمر، تدفعه لتصدر المشهد مرة أخرى ونسيان الماضي القريب، ولن يكون ذلك إلا بسياسة “كرسي في الكلوب” لإحداث الفوضى وتعطيل الحلول السياسية المطروحة أو على الأقل تعطيلها لكسب المزيد من الوقت.
أداة في أيدي القوى الخارجية؟
هل يمكن للجنرال اتخاذ تلك الخطوات التي من شأنها عرقلة مخرجات الحوار الممتد لسنوات عدة دون دعم خارجي؟ سؤال فرض نفسه على الشارع الليبي والعربي على حد سواء بعد نزاع الصلاحيات الساخن بين حفتر والسلطة الانتقالية المدعومة دوليًا.
البعض قد يرى توافر الدوافع الكافية لقيام اللواء المتقاعد بما قام به لا سيما في ظل رغبته المتوحشة في الانفراد بالسلطة أو على الأقل الحصول على نصيب كبير من تورتة الحكم خلال الفترة المقبلة، ومن ثم فهو ليس بحاجة لمحفزات أو ضغوط خارجية تحثه على عرقلة جهود الحلحلة.
فريق آخر يرى أن حفتر أجبن من أن يقدم على تلك الخطوات دون ضوء أخضر خارجي، خاصة بعد تراجع أسهمه شعبيًا وسياسيًا إثر خسارته لمعركة طرابلس وتداعياتها على المشهد برمته، ومن ثم يذهب أنصار هذا الرأي إلى أن الجنرال الذي تحول طيلة السنوات الماضية إلى أداة في يد القوى الخارجية التي صنعته في الأساس يواصل إخلاصه في أداء هذا الدور تنفيذًا لأجندات خارجية في مقابل تلبية أطماعه السياسية.
سواء كان هناك ضوء أخضر خارجي أم لا، فالمعلن أن هناك تطابقًا كبيرًا بين مؤامرة حفتر الداخلية وأجندات الخارج، وكلاهما يقود إلى نتيجة واحدة، عرقلة الجهود الدبلوماسية المبذولة لطي صفحة الصراع الدامية
هناك بعض القوى الخارجية وفي المقدمة منها الإمارات لا يروق لها حالة الاستقرار النسبي في ليبيا، غير راضية بشكل أو بآخر عن مخرجات جنيف وبرلين، لما تحمله من إجهاض لأجندتها في تلك الدولة النفطية، ومن ثم تسعى للتشويش والعرقلة، ولن تجد أفضل من رجلها الأول في الداخل الليبي لتنفيذ تلك المهمة.
وسواء كان هناك ضوء أخضر خارجي أم لا، فالمعلن أن هناك تطابقًا كبيرًا بين مؤامرة حفتر الداخلية وأجندات الخارج، وكلاهما يقود إلى نتيجة واحدة، عرقلة الجهود الدبلوماسية المبذولة لطي صفحة الصراع الدامية والحيلولة دون بدء مرحلة جديدة من الاستقرار والهدوء النسبي.
القراءة الأولية لتحركات اللواء الليبي كشفت سلسلة من العقبات من المحتمل أن تواجه البلاد في تلك المرحلة الانتقالية، أخطرها ما يتعلق بوحدة الجيش وتوفير الغطاء القانوني والتشريعي للرهانات السياسية المقبلة وعلى رأسها الانتخابات القادمة، هذا بخلاف حسم مسألة الدستور الذي ينظم العلاقات بين السلطات ويضع النقاط على الحروف.
ولعل تلك القراءة أقلقت بشكل أو بآخر القاهرة التي دعت الجنرال لزيارتها في محاولة لمناقشة تفاصيل الأزمة وكيفية تجاوز عقبات المرحلة، للحيلولة دون العودة للمربع صفر مرة أخرى، فيما يذهب البعض إلى احتمالية عقد لقاء بين حفتر والدبيبة لتقريب وجهات النظر ومحاولة تخفيف التوتر بينهما بعد سجال التصريحات النارية المتبادلة بينهما خلال الساعات الماضية.
القاهرة تحاول قدر الإمكان الوجود في قلب الحدث الليبي كأحد الأطراف الرئيسية في المشهد وعليه يمكن تفسير تلك الدعوة من زاوية أخرى، لا سيما أنها تأتي بعد ثلاثة أيام فقط من زيارة رئيس الحكومة الليبية لتركيا والحديث عن تنسيق تعاون مشترك خلال الفترة القادمة.
وتبقى الأيام القادمة (حتى إجراء الانتخابات العامة في موعدها المقرر ديسمبر/كانون الأول 2021) ساحة ترقب كبيرة للشعب الليبي لما ستسفر عنه هذه الحرب الباردة التي تدار بعض معاركها من الخارج، ويلعب فيها حفتر دور البطولة (سواء ممثلًا عن نفسه أم عن بعض القوى الأجنبية) ليفتح المشهد الحاليّ أبوابه على مصراعيها أمام كل السيناريوهات.