تتوارد من درعا، جنوبي سوريا، مشاهد الحالة الإنسانية المروعة التي يسفر عنها حصار تفرضه قوات نظام الأسد على المدينة منذ ما يزيد على 50 يومًا، وفي الأيام الأخيرة منع الأسد مادتي الخبز والطحين من الدخول إلى درعا البلد، الأمر الذي أدى إلى إغلاق الأفران واعتماد سكان المدينة على مؤنهم من الطحين لصنعه في بيوتهم، يأتي ذلك أيضًا بالتزامن مع أزمة صحية نتيجة لمنع الدواء وإغلاق المشافي والمراكز الصحية في المنطقة.
وأطلقت الأحياء المحاصرة في درعا نداءات استغاثة بعد نفاد مادة الطحين، ولم يقتصر الأمر على قطع الطحين، فمنذ أيام والنظام يقطع المياه والوقود عن المدينة، إلى ذلك أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان تقريرًا قالت فيه إن نظام الأسد “ينتقم من محافظة درعا لرفضها السلمي الحضاري لانتخاباته الرئاسية عبر الحصار والقصف والقتل والاعتقالات التعسفية لإنهاء حرية الرأي والتعبير وتحقيق السيطرة المطلقة”.
الحصار الحاليّ لدرعا يعتبر امتدادًا لسلسلة حصارات فرضها النظام على مناطق ثارت ضده خلال العقد المنصرم، وخلقت منهجية الحصار هذه (والتي ترفع شعار “الجوع أو الركوع، الأسد أو نحرق البلد”) أزمات إنسانية كبيرة أدت في معظمها لوفاة مئات الأشخاص جوعًا تحت مسمع ومرأى العالم الذي لم يحرك ساكنًا لوقف المأساة، واليوم يكرر الأسد العمل بإستراتيجيته المعهودة بتجويع شعبه وحصاره حتى الموت أو الرضوخ لحكمه القمعي.
في هذا التقرير نستعرض أفظع الحصارات التي فرضها نظام الأسد على الشعب السوري في مدن وبلدات مختلفة، خلال السنوات العشر المنصرمة.
حصارات
حصار درعا الأول
بدأ النظام السوري بتطبيق سياسة الحصار والتجويع مبكرًا من عمر الثورة، ولعلها كانت من أخطر الأسلحة التي استخدمها الأسد ضد الشعب السوري، فيقطع عنه أساسيات الحياة من طعام وشراب ودواء، وكل أساسيات الحياة.
وعودًا على بدء، كان الحصار الأول في عمر الثورة السورية من نصيب مدينة درعا مهد الثورة ومنطلق الاحتجاجات الشعبية السلمية ضد حكم بشار الأسد، فما كان من النظام إلا أن يضرب حصارًا على المدينة نتيجة لفشله في قمع الاحتجاجات بمهاجمتها عن طريق الأمن والشبيحة.
في 25 من أبريل/نيسان بدأ جيش النظام بنشر دباباته وقواته في محيط درعا كما نشر قناصته لقطع الطرق، كما عمل على قطع الكهرباء وخطوط الهاتف والإنترنت إضافةً إلى منع دخول المواد الغذائية والأدوية، ونتيجة ذلك الحصار صدر ما سُمي بيان الحليب الذي وقعه ما يقرب من 700 شخصية سورية بينهم فنانون وصحفيون تحت عنوان “من أجل أطفالنا في درعا”، وطالب البيان بإيقاف حصار قوات النظام للمدينة، و”بدخول إمدادات غذائية من مواد تموينية وأدوية وأغذية أطفال وبإشراف وزارة الصحة السورية أو الهلال الأحمر”.
حصار بانياس
بالتزامن مع استمرار حصار درعا في مايو/أيار 2011 كانت قوات النظام وشبيحته قد بدأت بفرض حصار شديد على مدينة بانياس بالساحل السوري، حيث كانت المدينة من أوائل المدن الثائرة، ونتيجة للمظاهرات الحاشدة قرر النظام السوري اقتحام المدينة وبعض القرى المحاذية لها بعد حصار قطع فيه أساسيات الحياة كالخبز والدواء والكهرباء والوقود ومنع الدخول والخروج من المدينة، وقد طُوقت المدينة بالدبابات والجنود وأجرت القوات النظامية حملة اعتقالات كبيرة.
حصار مخيم اليرموك
صدمت صور المحاصرين في مخيم اليرموك العالم، فقد كانت شاهدةً على معاناة كبيرة يعاني منها الآلاف من سكان المخيم الذي أُنشئ للاجئين الفلسطينيين في خمسينيات القرن الماضي، وفي بداية الثورة السورية اختبأ الكثير من المطلوبين الأمنيين في هذه المنطقة كونها محايدةً، كما لجأت إليها الكثير من المناطق التي تعرضت للقصف مثل ببيلا ويلدا ومناطق الجنوب الدمشقي، لكن قوات النظام وقوات اللجان الشعبية التابعة لأحمد جبريل بدأت بمحاصرة المخيم.
كان حصار مخيم اليرموك من أشد الحصارات التي فرضها الأسد على المدنيين، فقد لقي ما يقرب من 200 شخص حتفه نتيجة للجوع ونقص الدواء والتغذية، إضافة إلى انقطاع الكهرباء والمياه الصالحة للشرب وانقطاع الاتصالات ومنع المساعدات الإنسانية الدولية من الدخول إلى المخيم، عدا عن الحصار الشديد المفروض كانت قوات النظام تقصف بشكل مستمر المخيم بالبراميل المتفجرة والمدفعية.
واستمر الحصار الذي كان مرتبطًا مع حصار مدن جنوب دمشق حتى عام 2018 وسيطرة النظام على المنطقة ضمن إطار التسوية التي حصلت بين قوات المعارضة والنظام.
حصار داريا
شهدت مدينة داريا حصارًا من أطول الحصارات التي ضربها النظام على المدن السورية، فقد دام حصارها لمدة 3 سنوات و9 شهور، وكالعادة يبدأ النظام حصاره بقطع المواد الغذائية والدواء والكهرباء والماء، إضافة إلى الحملات العسكرية المتعاقبة التي شهدتها المدينة حتى فرض النظام السوري التهجير على المحاصرين في أغسطس/آب 2016.
خلال الحصار قصف النظام المدينة بمختلف أنواع الأسلحة وأبرزها البراميل المتفجرة حتى قالت الأمم المتحدة “داريا هي عاصمة البراميل” بتعداد براميل فاق الـ9000 خلال سنوات الحصار، وفاقت نسبة الدمار في المدينة 95%، طالت معظم معالمها الرئيسية وبناها التحتية، إضافة إلى مئات الشهداء وآلاف الجرحى.
حصار حمص
عاشت مناطق متعددة من محافظة حمص فترات صعبة منذ اندلاع الثورة السورية ووقعت أحياء المدينة تحت نيران القصف والحصار، إضافة إلى عمليات التهجير، وأطبق النظام حصارًا شديدًا على أحياء حمص القديمة استمر لأكثر من عامين، وعانت مئات العائلات من الجوع وانعدام الغذاء والدواء، إذ يقتات السكان المتبقون على الحشائش وأوراق الشجر والزيتون.
أما حي الوعر شمال غربي حمص فتعرض منذ منتصف عام 2013 للقصف والحصار، وفي ديسمبر/كانون الأول 2015 تم التوصل برعاية الأمم المتحدة إلى اتفاق هدنة أولي بين قوات النظام السوري والمعارضة، مهد لخروج المعارضة من الحي تجاه ريف إدلب، وكذا حصل مع مناطق ريف حمص الشمالي كالرستن وتلبيسة وغيرها.
حصار الغوطة الشرقية
يعتبر حصار الغوطة الشرقية من أطول الحصارات في العصر الحديث وأطول حصار خلال الثورة السورية، فقد أطبق النظام حصارًا على مدن وبلدات المنطقة منذ مايو/أيار 2013، وحاصر النظام ما يزيد على نصف مليون إنسان تحت وابل من القصف والنيران وقطع كل المستلزمات الإنسانية، كما استهدف النظام المشافي بشكل مستمر بالإضافة إلى حرق المحاصيل الزراعية لزيادة وطأة الحصار.
ظل الحصار مستمرًا حتى 2018، إذ بدأت قوات النظام حملة عسكرية شرسة بالتشارك مع القوات الروسية والميلشيات الإيرانية وسيطرت على المنطقة وهجرت آلاف الناس إلى الشمال السوري.
حصار مضايا
كانت المشاهد التي تصل عن الأطفال الذين يموتون جوعًا في مضايا تدمي القلب، فقد ضرب النظام السوري وحزب الله وميليشيات إيرانية حصارًا شديدًا على المدينة ومدينة الزبداني منذ عام 2015، وتسبب الجوع بمقتل العشرات، ويعتبر حصار مضايا من أبرز الكوارث الإنسانية التي فعلها النظام السوري بشعبه، إلى ذلك ومع كل الصور الأليمة والمعاناة الإنسانية لم يستطع المجتمع الدولي تقديم شيء ينقذ به سكان تلك المناطق، قدّم بيانات إدانة وتنديد بما حصل فقط.
دون رادع
لم يستطع المجتمع الدولي خلال كل ما حصل من حصار للمدن السورية أن يقدّم شيئًا إلا بعض سيارات المساعدات التي لم تكن تكفي جوع الناس ليوم أو يومين، ولم تستطع كل الدول والمنظمات الإنسانية تخطي إجرام النظام والدخول إلى المناطق المحاصرة، وكل ذلك كان نتيجة للتعنت الروسي في مجلس الأمن، إذ كانت روسيا ترفع الفيتو بوجه كل قرار يخص سوريا، كما أن المنظمات الإغاثية لم تكن تجد طرقًا لإدخال المساعدات، فالأسد قطع أوصال المدن السورية وكان العمل الإنساني تهمة كبيرة تودي بالشخص في غياهب المعتقلات.
الجدير بالذكر أن القانون الدولي الإنساني الحديث، يحظر تجويع المدنيين – أي حرمانهم من الطعام عمدًا – ويعده جريمة حرب، وينص نظام روما الأساسي على أن “الاستخدام المتعمد لتجويع المدنيين باعتباره أسلوبًا من أساليب الحرب” يعد جريمة حرب في النزاعات المسلحة الدولية، وهو ما فعله بشار الأسد في المناطق التي حاصرها، لكن المحاكم والهيئات الدولية لم تجرم فعلة الأسد مكتفيةً ببعض البيانات والتصريحات.
إلى ذلك يعد حصار درعا في هذه الأيام امتدادًا لما حصل في السنوات السابقة مع مختلف المدن السورية، وبما أن العالم يغض الطرف عن هذه السياسات فإن النظام وحلفاءه ماضون بهذه المنهجية التي تنتهي دائمًا بتهجير الأهالي وسيطرته على ركام بيوتهم، وأطلال مدنهم.