في 13 أغسطس/ آب 2020، غرّد ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، قائلًا: “في اتصالي الهاتفي اليوم مع الرئيس الأمريكي ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، تمّ الاتفاق على إيقاف ضم “إسرائيل” للأراضي الفلسطينية، كما اتفقت الإمارات و”إسرائيل” على وضع خريطة طريق نحو تدشين التعاون المشترك وصولًا إلى علاقات ثنائية”، معلنًا عن تطبيع رسمي بين بلاده ودولة الاحتلال بعد سنوات من العلاقات الحميمية السرّية.
الإعلان لم يكن مفاجئًا حينها، فهو نتيجة متوقعة لخطوات سابقة امتدت لعدة أعوام، شهدت فيها العلاقات بين البلدَين تناغمًا غير مسبوق، وتطابقًا في الرؤى حيال العديد من الملفات التي كانت في السابق محل خلاف لا شكّ فيه، لتخرج الدولتان من نفق السرّية إلى مرحلة جديدة من العلاقات العلنية المحتفى بها.
ردود فعل متباينة قوبلت بها هذه الخطوة، التي تُرجمت بشكل رسمي في 15 سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، في صورة اتفاق سياسي مكتمل الأركان، أطلق عليه بين الأطراف الموقِّعة “اتفاق أبراهام”، فيما عُرف في الشارع العربي بـ”اتفاق العار”، وتمّ توقيعه في حفل أقامه ترامب في حديقة البيت الأبيض.
عام كامل مرَّ على الإعلان الرسمي للتطبيع مع الكيان المحتل، هذا التحرك البراغماتي الذي كانت تعوِّل عليه الإمارات في تنفيذ أجندتها الإقليمية وتوسعة رقعة نفوذها على حساب حلفائها التقليديين، فهل حقّق أبناء زايد ما كانوا يسعون إليه من وراء هذه الخطوة؟
أولًا، ما الهدف؟
قبل البدء مباشرة في تقييم عام التطبيع الأول، وما حققته الإمارات خلال الـ 12 شهرًا الماضية في محاولة للإجابة عن السؤال الأخير، لا بدّ من العودة أولًا للسؤال الأهم: ماذا كان يدور في خلد ابن زايد أثناء كتابة تغريدته تلك؟ وما الأهداف التي كانت نصب عين شقيقه، وزير الخارجية، وهو يوقّع على الاتفاق بابتسامة عريضة في حديقة البيت الأبيض؟
ظنَّ ابن زايد كغيره ممّن هُم على رأس أنظمة القمع الديكتاتورية في المنطقة العربية، أن تل أبيب بوابة الحصول على البركة الأمريكية ودعم البيت الأبيض، وفي ظلّ الأطماع التوسُّعية التي تسيطر على الشيخ الخليجي كانت الهرولة نحو تعميق العلاقات أكثر فأكثر.
سنوات من التعاون في الخفاء لم تكن كافية لتقديم صورة إيجابية عن أبناء زايد، ودولتهم الإنسانية المنفتِحة على كل الأعراق والمذاهب السياسية والدينية في العالم، ومن ثم كان التحول السريع نحو إخراج تلك العلاقات للعلن، التي أصبحت غايةً في حد ذاتها حتى إن لم تكن مدروسة العواقب.
وجود ترامب -المهرول للبحث عن انتصار سياسي من خلال توسيع رقعة التطبيع- على رأس السلطة الأمريكية في ذلك الوقت، كان عامل إغراء وتحفيز قوي للإماراتيين لتقديم قرابين الولاء والطاعة للسيد الأبيض، شأنهم شأن بقية الأنظمة الراغبة في استمالة الرئيس الأمريكي حفاظًا على سلطتها، خاصة أنه المجاهر أكثر من مرة بدوره في الإبقاء على بعض الحكّام فوق كراسيهم، وأنهم دونه لن يبقوا فوقها أكثر من أسبوعَين.
استغلت أبوظبي التراجُع النسبي للثقل الإقليمي للرياض في ضوء الحراك الداخلي، الناجم عن تغيُّر استراتيجية الحكم في المملكة عقب تولي محمد بن سلمان ولاية العهد مطيحًا بعمّه، بجانب الانتقادات الدولية التي تتعرض لها جرّاء سجّلها الحقوقي المشين، وفي المقدمة منه مقتل جمال خاشقجي في أكتوبر/ تشرين الأول 2018.
علاوة على انشغال القاهرة بأزماتها الداخلية التي أثّرت على حضورها العربي المعهود، ليجدَ الإماراتيون الساحة مغرية تمامًا لملء هذا الفراغ، ولو عبر طرق باب تل أبيب، الابن المدلل للإدارة الأمريكية التي تتعامل مع حكّام المنطقة كدمى تشكِّل تحركاتها وفق أجندات خاصة.
الحصاد المُر
في 14 يوليو/ تموز الماضي، ترجمت الإمارات أول بنود الاتفاق الموقّع في سبتمبر/ أيلول الماضي إلى واقع فعلي، وذلك حين افتتحت سفارتها في تل أبيب باحتفال رسمي، حضره الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، وذلك بعد أقل من شهر على افتتاح وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد سفارة وقنصلية بلاده في أبوظبي ودبي.
ويعدّ افتتاح السفارة الإماراتية بشكل علني في مبنى البورصة الجديد بالعاصمة تل أبيب، قلب المركز المالي لـ”إسرائيل”، إيذانًا رسميًّا بتطبيع العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدَين، سبقَ ذلك حزمة من اتفاقيات التعاون الموقّعة بين البلدَين لتعزيز التعاون في شتى المجالات.
التطورات التي شهدتها المنطقة مؤخرًا، سواء على مستوى الداخل الفلسطيني والتصعيد مع قوات الاحتلال، وبزوغ فجر المقاومة مرة أخرى رغم تضييق الخناق ومخطّط الوأد، أم على المستوى الخارجي المتعلق بتغير الإدارة الأمريكية الشعبوية واستقدام ساكن جديد للبيت الأبيض؛ أرخت بظلالها على حالة الاحتفاء الشديد بخطوة التطبيع، التي بدأت تفقد زخمها شيئًا فشيئًا وسط تصاعُد الرفض الشعبي لها.. ليبقى السؤال: ما الذي تحقّقَ بعد عام كامل من “اتفاق أبراهام”، سواء للإمارات أم لدولة الاحتلال؟
تقزيم الحضور وتراجُع الشعبية
لو كان هناك مكسب سياسي تحقّق من خلال تلك الاتفاقية، فسيكون لصالح دولة الاحتلال، التي نجحت في إدخال بعض العواصم العربية في حظيرة التطبيع بعد سنوات من الفشل، فقد استطاعت في عام واحد فقط ضمّ 4 دول عربية -بقيادة الإمارات عرّاب التطبيع الأول- إلى قائمة الدول المطبِّعة، فيما لم تنجح على مدار أكثر من 3 عقود إلا في ضمّ دولتَين فقط.
أما على المسار الإماراتي، فقد ساهم هذا الاتفاق في تقزيم الحضور السياسي للدولة الخليجية وتراجُع شعبيتها بصورة كبيرة، سواء على مستوى الرفض الداخلي من بعض المعارضين للتقارُب مع دولة الاحتلال، أم على مستوى الشارع العربي، وهو ما يمكن تلمّسه بشكل واضح في الخطاب الإعلامي والمجتمعي طيلة العام الماضي.
ومع الساعات الأولى للإعلان عن تلك الخطوة، تلقّت أبوظبي ضربة موجعة من حليفها الإسرائيلي، تعكس طبيعة النظرة التي تتعامل بها دولة الاحتلال مع النظام المطبِّع حديثًا، فحين حاول ابن زايد تبرير تلك الخطوة المشينة عبر التلميح بأنها لخدمة القضية الفلسطينية، ووقف ضم المزيد من أراضي الضفة الغربية المحتلة، إذ برئيس الوزراء العبري يكذّب ابن زايد ويؤكّد أن الاتفاق لا علاقة له بهذه المسألة، ما أوقع ولي عهد أبوظبي في حَرَج كبير على المستوى الشعبي.
فقدان التأثير في الملفات الحساسة
بينما كان الإماراتيون يؤملون أنفسهم في أن يزيد التقارُب مع “إسرائيل” من نفوذهم في الملفات الإقليمية، التي تسعى الدولة الخليجية لتصدّر مشهدها، إذ بهم يقعون في فخّ التهميش وفقدان التأثير، خاصة في ظل تعارُض أجندتهم مع سياسات القوى الإقليمية والدولية، التي استقرَّ في يقينها أن أبوظبي تلعب لحسابات خاصة، تنفيذًا لمخططات بعينها.
ويجسِّد الملف الليبي تحديدًا حجم التراجُع الواضح في الحضور الإماراتي على المستوى الإقليمي، فبعدما كانت لاعبًا رئيسيًّا في المشهد، حيث ساعدها على ذلك تطابُق مصالحها مع القاهرة في هذا الملف، تحوّلت إلى دكة البدلاء، وربما خارج قائمة التشكيل برمّته، وعليه تسعى في الآونة الأخيرة لاستعادة هذا الحضور من خلال التشويش على مخرجات الحوار الوطني الأخير في فيينا وبرلين، عبر ذراعها العسكرية اللواء متقاعد خليفة حفتر.
حتى الملفَّين اليمني والإيراني، التي كانت تلعب دورًا محوريًّا في تشكيله مع حليفها السعودي، انزوى حضورها فيهما بصورة لافتة للنظر خلال الأشهر الأخيرة، وتصدرت سلطنة عُمان المشهد نسبيًّا، وهو ما يعكسه التقارب الحالي بين مسقط والرياض، الذي يقرأه البعض في ضوء الاستغناء عن الدور الإماراتي في تلك الملفات.
بوابة تل أبيب للسوق الآسيوية
على مدار سنوات طويلة مضت، دأبت “إسرائيل” في البحث عن معبر لها لتسويق منتجاتها داخل أسواق آسيا، ومع هذا الاتفاق وجدت دولة الاحتلال ضالتها في الحليف الإماراتي ليؤدّي هذا الدور على أكمل وجه، لا سيما بعد فتح خزائن الدولة الخليجية تحت تصرُّف الإسرائيليين، دعمًا واستثمارًا، على المستويات كافة.
وبحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء في الدولة العربية، فقد بلغَ حجم التبادُل التجاري بين البلدَين، بعد نحو عام على توقيع اتفاقات التطبيع، نحو 570 مليون دولار، وفق صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنه خلال عام 2020 (منذ سبتمبر/ أيلول إلى ديسمبر/ كانون الأول)، والأشهر الست الأولى من عام 2021، صدّرت “إسرائيل” نحو 197 مليون دولار من السلع والخدمات إلى الإمارات، واستوردت منها ما يقارب 372 مليون دولار.
“مجلس الأعمال الإماراتي الإسرائيلي” (المدشَّن في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 لتعزيز التعاون بين البلدَين) يتوقّع أن يصلَ حجم التبادُل التجاري إلى مليار دولار لعام 2021، وأن يتجاوز 3 مليارات دولار في غضون 3 سنوات، بينما أشار إلى توقيع 500 شركة إسرائيلية صفقات تجارية مع الدولة الخليجية.
رجل الأعمال العبري، والمؤسِّس المشارِك لـ”مجلس الأعمال الإماراتي الإسرائيلي” دوريان باراك، يقول في تصريحات لصحف إسرائيلية إن الإمارات “منصة فريدة للوصول إلى العالم بأسره”، لافتًا إلى استهداف بلاده أسواق جنوب آسيا وشرق أفريقيا وغيرها من الأسواق صاحبة الفرص الاستثمارية الكبيرة.
تجاوزَ الدعم الإماراتي لـ”إسرائيل” مرحلة الاستثمار والشركات والصفقات إلى اعتبارات أخرى، ربما يسمّيها البعض إنسانية، غير أنها إنسانية مجزّأة ترى بعينٍ واحدة.
فبحسب موقع “كلكالست” الإسرائيلي المختصّ في الشؤون الاقتصادية، قدّمَ رجل الأعمال الإماراتي الشهير محمد العبّار، تبرُّعات سرّية لتمويل مشروع إسرائيلي ضخم انطلق عام 2003، من خلال تقديم مساعدات إلى آلاف الأُسر الإسرائيلية التي تعاني الجوع والعوز بقيمة 550 مليون شيكل، أي نحو 170 مليون دولار.
انفراط عقد الحلفاء
الهرولة الإماراتية غير المتّزنة مع دولة الاحتلال، أثارت قلق حلفاء الدولة الخليجية في المنطقة، لا سيما القاهرة والرياض، خاصة أنها لم تراع مقتضيات الأمن القومي لكلا البلدَين، فالتقارُب المتعمِّق مع تل أبيب يحمل بين طياته تهديدًا كبيرًا لمصر من ناحيتها الشرقية.
هذا بخلاف مساعدة “إسرائيل” للإمارات في تعزيز نفوذها إفريقيًّا، خاصة في منطقة القرن الإفريقي، ورغم الضربات الموجِعة التي تلقتها أبوظبي في هذه المنطقة الاستراتيجية، فإن التغريد هناك بمعزل عن القاهرة أثار حفيظة المصريين بصورة كبيرة، خاصة بعد غياب الدعم الإماراتي للموقف المصري في أزمة سد النهضة، فضلًا عن التقارب الواضح في العلاقات مع حكومة آبي أحمد -حليفة “إسرائيل” الإفريقية- في الآونة الأخيرة.
وعلى المستوى السعودي، كانت الإمارات الباب الأكبر لدخول الإسرائيليين الأراضي اليمنية، وإيجاد موطئ قدم هناك على المستوى الاقتصادي أو الأمني، وهو ما يتعارض مع الأجندة السعودية هناك، الأمر الذي انعكس بصورة أو بأخرى على منسوب العلاقات بين البلدَين.
وبعد عام كامل من التطبيع، انفرط عقد التحالف الأقوى في المنطقة (السعودية – مصر – الإمارات)، ولم تنجح دولة الاحتلال في الحفاظ على مكانة حليفها الجديد وثقله السياسي، لتجدَ أبوظبي نفسها وحيدةً وسط هذا الموج الهائج إقليميًّا، لم تسعفها إمكاناتها المادية ولا نفوذها السياسي.
سقوط ورقة التوت
وقعَت الدولة الخليجية في اختبار عروبي صعب للغاية، كشف النقاب عن الكثير من الشعارات المزيّفة التي كانت تعتمد عليها لتمرير دعمها للقضية الفلسطينية، ومساعيها “الإعلامية” لنصرة الشعب الفلسطيني في مواجهة دولة الاحتلال، فبعيدًا عن شعار وقف ضمّ أراضي الضفة كمبرِّر لتوقيع الاتفاق، وهي الادّعاءات التي كذّبتها الحكومة العبرية، جاء العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة لتسقط ورقة التوت الأخيرة.
عودة القضية الفلسطينية لمكانها الطبيعي، متصدِّرة قائمة أولويات الشارع العربي كقضية رئيسية رغم محاولات التسطيح المتعمَّدة، وضعَ أبناء زايد في مأزق كبير، كونهم عرّابي التطبيع، ورافعي شعارات دعم القضية العروبية الأمّ، خاصة بعد الانتصارات السياسية التي حقّقتها المقاومة وعرّت أبوظبي بشكل فاضح.
فمنذ الإعلان عن التطبيع، وتسارُع الدولة الخليجية لإقامات علاقات على كل المستويات مع الدولة العبرية، حتى في خضمّ الحرب المستعرة في غزة، التي دفعت بعض حلفاء “إسرائيل” للاعتراض والتنديد بها كالقاهرة، غير أن الوضع على المستوى الإماراتي كان مختلفًا، بإصرار غير مفهوم على المضي قدمًا في تعزيز التعاون.
انكشفت العورات بصورة أوضح، مع وقف جميع أشكال الدعم التاريخي التي كانت تقدّمه الإمارات للفلسطينيين، الأمر هنا لم يتعلق بحركة المقاومة “حماس” التي تعتبرها أبوظبي خصمًا لها منذ عام 2011 إبّان ثورات الربيع العربي، لكنه تجاوز ذلك وصولًا إلى منع الدعم عن السلطة الفلسطينية ذاتها برئاسة محمود عباس “أبو مازن”.
دفعت تلك الوضعية المخزية بعض وسائل الإعلام الأجنبية للدخول على خط الأزمة، تعليقًا واستيضاحًا، منهم محلِّل الشؤون الأمنية بشبكة “بي بي سي” فرانك غاردنر، الذي قال في تقرير له نشرته الشبكة: “بعدما أخبرَت تلك الحكومات شعوبها بفوائد التعاون مع “إسرائيل” في مجالات التجارة والسياحة والبحوث الطبية والاقتصاد الأخضر والتنمية العلمية، تجد نفسها الآن في وضع محرج مجازيًّا، إذ تظهرُ لقطات تلفزيونية على مدار 24 ساعة قصف “إسرائيل” لغزة، وتهديد الفلسطينيين بإجلائهم من منازلهم في القدس الشرقية واقتحام الشرطة مؤخرًا لحرم المسجد الأقصى في القدس”.
الفاضح في الأمر احتمالية تورُّط الإمارات في العدوان على غزة، من خلال دعم قوات الاحتلال عبر خزائنها المفتوحة طيلة عام كامل، ما دفع البعض لاعتبارها شريكًا أساسيًّا في تلك الانتهاكات على الشعب الفلسطيني، وما لذلك من أثر قوي في تشويه صورة الإمارات وحكّامها لدى الشارع الفلسطيني والعربي بوجه عام.
وهكذا تستقبلُ الإمارات عامها الأول في ظلال التطبيع بنزيف خسائر على المسارات كافة، وتقزيم لدورها الإقليمي، وعزلة سياسية عن حلفائها، وفقدان التأثير في الملفات التي كانت تمتلك الكلمة العليا بها، فضلًا عن سقوطها شعبيًّا إثر انهيار قناعها المزيَّف الخاص بدعم القضية الفلسطينية، وفي المقابل تواصِلُ دولة الاحتلال حصادها لثمار هذه الخطوة التي جاءت لها مجانًا وعلى طبق من ذهب.