تعيش الجزائر منذ الاثنين الماضي حالة من الحزن والفزع بسبب عشرات الحرائق التي تشهدها أكثر من 15 ولاية، خاصة وسط وشرق البلاد، والتي أودت بحياة العشرات منهم 28 عسكريًّا، وسط تساؤلات حول أسبابها إن كانت إجرامية كما تقول السلطات، أم نتاج تغيرات طبيعية مثلما يحدث في عدة بلدان بسبب تقلُّبات المناخ.
ورغم تجنُّد الجميع من حكومة وجيش ومواطنين للسيطرة على هذه الحرائق، إلا أن النيران لا تزال تشتعلُ ما إن تخمدَ في مكان آخر، ليعود مع هذا الجدلُ حول قدرة البلاد على مواجهة المخاطر الكبرى، ومدى نجاعة الإمكانات المتوفِّرة في السيطرة على الحرائق، خاصة الانهدام شبه التام للطائرات المتخصِّصة في السيطرة على النيران.
نارٌ في كل مكان
قبل يوم الاثنين 9 أغسطس/ آب، حذّرت مصالح الأرصاد الجوية في الجزائر من موجة حرّ تجتاح البلاد هذا الأسبوع، لكن لا أحد كان يعتقد أن ترتفع درجات الحرارة إلى أكثر من المتوقع، وذلك بعد أن زادت الحرائق التي اجتاحت ولايات الوسط والشرق المعروفة بطابعها الغابي الكثيف.
وأصبحت تقارير محافظة الغابات والحماية المدنية تعلن بين فترة وأخرى عدد الحرائق المندلعة، والولايات التي مسّتها، فقد أوضحت حصيلةٌ للحماية المدنية خلال 24 ساعة الأخيرة أُرسلت إلى “نون بوست”، أنه تمّ تسجيل “اندلاع 99 حريق غابة على مستوى 16 ولاية” ليلة الثلاثاء إلى الأربعاء.
وأوضحت الحماية المدنية أنه في حدود الساعة الثامنة من صباح أمس، تمّ تسجيل 69 حريقًا على مستوى 14 ولاية، مسجِّلةً في كلٍّ من ولاية تيزي وزو 24 حريقًا، ولاية الطارف 15 حريقًا، ولاية بجاية 8 حرائق، ولاية جيجل 6 حرائق، ولاية عنابة 3 حرائق، وحريقَين في كل من ولايات سكيكدة، وسطيف، والبليدة، وسوق أهراس، وحريق واحد بولايات المدية، وتبسة، والبويرة ولاية قالمة.
وتظهر هذه الحصيلة أن الحرائق ما زالت تمسّ ولايات الوسط والشرق، واشتدت حدّتها بولايات كانت منخفضة الضرر، مثل ولاية الطارف الحدودية التي سجّلت 15 حريقًا.
وأكدت الحماية المدنية أن أكبر تحدٍّ يبقى بولاية تيزي وزو، التي سجّلت “24 حريقًا عبر 17 بلدية، هي عين الحمام، بوزقن، عزازقة، الأربعاء نايث إيراثن، تيقزيرت، واسيف، ذراع الميزان، أزفون، بني دوالة، تيزي وزو، بني يني، مقطع، إعكوران، ماكلة، واضية”.
هذه الولايات فلاحية وجبلية، ومعروف عنها وجود المدن بين الأشجار.
وتذكر إحصاءات الحماية المدنية أنه منذ تاريخ 9 أغسطس/ آب، تمّ تسجيل اندلاع “116 حريقًا بولاية تيزي وزو، منها 52 حريقًا مهمًّا، تم إخماد 28 حريقًا وتعمل حاليًّا فرق الحماية المدنية على إخماد 24 حريقًا آخر”.
وبولاية تيزي وزو التي تعيش الفاجعة بحقّ، سخّرت الحماية المدنية إمكانات مادية وبشرية هائلة لإخماد الحرائق، تمثلت في 12 رتلًا متنقِّلًا من الوحدة الوطنية للتدريب والتدخُّل، وإمكانات مادية وبشرية لـ 10 ولايات، بالإضافة إلى مروحيتَين من المجموعة الجوية للحماية المدنية، وتجنيد 800 عون حماية مدنية بمختلف الرتب، و115 شاحنة إخماد الحرائق، إضافة إلى تدخُّلات لعناصر الجيش ومساعدة المواطنين من سكان الولاية.
ونقل ناشطون ووسائل إعلام محلية صورًا مفزعة للنيران التي أتَت على الأخضر واليابس، وحاصرت المنازل والمواطنين، خاصة أن هذه الولايات فلاحية وجبلية، ومعروف عنها وجود المدن بين الأشجار، خاصة بمنطقة القبائل التي بها أكثر الأضرار، أي ولايتَي تيزي وزو وبجاية.
تضامُن
ظلت وسوم #تيزي_وزو_تحترق و#الجزائر_تحترق و#الجزائر_لن_تركع، وغيرها من العبارات المعبِّرة عن الوضع الذي تعيشه الجزائر، تتصدّر المواضيع الأكثر اهتمامًا وتداولًا على مواقع التواصل الاجتماعي في هذه الأيام، وإن اختلفت آراء المغرّدين بشأن مضمون هذه الوسوم، فإن الجميع اتّفقَ على ضرورة التضامُن للخروج من هذه المأساة.
وغرّد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قائلًا: “يعيش وطننا المفدّى، مرة أخرى، محنة أليمة تضاف إلى المحن التي عاشها هذه السنة. وكما انتصرنا في المحن السابقة، سننتصر في هذه بحول الله. قلوبنا مع كل من يساهم في إخماد النيران، إذ أسدينا تعليماتنا لاتخاذ كل التدابير اللازمة من أجل التحكم والسيطرة على الوضع”.
ونشرت صفحة “جزائري” على تويتر صورًا للحملات التضامنية التي يقوم بها الجزائريون، للتضامن مع العائلات المتضرِّرة من الحرائق.
وأكدت روزة تسعديت أنه رغم جسامة الكارثة التي تعيشها البلاد، إلا أن “#الجزائر_لا_تستسلم، فأبناء الجزائر وعلى رأسهم شباب خنشلة (الذين ما زال رماد حرائقهم لم يبرد بعد) يهبّون كرجل واحد لإغاثة إخوانهم في تيزي وزو، قوافل المساعدات الإنسانية لم تتوقف منذ بداية الكارثة. عن أي استسلام أو ركوع تتحدثون”.
ورفض مغرِّدون وسم #الجزائر_تحترق باعتباره يعبِّر عن سلبية وإحباطٍ للمعنويات، ومنهم جلال الورغي الذي كتب قائلًا: “الجزائر لا تحترق #الحزائر_لن_تحترق، لأنها في قلوبنا”.
جهود واتّهامات
أكّدت الحكومة الجزائرية اتخاذها كل التدابير التي من شأنها المساهمة في إخماد الحرائق في أقرب وقت، وقال الرئيس تبون إنه “قد تمّ تجنيد كل الوسائل المتاحة، ماديًّا وبشريًّا، للتصدي لهذه الحرائق، التي تمسّ عدة ولايات، ريثما نتغلب نهائيًّا على هذه الكارثة، وستنطلق الدولة فورًا في إحصاء الخسائر وتعويض المتضرّرين”.
وأعلن وزير الداخلية كمال بلجود الثلاثاء، لدى ذهابه إلى ولاية تيزي وزو، أن عملية إحصاء المتضرّرين ستنطلق السبت المقبل، غير أنه أشار إلى أن نشوب هذه الحرائق المهولة لم يكن طبيعيًّا، رغم توفُّر الظروف الجوية المساعدة لذلك، واتهم من أسماها بـ”الأيادي الإجرامية” بالوقوف وراء ذلك، بالنظر إلى إشعال 50 حريقًا في الوقت ذاته تقريبًا في 14 ولاية.
تشهد البلاد سلسلة من الأوضاع المأساوية التي تظهر حالة مقلقة من عدم الاستعداد في إدارة حالات الأزمات.
وصبّت تصريحات الوزير الأول الجزائري أيمن بن عبد الرحمن في المنحى ذاته، إذ قال للتلفزيون الجزائري الحكومي إن “أيادٍ إجرامية” قد تكون وراء نشوب هذه الحرائق، معلِّلًا ذلك بأن بُؤر الحرائق على مستوى ولاية تيزي وزو، تمّ اختيارها بدقة متناهية، نظرًا إلى سرعة انتشار النيران وصعوبة وصول وسائل الإنقاذ إليها.
وأعلن بن عبد الرحمان اعتقال 3 أشخاص من قبل مصالح الأمن بولاية المدية جنوب العاصمة الجزائرية، لضلوعهم في الحرائق التي اندلعت بالمنطقة.
ونقلت تقارير متطابقة اعتقال شخص آخر بولاية عناية، وهو يهمّ بإضرام النار في غابات سرايدي بولاية عنابة شرق البلاد، كما تمّ العثور على عدد من العجلات المطاطية معدّة لإشعال النار بها في ولاية البويرة، وبغابة بوشاوي بالعاصمة الجزائر.
والأربعاء تمّ إلقاء القبض على شابَّين متلبّسَين بإشعال النيران بمنطقة الأربعاء نايث إيراثن بولاية تيزي وزو، وهي الولاية الأكثر تضرُّرًا من الحرائق.
وقبل أيام درسَ مجلس الوزراء مشروع قانون يتعلق بإدانة مفتعلي الحرائق بعقوبات تصلُ حتى المؤبّد، إضافة إلى استثناء هذه الجريمة من حق العفو الذي تصدره السلطات.
ويساندُ هذا الرأي حتى وزير الاتصال السابق عبد العزيز رحابي الذي يُحسَب على المعارضة، فقد اعتبرَ هذه الأحداث حرقًا متعمّدًا شاملًا ومخطَّطًا يستهدف الجزائر.
وقال رحابي: “تشهد البلاد سلسلة من الأوضاع المأساوية التي تظهر حالة مقلقة من عدم الاستعداد في إدارة حالات الأزمات، ولكن تبرز أيضًا عن حقيقة وجود عمليات تهدف إلى إضعاف الجزائر“.
وأضاف رحابي أن “الحرق المتعمَّد الشامل والمخطَّط والمتضافِر يهدف إلى خلق حالة من عدم الاستقرار في سياق يتّسم بأزمة صحية وهشاشة اقتصادية. إن ردّ فعل الشعب في أوج عظمته لأنه من صنع المحن والشدائد، يتغذى من روح التضحية وفضيلة التضامن التي هي علامات هوية الأمم العظيمة”.
وحسب رحابي، فيجب أن نتعلم من دروس كل أزمة، وعلى وجه الخصوص “أن نتعلم ألا نعتمد على الآخرين لأن السيادة الصناعية أصبحت حقيقة واقعة ومطلب من متطلبات قرننا. على هذا النحو، يجب على الجزائر إصلاح نموذجها ووضع صحة وتعليم وأمن مواطنيها على رأس أولوياتها، وتعلُّم كيفية إشراك المواطن بشكل كامل في تحديد مصيره”.
وما قد يعزِّز فرضية المؤامرة الهادفة إلى إضعاف الدولة، هو أن هذه الحرائق الواسعة جاءت بعد ساعات من اجتماع الرئيس تبون مع مجلس الوزراء، أعلنَ فيه خططًا لاحتواء أزمة الأكسجين التي تمرّ بها البلاد بعد ارتفاع عدد الإصابات بفيروس كورونا، إضافة إلى جملة من الإجراءات التي تستهدف تحسين ظروف الشباب، واندلاع الحرائق يشكّل أزمة جديدة تجعلُ الدولة في حالة استنفار دائم ترهِقُ بها إطاراتها ولا تتفرغ إلى تنفيذ ما وعدت به، فيزداد الاحتقان الشعبي.
انتقادات
إذا كانت الحكومة منهمكة في إيجاد الحلول للخروج من أزمة الحرائق، والمواطنون مفزوعون من حجم هذه الكارثة، فإن أحزاب المعارضة لم تفوِّت الفرصة لتوجيه انتقادات واسعة للحكومة.
واعتبرَ حزب العمال الذي تقوده لويزة حنون، القريبة من الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة وعائلته، أن انعدام العتاد المخصَّص لمواجهة الحرائق، هو نتاج سياسة التقشف التي انتهجتها الحكومات المختلفة، والتي لم يسلم منها قطاعا الغابات والحماية المدنية.
واستغرب حزب العمال عدم اتخاذ أي تدابير استباقية من طرف السلطات المعنية، بالإضافة إلى عدم استخلاص الدروس والعِبَر من الحرائق التي اجتاحت ولاية خنشلة مؤخّرًا.
تعاني الجزائر العام تلو الآخر من هذه الكوارث، تجدُ السلطة تتبنّى طرق التدخل التقليدية نفسها، ومنهجيات التسيير ذاتها ولا شيء تغيّر بالنسبة إلى الوسائل.
أما جبهة القوى الاشتراكية “الأفافاس”، التي لها قاعدة شعبية واسعة بمنطقة القابائل المصنَّفة كأكثر المناطق تضرّرًا، فقد دعت على وجه السرعة إلى “اتخاذ كل التدابير، وتسخير كل الوسائل والجهود، وتجنيد كل القطاعات لنجدة وإنقاذ المواطنين وإخماد النيران والتحكم فيها قبل فوات الأوان”.
وتساءل “الأفافاس” عن “الطابع التسلسُلي والمتزامِن لهذه الحرائق، والتي تخفي من دون أي شكّ نية غير بريئة ومقاصد إجرامية مشبوهة لأصحاب المخططات الدنيئة التي تستهدف الوطن والشعب، كما يتساءل عن الجهة المستفيدة من إشعال هذه النيران”.
وشدّد “الأفافاس” على “فتح تحقيق جدّي وفوري عن الملابسات والأسباب الكامنة وراء هذه الحرائق المتكررة، وإطلاع الرأي العام على نتائجها مع أخذ إجراءات صارمة ضد المتسببين فيها”.
وقال “الأفافاس”: “فبينما تعاني الجزائر العام تلو الآخر من هذه الكوارث، تجد السلطة تتبنى طرق التدخل التقليدية نفسها، ومنهجيات التسيير ذاتها ولا شيء تغيّر بالنسبة إلى الوسائل”.
وتساءل “الأفافاس”: “أين هي الطائرات المختصة في إطفاء النيران وأين هي الإمكانات التي يجب وضعها تحت تصرف أعوان الحماية المدنية؟”.
أما حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية العلماني، فقد حمّلَ السلطات مسؤولية سلسلة الحرائق المُندلعة في عدة ولايات، وأوضح أن الأمر كان يستدعي طلب مساعدات دولية لا سيما من حيث طائرات الإطفاء.
ومساء الأربعاء، أعلنت الوزارة الأولى الجزائرية أنها توصّلت إلى اتفاق مع الاتحاد الاوروبي باستئجار طائرتَي إطفاء تصلان الخميس إلى الجزائر، وقبلها كان الرئيس تبون قد أعلنَ الحداد الوطني لـ 3 أيام تضامنًا مع عائلات الضحايا، حيث ارتفع عددهم مساء أمس إلى 69 قتيلًا.
ووسط حجم الفاجعة التي تعيشها البلاد، واتّهامات السلطة لجهات لم تسمِّها بعد بالوقوف وراء نشوب الحرائق، تتعالى الأصوات المنادية بضرورة اقتناء الوسائل اللازمة لمواجهة النيران، وخصوصًا أن ما تعرفه عدة مناطق من العالم، مثل تركيا واليونان والولايات المتحدة الأمريكية، يجعل الجزائر معرّضة في أي وقت لكوارث مثل هذه بسبب التغيرات المناخية بعيدًا عن منطق المؤامرة، ومعه أصبح على السلطات أن تجعل المخطَّط الوطني لمكافحة المخاطر الكبرى حقيقة ميدانية، لا مجرّد شعارات فقط.