يحتفل الهنود والباكستانيون منتصف شهر آب/أغسطس من كل عام، بيوم الاستقلال عن الحكم البريطاني عام 1947، بعد معارك ضارية خاضها الشعبان للتحرُّر من ربقة الاستعمار، والاستقلال عن عباءة دول رابطة الشعوب البريطانية، المعروفة باسم “الكومنولث”.
وامتدت فترة الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية (الهند وباكستان وبنغلاديش وميانمار) قرابة قرن ونصف، فيما عُرفت تلك المرحلة باسم الراج البريطاني (1858-1947)، ذاق فيها الشعبان ويلات التنكيل والقهر والإفقار المتعمَّد، بعدما حوّل المستعمر الأوروبي تلك البقعة الشاسعة إلى ثكنة عسكرية واقتصادية لخدمة أجنداته العالمية في ذلك الوقت.
ورغم ما حمله الاستقلال من قيمة تاريخية تُحسَب للدولتَين الكبيرتَين، إلا أن الوضع لم يكن على النحو المأمول، حيث فتح التقسيم بابًا كبيرًا للحروب والنزاعات بين البلدَين، غذّاه المستعمِر بسياساته الممتدة لسنوات طويلة، كان لها كلمة السرّ في الإبقاء على تلك الوضعية حتى اليوم، والتي كان حصادها قتل ما بين 500 ألف إلى مليون شخص، وتهجير عشرات الملايين من الشعبَين.
ومع أعياد الاستقلال كل عام تثار العديد من التساؤلات المكرَّرة، التي لم يحسَم الجدل بشأن الإجابة عنها، أبرزها: هل كان الاستقلال في خدمة البلدَين فعلًا أم كان فخًّا استعماريًّا للإبقاء عليهما في حالة توتر واستنزاف مستمرة، خدمةً لأجندات استعمارية أكبر؟ وهل حرّر الاستعمار كلا الشعبَين أم وضعهما في سياق عبودي جديد؟ والسؤال الأبرز: هل كان ما حدث استقلالًا أم انقسامًا؟
مقدِّمة تاريخية
تمكّن المستعمر البريطاني منذ أن وطأت أقدامه ثرى شبه القارة الهندية، بدايات منتصف القرن التاسع عشر، من استنزاف مواردها بشكل شبه كامل، لخدمة أجنداته التوسُّعية والإنفاق على عجز بلاده التي كانت تعاني من أزمات اقتصادية حادة في ذلك الوقت.
أسفر عن هذا الاستنزاف زيادة معدلات الاحتقان والغضب من جانب، وتعزيز البُعد الطائفي والديني من جانب آخر، الأمر الذي أدخل الشعب الهندي بشتى أطيافه أنفاقًا مظلمة من المواجهات الدامية التي أسقطت عشرات الآلاف منهم، لا سيما بين الهندوس، وهم الأكثرية، والمسلمين رغم أقليتهم.
دفعت تلك الممارسات جناح وخان لحثّ المسلمين على مقاطعة حزب المؤتمر، والبدء في التفكير بكيان جديد يكون نواةً لتدشين حزب يتحدث باسم المسلمين.
مارسَ الهندوس كافة أشكال التنكيل بالمسلمين، ورغم ذلك كان التحرر من الاستعمار هدفًا أسمى جمع تحت لوائه كافة الأطياف الدينية، فانطلقت مع بدايات القرن العشرين حركات التحرر عن طريق حزب المؤتمر القومي الهندي، وكان الحزب الأبرز وقتها، كما كان ذا أغلبية هندوسية.
جمع الحزب زعماء وقادة البلاد من الهندوس والمسلمين، أبرزهم محمد علي جناح وأحمد خان من الهنود المسلمين، وجواهر لال نهرو من الهنود الهندوس، وتمّ الاتفاق على التوحُّد من أجل نيل الحرية والتخلص من ربقة الاستعمار، لكن ممارسات الحزب وقتها أثارت حفيظة المسلمين.
دفعت تلك الممارسات جناح وخان لحثّ المسلمين على مقاطعة حزب المؤتمر، والبدء في التفكير بكيان جديد يكون نواةً لتدشين حزب يتحدث باسم المسلمين، وبالفعل كان تأسيس المؤتمر التعليمي الإسلامي، الحاضنة السياسية التي خرج من رحمها حزب الرابطة الإسلامية عام 1906.
خاض الحزب الذي أخذ على عاتقه قيام دولة خاصة للمسلمين هربًا من مضايقات الهندوس، العديدَ من المعارك السياسية والقانونية والحقوقية ضد حزب المؤتمر القومي، ما عزّز من الفجوة بين أبناء الشعب الواحد، فيما تصاعدت الأمور لتصل حد العنف والاستهداف المباشر.. وهنا بدأت المطالبة علانية بتقسيم شبه القارة الهندية إلى بلدَين، الهند للهندوس وباكستان للمسلمين، فيما عُرف باسم “إعلان لاهور” عام 1940.
دعوات التقسيم
قبل دعوة الانقسام التي لاقت تأييدًا كبيرًا من قِبل المسلمين، رغم اعتراض بعض القادة عليها فيما بعد، بذلَ الزعيم المسلم علي جناح جهدًا دبلوماسيًّا مكثّفًا للحيلولة دون حدوث انقسام أو انفصال بين أبناء الشعب الواحد، لكنه في الوقت ذاته حرصَ على حصول المسلمين على كامل حقوقهم المشروعة كشركاء في الوطن.
قدّمَ قائد حزب الرابطة الإسلامية لحزب المؤتمر القومي، وثيقةً مكوَّنة من 14 مبدأ تحدِّد العلاقة بين المسلمين والهندوس، بما يحافظ على تماسُك الفصيلَين وتجنُّب نشوب صدامات بينهما.
أبرز تلك المبادئ: وجوب مراعاة حقوق الأقليات الموجودة في مقاطعات الهند مع حمايتهم من عنف أو بطش الأكثرية، وسنّ دستور جديد يكون أساسي في البلاد يمنح كل مقاطعة من مقاطعات الهند حق الحكم المباشر.
بجانب أن يكون للمسلمين كوتة ثابتة في الحقائب الوزارية بالحكومة تقدَّر بنسبة الثلث تقريبًا، وفي البرلمان بنسبة الربع، مع تخصيص مبلغ من المال لكل ولاية تأخذه سنويًّا للإنفاق على شئونها الإسلامية، وترك الحقوق التي يتمتّع بها المسلمين في مقاطعات البنغال والبنجاب كما هي دون المساس بها.
كان يأمِل جناح نفسه بقبول تلك المبادئ من قبل الحزب القومي كبادرة لحسن النوايا، لكن الردّ كان سلبيًّا، حيث تجاهل الحزب الوثيقة برمّتها ولم يعلِّق عليها، الأمر الذي اعتبره المسلمون إهانةً متعمَّدة، ليواصلوا مساعيهم نحو الانفصال، لا سيما بعد إصدار بريطانيا دستورًا جديدًا تجاهلَ المسلمين تمامًا، في رسالة واضحة لحزب الرابطة بأنه لا مكان لهم في حكم البلاد.
قام البريطانيون بتحريض الشيعة وأنصار الطائفة الإسماعيلية ضد السنّة بقيادة علي جناح، لكنها باءت جميعها بالفشل.
وفي ظل تلك الوضعية انقسمَ المسلمون إلى رأيَين، الأول ينادي بهند موحَّدة دون تقسيم، والآخر بهند مقسَّمة، غير أن الحرب التي شنّها الهندوس بحق المسلمين وزيادة وتيرتها كانت دافعًا لتغليب كفّة الفريق المنادي بالانقسام، وهنا خاضَ المسلمون معاركهم على مسارَين متوازيَين، مواجهة الهندوس من جانب والتفاوض مع الإنجليز من جانب آخر.
حاول البريطانيون تفتيت لُحمة المسلمين بأكثر من طريقة، أبرزها زرع الفتنة بين المذاهب والتيارات، حيث قاموا بتحريض الشيعة وأنصار الطائفة الإسماعيلية ضد السنّة بقيادة علي جناح، لكنها باءت جميعها بالفشل.
وحين استقرَّ في يقين الهندوس والإنجليز معًا أنه لا فائدة من الحرب مع المسلمين، كانت الموافقة على التقسيم، وقُسِّمت شبه القارة إلى دولتَين، الهند (دولة للهندوس) التي استقلت في 14 أغسطس/ آب 1947، ثم باكستان (دولة للمسلمين) التي أعلنت استقلالها رسميًّا في اليوم التالي مباشرة.
استنزاف الهند
حرصَ الخطاب السياسي والإعلامي البريطاني خلال العقود الماضية على تبرئة ساحة المستعمر بشأن المكاسب التي حقّقها من خلال احتلال شبه القارة الهندية، زاعمًا أن إدارة الهند كلّفت الحكومة البريطانية الكثير من النفقات وأنها لم تعود عليه بأي فائدة اقتصادية.
لكن البحث الذي نشرته الاقتصادية الشهيرة أوتسا باتنايك مؤخّرًا، أسقط هذا الزعم تمامًا، حيث كشف أن الدولة البريطانية استنزفت قرابة 45 تريليون دولار تقريبًا من الهند خلال الفترة ما بين عامَي 1765 و1938، أي ما يعادل 17 ضعف الناتج المحلّي السنوي للمملكة في الوقت الراهن.
البحث المنشور بجامعة كولومبيا أوضح تفاصيل الاستيلاء على هذا المبلغ الكبير، الذي يكشف كيف كانت بلاد الهند كنزًا للبريطانيين لمدة قرن ونصف، لافتًا إلى أن بريطانيا كانت تشتري المنتجات من التجّار الهنود بأسعارها العادية قبل حقبة الاستعمار، لكن بعد أن أحكمت سيطرتها على البلاد تغيّرت آليات البيع والشراء.
كانت كلمة السر في تلك النقلة الكبيرة شركة الهند الشرقية، الخاضعة لسيطرة الحكومة البريطانية، والتي احتكرت البضائع بصورة شبه كاملة، حيث كانت تجمع الضرائب من الشعب الهندي، ثم تخصِّص جزءًا من تلك الضرائب لتمويل شراء البضائع الهندية، وهكذا كانت تتمّ عملية الشراء بأموال الهنود أنفسهم ثم تباع لهم بعد ذلك بأضعاف سعرها.
وهكذا واصلَ البريطانيون استنزافهم لأموال شبه القارة الهندية على مدار سنوات طويلة، حتى أفرغوا البلاد من خيراتها ومواردها بعدما كانت مرتعًا لرؤوس أموال العالم، وسوقًا منتِجًا كبيرًا لبضائع العالم، ليتركوها لقمةً مستساغة للفقر والعوز الذي هيّأ البيئة الخصبة للصراعات الطائفية والفتن المذهبية بين أبناء الشعب الواحد، وهو ما استمرَّ لما بعد الانقسام.
انقسام أم استقلال؟
انقسمت الآراء بشأن قرار الاستقلال إلى قسمَين: الأول داعم لهذه الخطوة التي يراها الحل الوحيد لإنقاذ المسلمين من بطش الهندوس وتعصُّبهم الأعمى، وضمان حقوقهم كاملة وتعزيز استقلالهم وسيادتهم فوق أراضيهم، وأنه لولا الاستقلال بدولة للمسلمين لكانوا اليوم إمّا في سجون الهندوس أو أقلية مهمشة وإمّا تحت التراب موتى جوعًا أو قَتلَى.
أما الرأي الثاني فعارض انقسام شبه القارة الهندية إلى دولتَين، ويمثّله كبار العلماء والمفكرين المعاصرين، على رأسهم المفكر الجزائري مالك بن نبي، والمفكّر أبو الأعلى المودودي مؤسِّس الجماعة الإسلامية في باكستان، حيث أجمعا أن الانقسام مخطَّط استعماري بريطاني خبيث لتفتيت قوة الهند، وإجهاض مساعي النهوض والتقدم.
ما كان للمستعمر البريطاني أن يخرج من شبه القارة الهندية قبل أن يترك خلفه إرثًا من النزاعات والحروب.
المفكر بن نبي في كتابه “في مهب المعركة“، يقول صراحة: “إنّ باكستان في حقيقة الأشياء، لم تكن إلا الوسيلة التي أعدّتها السياسة المعادية للإسلام التي تمتاز بها بصورة تقليدية أوساط المحافظين الإنكليز، أعدتها من أجل إحداث الانشقاقات المناسبة في جبهة كفاح الشعوب ضد الاضطهاد الاستعماري”.
وعن حالة الشقاق والنزاع التي تخيّم على المشهد الهندي منذ الاستقلال وحتى اليوم، يحمّل المفكر الجزائري المخابرات البريطانية مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع، مضيفًا: “إنه مكر يبلغ ذروته، إذ استطاعت انكلترة بهذه الطريقة أن تترك الهند في حالة تمزق نهائي، إذ لا يفرق بين المسلمين والهندوك حدود جغرافية لا تستطيع انكلترة تلفيقها مهما كانت براعتها في التلفيق، ولكن يفرق بينهم حدود من الأحقاد ومن الدماء، ذهب ضحيتها الملايين من المسلمين والهندوس، كانوا ضحية المذبحة التي زجّتهم فيها المخابرات الإنكليزية في الوقت المناسب”.
أما في كتابه “وجهة العالم الإسلامي“، فيذهب بن نبي إلى أن نشأة باكستان كانت لهدف ما بعيدًا عن فكرة الاستقلال بدولة للمسملين، قائلًا: “أما الوضع في الباكستان فيبدو لعين الناظر إليه أكثر استبهامًا واختلاطًا، والظاهر أن تشرشل كان يستهدف أهدافًا ثلاثة في الهند، وأنّه قد بلغها فعلًا. ولقد أراد أولًا أن يفوّت على الاتحاد السوفييتي سلاحًا قويًّا من أسلحة الدعاية والإثارة، فماذا عسى أن يكون وضع الهند المستعمَرة على حدود الصين الشيوعية في حرب عالمية ثالثة…؟”.
ويكمل بن نبي: “لقد استطاع “الثعلب الهرم” أن ينشئ في شبه القارة الهندية منطقة أمان، وبعبارة أخرى: حجرًا صحيًّا ضد الشيوعية، ولكنه عرف أيضًا كيف يخلق بكل سبيل عداوة متبادلة بين باكستان والهند، وكان من أثرها عزل الإسلام عن الشعوب الهندية من ناحية، والحيلولة دون قيام اتحاد هندي قوي من ناحية أخرى، ولقد بذل هذا السياسي غاية جهده لتدعيم هذه التفرقة، وتعميق الهوة بين المسلمين والهندوس، تلك الهوة التي انهمرت فيها دماء الضحايا، من أجل هذا التحرر الغريب، فكان الدم أفعل في التمزيق من الحواجز والحدود…”.
المفكّر الباكستاني الشهير، أبو الأعلى المودودي، وهو مؤسِّس الجماعة الإسلامية في بلاده، وله مكانة كبيرة بين المسلمين، فكان يتحفّظ على فكرة القومية بصفة عامة، سواء كانت هندوسية ممثَّلة في حزب المؤتمر القومي، أو إسلامية ممثَّلة في تدشين دولة قومية خاصة بالمسلمين، وعليه عارضَ الرجل قيام دولة باكستان في بداية الأمر (تراجعَ بعد ذلك عن معارضته بعدما باتَ الأمر واقعًا معاشًا)، خوفًا من تحول الهوية الإسلامية إلى هوية قومية تتضارب فيها المصالح.
ومنذ الانقسام كما يسميه المعارضون، أو الاستقلال وفق تعبير المؤيدين، شهد البَلدان عشرات المعارك التي عرقلت جهود التنمية، حيث كرّس كل فريق كافة جهوده لتضييق الخناق على الفريق الآخر، لينجم عن ذلك سلسلة من الحروب الممتدة حتى اليوم أُطلق عليها الحروب الباكستانية الهندية.
ما كان للمستعمر البريطاني أن يخرج من شبه القارة الهندية قبل أن يترك خلفه إرثًا من النزاعات والحروب والفتن، التي ضمنَ بها بقاء تلك البقعة الحيوية من الكرة الأرضية في حالة اشتعال مستمرّ، فيما غضَّ شعبا البلدَين الطرف عن حقيقة تلك المؤامرة، ليواصلا السير على الطريق ذاته الذي رسمه المستعمِر قبل أكثر من 70 عامًا.