عملت أطراف عدة في تونس، على رأسها ساكن قرطاج قيس سعيد، منذ فترة على تشويه السلطة التشريعية وترذيل عمل البرلمان وإظهاره في صورة المتسبب في أزمات تونس، رغم كونه الأكثر عملًا مقارنة بالبرلمان السابق.
تم تشويه مجلس نواب الشعب ونفذت المهمة بنجاح ووصل الأمر إلى حد تعطيل عمله لمدة 30 يومًا قابلة للتجديد وفق أهواء الرئيس سعيد، وتم التوجه حاليًّا نحو السلطة القضائية لتشويهها بعد أن استعصى على الجماعة السيطرة عليها وتوجيهها وفق أهوائهم بعيدًا عن سلطة القانون.
تشويه القضاء
بعد أن تم الانتهاء من مهمة تشويه البرلمان وترذيله، اتجهت البوصلة نحو القضاء، إذ تم فتح المجال أمام “الذباب الإلكتروني” المساند للرئيس قيس سعيد وإجراءاته الانقلابية، لنشر الإشاعات والأخبار الزائفة الهدف منها تشويه قطاع القضاء.
نشر بعض أنصار الرئيس أخبار تفيد القبض على قاضية وهي بصدد الهرب خارج البلاد التونسية نتيجة تسترها على قضايا إرهابية تمس قيادات كبرى في الدولة، لكن تبين فيما بعد أنها مجرد إشاعات لبث البلبلة في هذا القطاع المهم في تونس.
فيما نشر آخرون أخبارًا تفيد بتستر بعض القضاة على رجال أعمال متهمين بالفساد والعمل معهم مقابل تلقيهم رشاوى، وتحدث قسم آخر عن ثروات خيالية وعقارات وسيارات للقضاة مقارنة بأجرهم الذي يتقاضونه في منصبهم.
ودعا العديد من أنصار سعيد الرئيس لتطهير القضاء، بحجة سيطرة حركة النهضة ورجال الأعمال عليه، خاصة بعد أن استعصى على قيس سعيد السيطرة عليه وتطويعه لخدمة أجندته الانقلابية التي تهدف إلى وقف مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد.
تطويعه لتنفيذ أجندته
الهدف من تشويه القضاء، وفق العديد من التونسيين، إظهاره في صورة المسؤول عن الفساد في تونس، حتى يتم تطويعه بسهولة لخدمة أجندة الانقلابيين في البلاد. يقول المحامي سلمان الصغير في هذا الشأن: “كل صاحب سلطة ولو جزئية في تونس تكون لديه رغبة في التغول والسطو على بقية السلطات، يتوجه مباشرة نحو القضاء”.
يرجع سبب ذلك وفق حديث الصغير لنون بوست، إلى “أهمية السلطة القضائية، فلها أن تعرقل أي مشروع حكم استبدادي، بحكم تكوين أعضائها القانوني إضافة إلى طبيعة مهنة القضاة التي تقوم على تطبيق القانون، فضلًا عن وجود رقابة داخلية سواء قانونية أو هيكلية”.
تطويع القضاء الهدف منه، فسح المجال أمام قيس سعيد للاستفراد بالحكم وتأسيس “الجماهيرية” التي ينظر لها منذ فترة
يؤكد محدثنا أن الغاية من “محاولات تشويه القضاة مؤخرًا تركيعهم وكتم أصواتهم، خاصة بعد أن تفطن الرئيس إلى صعوبة السيطرة عليه بالطرق العادية في ظل وجود مجلس أعلى للقضاء ونقابة للقضاة وجمعية وأصواتهم دائمًا عالية ولا تسمح لأي طرف من السلطة التنفيذية أن يتدخل في عملهم عملًا بمبدأ الفصل بين السلطات”.
يضيف “القضاء في تونس تحرر خلال السنوات العشرة التي تلت الثورة، ومن شبه المستحيل إعادة تدجينه مرة أخرى، خدمة لأهواء السلطة إن كانت شرعية أو انقلابية، خاصة أن ذاكرة القضاة قوية وتتذكر ما حصل زمن بن علي عن ترؤسه المجلس الأعلى للقضاء وتحكمه شبه المطلق في عمل القطاع”.
كل الوسائل مشروعة
السعي وراء تطويع القضاء، لم يكن من خلال تشويهه فقط بل أيضًا من خلال التنكيل بالعديد من القضاة، إذ لم يستسغ سعيد رفض القضاة قراره ترؤس النيابة العامة، الذي اتخذه من جملة قرارات انقلابية على السلطات الثلاثة في البلاد، حيث تم التأكيد له على استقلالية السلطة القضائية.
بعد تأكيد القضاة استقلالية سلطتهم وألا سلطان على القضاة غير القانون، عمد سعيد للتنكيل بهم من خلال العديد من الإجراءات التعسفية من ذلك وضع قضاة تحت الإقامة الجبرية رغم أن إخضاع القاضي إلى الإقامة الجبرية، يقتضي إعلام المجلس الأعلى للقضاء مسبقًا بحقيقة ما ينسب إليه من نشاط يمكن أن يشكل خطرًا على الأمن والنظام العامين، والحصول على الموافقة المسبقة للمجلس قبل اتخاذ ذلك الإجراء، وهو ما لم يحصل في هذه الحالة.
أيضًا وضع جميع القضاة تحت طائلة الاستشارة الحدودية “S17” قبل السماح لهم بمغادرة البلاد، إلى جانب منع عدد منهم من السفر أو تعطيل سفرهم دون أذون قضائية ودون الرجوع إلى المجلس الأعلى للقضاء، كما حصل مع قاضية مباشرة بالمحكمة الابتدائية بقرمبالية.
كما سبق أن لجأ رئيس الجمهورية إلى استعمال قضاة، في صيغة الإلحاق، من أجل تجميع ملفات إدانة أو افتعالها ضد خصومه السياسيين، وذلك لاستعمالها ضد منافسيه لتقوية حظوظه والظهور في ثوب المنتصر للعدالة.
كل هم قيس سعيد في هذه الفترة توطيد أسس حكمه والاستفراد بالسلطة وإقصاء كل المنافسين بطرق شرعية أو غير شرعية
دائمًا ما يتهم الرئيس قيس سعيد القضاء بالتستر عن الفساد والعمل مع الفاسدين لإرباك الدولة وضرب مؤسساتها، حتى يبعد المسؤولية عنه في خصوص الأزمات التي تشهدها تونس في العديد من القطاعات، وسعيه لترؤس النيابة العمومية دليل على ذلك.
في مقابل ذلك، يسعى قضاة تونس إلى تقليص إمكانات توظيفهم سياسيًا من السلطة التنفيذية سواء كانت الحكومة أم رئاسة الجمهورية، فهم يسعون إلى تكريس استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية بعد ما شهده السلك من انزلاقات عدة في فترات مختلفة.
في هذا الإطار، قرر مجلس القضاء العدلي “إنهاء إلحاق قضاة من الصنف العدلي (ممن يجلسون على منصات القضاء) لشغل مناصب برئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة والوزارات والهيئات التي لا يفرض القانون وجوبية وجود قاض عدلي ضمن تركيبتها”، لحرصه “على تكريس مبادئ الاستقلالية والحياد والنأي بالسلطة القضائية عن جميع التجاذبات السياسية”، لكن لم يتم تطبيق القرار.
نحو الاستفراد بالحكم
تطويع القضاء الهدف منه، فسح المجال أمام قيس سعيد للاستفراد بالحكم وتأسيس “الجماهيرية” التي ينظر لها منذ فترة، فسعيد يعلم يقينًا أن للقضاء القدرة على الوقوف سدًا منيعًا أمام توجهاتها الاستبدادية، لذلك يخشى أن يخرج الأمر من بين يديه.
في مرحلة أولى توجه نحو القضاء العسكري، وعمل على تشويه القضاء المدني والتنكيل بالعديد من القضاة، ذلك بهدف بث الخوف والرعب في صفوف كل المعارضين الذين يأملون في انتصار القضاء لقضاياهم، كعادة جميع القادة المستبدين.
كل هم قيس سعيد في هذه الفترة توطيد أسس حكمه والاستفراد بالسلطة وإقصاء كل المنافسين بطرق شرعية أو غير شرعية، مستغلًا رغبة التونسيين في “محاربة الفساد” ووضع حد للهرج الذي يشهده مجلس نواب الشعب.