كتب مستشار المخاطر الجيوسياسية في المملكة المتحدة، سامي حمدي، تقريرا عنونه بـ”تخشى الجزائر من أن تصبح تونس الإمارة الثامنة لدولة الإمارات العربية المتحدة”.
وأثار بذلك ما اعتبرها مخاوف الجزائر من خطوات قيس سعيد الأخيرة، التي جمع فيها السلطات جميعها في يده.
وقال في موقع “إنسايد أرابيا”: “بروح النأي بالنفس عن التدخل في شؤون الآخرين، ليست الجزائر ضد تدخل قيس سعيد بقدر ما هي ضد سيناريو سيفضي إلى ممارسة الإمارات العربية المتحدة نفوذا غير متنافس في تونس”.
وتاليا النص الكامل للتقرير
عندما عزم الرئيس التونسي زين العابدين بن علي على الإطاحة بالرئيس العليل الحبيب بورقيبة في عام 1989، تأكد من إعلام الجزائر وضمان مساندتها سلفاً. وبذلك تمكن ابن علي من تجنب أي تداعيات إقليمية أو توترات غير ضرورية مع أهم (وأقوى) جار وحليف لتونس في المنطقة. وعندما فاز حزب النهضة بزعامة راشد الغنوشي بأول انتخابات حرة ونزيهة تجرى في تونس في عام 2011، كانت أول وجهة يشد إليها الرحال زعيم النهضة في زيارة رسمية هي الجزائر.
ولكن هذه المرة تبين أن الرئيس قيس سعيد لم يسع لاستشارة الجزائر، فعندما أعلن سعيد عن قراره في أواخر تموز/ يوليو تعليق البرلمان وتولي السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وإحكام قبضته عليها جميعاً، بدا كما لو أن الجزائر أخذت على حين غرة.
لدى الجزائر أسباب مشروعة للتخوف من تداعيات انقلاب سعيد
لو أريد للسردية الحالية التي يروج لها في الجزائر أن تصدق، فقد اتصل قيس سعيد بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بعد ساعات قليلة من إعلانه وليس قبله. أياً كان ذلك الذي قيل أثناء المكالمة الهاتفية، فيبدو أنه لم يخفف من مخاوف تبون، فسارع بتوجيه وزير خارجيته للسفر إلى تونس في وقت مبكر من صباح اليوم التالي.
لدى الجزائر أسباب مشروعة للتخوف من تداعيات انقلاب سعيد.
العلاقة الخاصة
قرار سعيد عدم إخبار الجزائر قبل القيام بهذا الإجراء المفاجئ يشي بأنه لا ينوي احترام “العلاقة الخاصة” بين البلدين. فلطالما رأت الجزائر الوئام بينها وبين تونس جزاء أساسياً من سياستها الخارجية، وعادة ما تصرف الطرفان بتوافق وانسجام لضمان مقاربة مشتركة تجاه قضايا المنطقة التي تؤثر عليهما معاً. ولطالما سعت تونس بالذات إلى التمسك بهذه الصلة الخاصة مع المسؤولين الذين يتم انتخابهم حديثاً وتعزيزها حتى بات يتوقع منهم أن يجعلوا من الجزائر أول وجهة خارجية رسمية لهم.
يمكن أن يفسر قرار سعيد، ومن ورائه جهاز الأمن التونسي، المضي قدماً بالانقلاب دون تواصل مع الجزائر على أنه تهديد للعلاقة الخاصة. ويفاقم من الأمر أكثر وأكثر الدلالة الضمنية بأن المحور الإماراتي السعودي والمصري يسعى لتجاوز مثل هذه الروابط.
الملعب الخليجي
لم تفتأ الجزائر تعبر علانية عن انزعاجها وقلقها من تسوية الخليج للحسابات فوق أراضي منطقة شمال أفريقيا. بينما لم يكن النظام في الجزائر يوماً مؤيداً لثورات الربيع العربي، إلا أنه لم يتوان عن تكييف نفسه مع الديناميكيات المتغيرة. ولا أدل على ذلك من أنه عدل علاقاته الخارجية واحترم المؤسسات الديمقراطية الناشئة في تونس، كما أنه احتفظ بالعلاقات مع الأطراف المتنازعة في ليبيا أثناء الفترة الانتقالية الابتدائية ثم بعدما شهدته البلاد من انهيار نحو هوة الحرب الأهلية.
ومع ذلك تمتعض الجزائر من التدخل القطري والإماراتي في ما ترى أنه مداسها هي. فقد دعمت قطر حلفاء لها في المنطقة لا ترتاح لهم الجزائر بينما سعت الإمارات العربية المتحدة إلى تحويل دول شمال أفريقيا إلى وكلاء لتصفية الحسابات مع قطر ومع حلفاء الدوحة، وكذلك إلى توسيع سطوتها البحرية وتعزيز نفوذها الدولي. ترى الجزائر في كلا الأجندتين تهديداً لها.
في الحالة التونسية، يحظى سعيد بدعم هائل من قبل المحور الإماراتي السعودي المصري. وكانت الجزائر قبل الانقلاب راضية بالعموم عن توازن القوى في تونس، فقد ساعدت تلك المشاركة في السلطة تونس على الاحتفاظ باستقلال نسبي من خلال منع أي دول أخرى من دفعها نحو وضع في السياسة الخارجية قد يكون مناقضاً لمصالح الجزائر. ويهدد انقلاب سعيد بقلب هذا “التوازن” من خلال الرمي بتونس برمتها في أحضان أبوظبي.
من وجهة نظر الجزائر، يهدد استيلاء سعيد على السلطة برمتها بتحويل تونس إلى ما يشبه “الإمارة رقم 8” ضمن الإمارات العربية المتحدة تستخدمها أبوظبي من أجل ضمان تحقيق مكاسب في السياسة الخارجية في منطقة شمال أفريقيا على حساب الجزائر.
ثمة مخاوف حقيقية من أن انقلاب سعيد في تونس سوف يوقف المدد الذي تتلقاه طرابلس غرباً إذا ما تمكنت أبوظبي من خنق الحكومة المعترف بها دولياً
طوال الحرب الأهلية الليبية، لم تفتأ تونس تقوم بدور الحبل السري للحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس، وذلك مقابل مساعي الجنرال السابق خليفة حفتر فرض حل عسكري للصراع. ليس سراً أن الجزائر تشعر بالامتعاض تجاه حفتر، الذي هدد الجزائر علانية في الماضي، فما كان من الرئيس الجزائري تبون إلا أن أكد مراراً وتكراراً بأنه لن يسمح لحفتر بالاستيلاء على طرابلس عسكرياً. بغض النظر عما إذا كان الوضع المضطرب داخل الجزائر سيسمح للرئيس بالوفاء بما تعهد به في تلك التصريحات إلا أن الشعور واضح لا لبس فيه.
إذا ما أخذنا بالاعتبار الموقف تجاه حفتر وتفضيل الجزائر الحل السياسي (والذي يسعى حفتر ومعه الإمارات العربية المتحدة إلى تقويضه)، فثمة مخاوف حقيقية من أن انقلاب سعيد في تونس سوف يوقف المدد الذي تتلقاه طرابلس غرباً إذا ما تمكنت أبوظبي من خنق الحكومة المعترف بها دولياً مستخدمة حفتر في الشرق وتونس في الغرب. ولما كان حفتر يتأهب لشن حملة عسكرية جديدة، فإن موقف تونس سيكون له تأثير كبير على ما إذا كانت العملية السياسية الليبية ستنجو وستبقى على قيد الحياة أم إن حفتر سيتمكن أخيراً من إنجاز طموحه.
المغرب
التقى الرئيس سعيد مع وزير خارجية المغرب مباشرة بعد لقائه مع وزير الخارجية الجزائري، فقد جاء انقلاب سعيد في وقت يشهد توتراً شديداً بين الجزائر والرباط، من حيث أن المغرب مضى في تطبيع علاقاته مع “إسرائيل” مقابل اعتراف الولايات المتحدة بسيادته على الصحراء الغربية، بينما ترى الجزائر في هذا التطبيع مكراً أعد بليل من قبل الرباط بهدف حشد الدعم الدولي للمغرب في قضية الصحراء الغربية على حساب حركة البوليساريو المدعومة من قبل الجزائر والتي تناضل في سبيل إقامة دولة مستقلة.
يُنظر إلى الإمارات، التي أسخطت الجزائر من خلال فتحها قنصلية في العيون في الصحراء الغربية، على أنها المستفيد الأول من انقلاب سعيد، كما تعتبر حليفاً راسخاً للرباط يلتزم بدعم المغرب في المضي قدماً في خدمة مصالحه على حساب الجزائر.
وحيث إن تونس لطالما اتخذت موقفاً محايداً أو التزمت الصمت بشأن الخلافات المغربية الجزائرية، فثمة مخاوف في الجزائر من أن الإمارات العربية المتحدة سوف تدفع تونس نحو موقف أكثر دعماً للرباط بهدف النيل من الجزائر دبلوماسياً بينما تسعى الأخيرة إلى كبح جماح المغرب الذي يزداد عزماً على إثبات وجوده.
ما الذي تريده الجزائر؟
لا تسعى الجزائر نحو استعراض علني لأي ولاء. كل ما هنالك أنها تريد منع تونس من الانجرار نحو حرب بالوكالة تدور رحاها بين الدول الخليجية. تريد الجزائر أن تضمن أنه أياً كان ذلك الذي سينجم من انقلاب سعيد فإنه لن يفضي إلى تمكين الإمارات العربية المتحدة من إمالة تونس لصالح سياستها الخارجية.
وبينما توسع الإمارات العربية المتحدة دائرة نفوذها في قضايا إقليمية بالغة الأهمية بالنسبة للجزائر (المغرب وليبيا وتونس)، يدور حديث في الشارع الجزائري عن أن الإمارات العربية المتحدة بدأت بمحاصرة الجزائر. ثمة شعور عام بأن أي تساهل في هذا الأمر من جانب الجزائر سوف يشجع أبوظبي على مفاقمة الوضع المتقلقل داخل الجزائر نفسها. ومع مد أبوظبي لأذرعها لتحيط تقريباً بكافة دول شمال أفريقيا، فإن ثمة إحساسا بأنه لو نجح انقلاب سعيد فإن الدور من بعد سيكون على الجزائر.
الجزائر تبقى في حالة من التأهب القصوى إزاء الوضع في تونس وما يمكن أن يتمخض عنه من تداعيات
وفي هذا السياق تأتي النتيجة المثالية التي ترجوها الجزائر لتونس، وتتمثل في صفقة مشاركة في السلطة بين حركة النهضة وسعيد يمارس فيها كل طرف منهما دور الرقيب على الطرف الآخر. فمع كل تحفظات الجزائر على جماعة الإخوان المسلمين وعلى النهضة، لا يوجد أدنى شك لديها في أنهما فعالان في كبح جماح أي محاولة من قبل الإمارات العربية المتحدة مد أذرعها أكثر فأكثر. ونفس الشيء ينطبق على محاولات التمدد القطري من وجهة نظر سعيد. واقعياً، هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان عدم تمكن الإمارات العربية المتحدة، ولا مصر ولا فرنسا ولا السعودية ولا قطر، من إجبار تونس على اتخاذ موقف يضر بالمصالح الجزائرية.
على الرغم من كل ذلك فيبدو أن الرئيس سعيد يقوم الآن بالتواصل والتحاور مع الجزائر باذلاً جهوداً حقيقية لتبديد مخاوفها من خلال التأكيد على أنه لن يسمح لأي قوى خارجية بتهديد المنطقة التي تعاني من عدم الاستقرار. وفي الحادي والثلاثين من تموز/ يوليو، أصدرت الرئاسة الجزائرية بياناً رسمياً صرحت فيه بأن سعيد أبلغ تبون بأنه سيعلن قريباً جداً قرارات هامة.
إلا أن ذلك لا يعني أن سعيد سوف ينجح في تخفيف حدة المخاوف الجزائرية. وفعلاً، فإنه في الحادي والثلاثين من تموز/ يوليو سحبت السلطات الجزائرية رخصة مزاولة المهنة في الجزائر من قناة العربية المدعومة بشكل مشترك من قبل الإمارات والسعودية بسبب “الإخفاق في الالتزام بمعايير المهنة وبسبب محتواها المضلل وغير النزيه بشكل عام”. ويبدو أن الجزائر تبقى في حالة من التأهب القصوى إزاء الوضع في تونس وما يمكن أن يتمخض عنه من تداعيات، والزمن وحده هو الذي سيكشف ما إذا كانت تلك المخاوف في محلها.
المصدر: إنسايد أرابيا