يبدو أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد مصرّ على مواصلة معركته ضد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، مهما كان الثمن ورغم تحول الأوضاع منذ يونيو/ حزيران الماضي، التاريخ الذي شنّت فيه قوات تيغراي عملية عسكرية أطلقت عليها عملية “ألولا أبا نغا”، على اسم قائد عسكري شهير من أبناء الإقليم تصدّى للإيطاليين عندما حاولوا غزو الحبشة عام 1896، حيث أوقع بهم هزيمة فادحة في معركة عدوة التاريخية.
إصرار آبي -الحائز على جائزة نوبل للسلام- على معركة كسر العظم مع قوات تيغراي، رغم الخسائر الفادحة التي لحقت بجيشه -كما سنوضّح لاحقاً-، تمثّلَ في إعلانه يوم الثلاثاء التعبئة العامة ودعوته لجميع المدنيين المؤهّلين للانضمام إلى القوات المسلحة، مع احتدام القتال في مناطق متعددة من البلاد، حيث قال مكتب رئيس الوزراء آبي في بيان: “الآن هو الوقت المناسب لجميع الإثيوبيين القادرين الذين بلغوا سنّ الالتحاق بقوات الدفاع والقوات الخاصة والميليشيات، لإظهار حب الوطن”.
وجاء في البيان: “نتوقّع مساهمة وسائل الإعلام والفنانين والناشطين في تعزيز دعم الشعب للبلد”، وأضاف: “يجب على كل إثيوبي العمل بشكل وثيق مع الجيش، ليكونوا عيون وآذان البلد من أجل تعقب وكشف جواسيس وعملاء جبهة تحرير تيغراي “الإرهابية””.
اعتراف بضعف الجيش الإثيوبي
إعلان التعبئة العامة ودعوة جميع المدنيين للانضمام إلى الحرب، يكشفُ مدى الصعوبات التي يعاني منها آبي أحمد، بعد أكثر من 9 أشهر على إطلاقه ما أسماه “عملية إنفاذ القانون” ضد قيادات جبهة تحرير تيغراي، حيث اتهم قوات الجبهة بشنِّ هجوم على قاعدة للجيش شمال البلاد، ووعدَ حينها بنصر سريع لم يتحقّق حتى الآن، رغم استعانته بجيش أجنبي (الإريتري) وميليشيات عرقية.
إذًن، لا تفسير للجوء إلى تجييش المدنيين ودعوتهم إلى حمل السلاح، سوى الاعتراف الضمني بخسارة الحرب وبعجز الجيش الإثيوبي والقوات المتحالفة معه عن وقف تقدم جبهة تحرير تيغراي، التي نجحت في نقل المعركة إلى إقليمَين مجاورَين هما: عفر وأمهرة.
القصة الكاملة لعملية “ألولا أبا نغا”
لكي نفهم التطورات المتلاحقة الأخيرة، يستحسن أن نعود بالذاكرة إلى الوراء قليلًا، ففي 18 يونيو/ حزيران الماضي أعلنت جبهة تحرير تيغراي عن إطلاق عملية “ألولا أبا نغا” ضد الجيش الإثيوبي، في تحولٍ بارزٍ لاستراتيجيتها السابقة.
فقد كانت سابقًا تتخذ مواقع دفاعية في أغلب الأحيان، وهي الاستراتيجية التي اتّبعتها منذ بداية الحرب، إذ كانت تتجنّب الاشتباك المباشر مع الجيشَين الحليفَين (الإثيوبي والإريتري)، ما أدّى إلى دخولهما بكل سهولة إلى معظم المدن والبلدات في الإقليم، بما في ذلك العاصمة مقلي التي أعلن رئيس الوزراء آبي السيطرة عليها في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
لا تفسير للجوء إلى تجييش المدنيين ودعوتهم إلى حمل السلاح، سوى الاعتراف الضمني بخسارة الحرب.
مهّدت قوات تيغراي لعملية “ألولا أبا نغا” بنصب كمائن متعدِّدة لقوافل للجيشَين الإثيوبي والإريتري، تمكّنت خلالها من الاستيلاء على عدد من الأسلحة الثقيلة التي خسرَت معظمها بفعل ضربات الطائرات المسيّرة الإماراتية، فقد قال رئيس جبهة تحرير تيغراي دبرصيون جبراميكائيل لصحيفة “نيويورك تايمز“، إن قوات تيغراي فوجئت في بادئ الحرب بسيلٍ من الغارات بطائرات مسيّرة ضد أنظمة مدافعها وخطوط إمداداتها، مضيفًا أن ذلك تمّ بواسطة دولة الإمارات التي يصفها بأنها حليف لآبي أحمد والرئيس الإريتري أسياس أفورقي.
وتقول “نيويورك تايمز” إنها لم تحصل على ردٍّ من مسؤول إماراتي على أسئلة تتعلق بهجمات الطائرات المسيّرة، مشيرة إلى أن دبرصيون زعم أن تلك الهجمات غيّرت مسار الحرب، وقال زعيم إقليم تيغراي في المقابلة مع الصحيفة الأميركية إنه “لولا تلك الطائرات المسيّرة لكان القتال مختلفًا”.
لم يستطع كبار المحلِّلين العسكريين أن يفسّروا سبب الانهيار المفاجئ الذي حدث للجيش الإثيوبي أواخر يونيو/ حزيران، لكنّ مجلة “ذي إيكونوميست” البريطانية رجّحت أن تكون معنويات الجنود الإثيبويين منخفضة بسبب انعدام الدافع القتالي، عكس قوات تيغراي التي تقاتل من أجل الدفاع عن أرضها، وتدافع عن النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب والانتهاكات المروعة.
كما يشير تقرير المجلة البريطانية إلى أن قوات الجيش الإثيوبي لم تكن تتبع القواعد العسكرية المتعارَف عليها في تحركاتها، ما جعلها صيدًا سهلًا، عكس قوات تيغراي المدرَّبة بشكل جيّد، وهو ما تسبّب -بحسب المجلة- في وقوع آلاف القتلى والأسرى من القوات الحكومية.
حاولت الحكومة الإثيوبية الالتفاف على الهزيمة بإعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد، وأوضح الإعلام الرسمي أن وقف إطلاق النار سيستمرّ حتى نهاية “الموسم الزراعي” الحالي، وأنه يرمي إلى تسهيل الإنتاج الزراعي وتوزيع المساعدات والسماح للمقاتلين المتمرّدين بـ”العودة إلى المسار السلمي”.
لكنّ قوات تيغراي ردّت على أديس أبابا باستعراض موكب ضخم في شوارع العاصمة الإقليمية مقلي، لآلاف الأسرى من الجيش الحكومي، كما رفضت قيادات تيغراي وقف إطلاق النار، مشترطة انسحاب القوات والميليشيات من مناطق غرب الإقليم التي ضمّتها حكومة إقليم أمهرة، بمزاعم أن هذه الأراضي تتبع لها تاريخيًّا.
التوغُّل في إقليمَي عفر وأمهرة
خطوة أقدمت عليها قوات تيغراي أثارت حيرة المراقبين، إذ قامت مؤخرًا بالتوغُّل في إقليمَي عفر وأمهرة المجاورَين، بينما كان الناس يتوقّعون أن تتوجّه القوات التيغراوية إلى غرب الإقليم لاستعادة الأراضي من حكومة أمهرة، إلا أن المتحدِّث باسم جبهة تحرير تيغراي قيتاشو ردا، نفى وجود أي مطامع للجبهة في أراضي عفر وأمهرة، مبرِّرًا دخول الإقليمَين بأنه يهدف إلى “القضاء على قوات العدو وإضعاف قدراتها”.
بالتأكيد أدّى دخول قوات تيغراي للإقليمَين إلى موجة نزوح كبيرة، وإلى تضرُّر آلاف المدنيين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في الحرب، رغم أنه لم تفصح أي تقارير موثِّقة عن استهداف قوات تيغراي للمدنيين، كما حدث عند دخول الجيشَين الإثيوبي والإريتري لإقليم تيغراي.
عندما أعلنت قوات تيغراي عن توغُّلها في إقليم عفر، دخلت 4 مقاطعات هي يالو وغولينا وأورا وإيوا، لكنّ سيرَ العمليات العسكرية محاط بقدر من الغموض رغم حديث كل طرف عن تحقيق مكاسب، بينما من الواضح أن قوات تيغراي تحرزُ تقدُّمًا سريعًا على جبهة إقليم أمهرة.
إثيوبيا لن تعود كما كانت قبل الـ 4 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، اليوم الذي أطلقَ فيه آبي أحمد مغامرته العسكرية.
إذ نجحت مؤخرًا في السيطرة على عدة مدن، من بينها مدينة لاليبلا التاريخية، إلى جانب ولديا وأجزاء من مقاطعة جنوب قوندر، كما أحكمت قوات تيغراي حصارها على مدينة دسي، وهناك حالة من الهلع وسط سكّانها بالإضافة إلى آلاف اللاجئين إليها من المدن المجاورة، ووردت أنباء موثوقة عن إعلان سلطات إقليم أمهرة الطوارئ ليلًا في مدينة دسي والعاصمة بحر دار.
هل تتّجه قوات تيغراي إلى أديس أبابا؟
يُعتقد أن قوات تيغراي إذا نجحت في السيطرة على دسي، فإنها تكون قد مهّدت الطريق إلى أديس أبابا، إذا كانت ستستهدف العاصمة لإسقاط نظام آبي أحمد، ويتوقّع العديد من المراقبين أن تكون قوات تيغراي تنسِّق مع قوات جيش تحرير أورومو، وهي مجموعة عسكرية صنّفتها الحكومة الإثيوبية كمنظمة إرهابية إلى جانب جبهة تحرير تيغراي.
في كل الأحوال يبدو مستقبل آبي أحمد السياسي في غاية الغموض، بعد الانتكاسات المتلاحقة التي مُنيَ بها، وامتداد الحرب إلى إقليمَين مجاورَين للعاصمة، لتكون معظم أقاليم البلاد تشهد اضطرابات وأعمال عنف.
هذا إلى جانب التدهور الاقتصادي، حيث وصل سعر الدولار في السوق السوداء إلى نحو 70 بيرًا إثيوبيًّا بينما لم يكن يتجاوز 45 بيرًا قبل اندلاع الحرب، حيث تأثر الاقتصاد الإثيوبي بتوقُّف الدعم الغربي وقلة إيرادات السياحة والاستثمار بفعل الحرب.
لا أحد يمكنه التنبؤ بما سيحدث في الأيام القادمة في إثيوبيا، بعد التعبئة العامة التي أعلنها رئيس الوزراء ودعوته الجميع لحمل السلاح ما يهدِّد بحرب أهلية شاملة، لكن ما هو مؤكد أن إثيوبيا لن تعود كما كانت قبل الـ 4 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، اليوم الذي أطلق فيه آبي أحمد مغامرته العسكرية، معتقدًا أنها لن تستغرق أكثر من أيام معدودة.