ترجمة وتحرير: نون بوست
تمثل مدينة درعا عاصمة المحافظة التي تحمل الاسم ذاته في جنوب سوريا، وهي تبعد ثمانية كيلومترات فقط عن الحدود الشمالية للأردن. قبل عشر سنوات، اندلعت احتجاجات في أنحاء الشرق الأوسط ضمن سلسلة من الانتفاضات المطالبة بالديمقراطية التي أصبحت تعرف بالربيع العربي، وكانت درعا أول مكان في سوريا يكسر أغلال أربعين سنة من حكم الدكتاتورية البعثية.
واليوم بعد مرور أكثر من عشر سنوات على هذا الصراع في سوريا، تشير التقديرات الأكثر تحفظا إلى وفاة أو اختفاء أكثر من 600 ألف شخص، وتهجير أكثر من 12 مليون سوري. أما الشرارة التي أشعلت الوضع في سوريا، فقد كانت مجموعة من المراهقين الذين رسموا على جدران باحة مدرسة البنين في درعا رسوم غرافيتي معارضة لبشار الأسد.
في ذلك الوقت، كان معاوية وسامر الصياصنة في الخامسة عشر من العمر، وقد شاركا في كتابة شعارات على الجدران مثل “إجاك الدور يا دكتور”، في إشارة إلى بشار الأسد الذي درس طب الأسنان. لاحقا تم القبض على هؤلاء الفتيان واحتجازهم لأكثر من شهر لدى الأجهزة الأمنية التابعة للنظام، وهو ما أطلق موجة احتجاجات في قلب المحافظة الجنوبية. تلك الحركة الاحتجاجية الصغيرة وتفاعل السكان معها جعل درعا تحمل اسم “مهد الثورة” بعد أن فتح النظام النار على المتظاهرين.
اعتُبر تمرد درعا في 2011 مفاجأة حقيقية، لكن استمرار التمرد إلى عام 2021 لا يفاجئ أحدا. حتى بعد فقدان جيل كامل من السكان بسبب سفك الدماء ووحشية النظام، تتواصل المقاومة في درعا في تحدٍّ للانتصارات التي حققها الأسد بدعم روسي. واليوم يوجد جيل جديد بالكامل من المقاتلين المستعدين لدفع ثمن الوقوف في وجه النظام، ما يبدد آمال دمشق بالعودة بالبلاد لعهد الخنوع والاستكانة.
كانت درعا من أولى المحافظات السورية التي طردت قوات النظام في مراحل مبكرة من الحرب الأهلية، ولكن قوات الأسد تمكنت من استعادة السيطرة عليها بدعم روسي في تموز/ يوليو 2018، لتجبر السكان على قبول “اتفاق مصالحة“، وأولئك الذين رفضوا وجود النظام تم إجبارهم على النزوح نحو شمال البلاد، ومن تبقوا في المحافظة خضعوا لحكمه تحت ضمانات روسية.
يمكن القول إن المصالحة والترتيبات الأمنية في درعا كانت فريدة من نوعها، حيث منحت قوات المعارضة درجة من الحكم الذاتي تحت إشراف شكلي من روسيا، وهو وضع لم تشهده باقي المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار. ولكن هذا الاتفاق كان دائما يفتقد للاستدامة، بالنسبة للنظام والمعارضة على حد السواء، وأيضا بسبب تجاهل الضامن الروسي لقيمة الحياة البشرية. وزاد الوضع تعقيدا بسبب طموحات إيران ورغبتها في بناء قدرات عسكرية بالقرب من الحدود الشمالية لإسرائيل، وهو ما خلق توترات بين الميليشيات التابعة لطهران وتلك الموالية لموسكو، حيث يتنافسان للسيطرة على حدود درعا.
لا تزال درعا عصية، ويواصل سكانها رفع أصواتهم المعارضة للنظام
عادة ما تأتي “اتفاقات المصالحة” على إثر حملة قصف مكثف وعشوائي وحصار وتجويع، وهي تعد جزءا من حملات التطهير والعقاب الجماعي ضد المدنيين. ظهرت أولويات دمشق في درعا بشكل واضح عندما قررت قوات الأسد ملاحقة عناصر منظمة “القبعات البيضاء” التي تقدم المساعدة الإنسانية، وفي المقابل منحت عفوا للجماعات المسلحة، لتتفرغ لاصطياد أطقم الإسعاف الطبي والإغاثي. ولحسن حظ هؤلاء، فقد تم تهريب المئات منهم إلى خارج البلاد في إطار عملية دولية.
ولكن على خلاف باقي معاقل المعارضة التي قبلت المصالحة والدخول تحت مظلة النظام، لا تزال درعا عصية، ويواصل سكانها رفع أصواتهم المعارضة للنظام. وحتى خلال مسرحية الانتخابات الرئاسية التي أقيمت في أيار/ مايو، شهدت درعا انتفاضة شعبية ورفضا لشرعية النظام ومقاطعة للانتخابات.
تشرف على حي درعا البلد الذي يعد مهد الثورة قيادة محلية، تتشكل من مجلس الثوار ونشطاء المجتمع المدني، وتسمى اللجنة المركزية، وقد تم تشكيلها في 2018 لتنفيذ الاتفاق الموقع بوساطة روسية. ولكن بعد مرور ثلاث سنوات على اتفاق المصالحة، لم تنفذ أهم الوعود التي قطعها النظام بشأن الخدمات العامة، وهو ما فاقم حالة الاحتقان بين جهاز الأمن التابع للأسد وسكان المناطق التي شملتها المصالحة.
هذه المعارضة العلنية لا يمكن لدولة الأسد البوليسية التسامح معها، ولذلك فإنها ردت بإطلاق عملية عسكرية جديدة ضد المحافظة في نهاية شهر حزيران/ يونيو، وفرضت حصارا مطبقا على حي درعا البلد، ما يهدد حياة 40 ألف مدني، بعد رفض السكان الاستسلام والسماح للنظام بمداهمة البيوت داخل الحي.
ويؤكد عمار، وهو ناشط وصحفي من درعا فضّل عدم الكشف عن اسمه الكامل، أن أوضاع المدنيين تتدهور بشكل متزايد، حيث أنهم عالقون في درعا البلد ومخيم لاجئي درعا. وبسبب حضور قوات النظام ومليشيات تابعة لإيران قرب هذه المواقع، فإن عشرات العائلات محاصرة بالكامل ولا تستطيع مغادرة منازلها بسبب وجود القناصة. هذا الحصار حرمهم أيضا من الحصول على الرعاية الطبية.
ودعا عمار المجتمع الدولي للتحرك الفوري من أجل حماية المدنيين والتصدي لحملات النظام، في وقت تعمل فيه المليشيات الطائفية على عرقلة الاتفاقات في جنوب سوريا، وتصعيد الوضع العسكري.
يشار إلى أن التصعيد العسكري كان متوقعا منذ زمن في درعا، في ظل التحديات الكثيرة التي تقف أمام سيطرة النظام، وتكرار الهجمات المسلحة ضد قواته، وانتشار الاغتيالات والتفجيرات خلال السنوات الثلاث الأخيرة. ويبقى النظام السوري إلى الآن وفيا لتقاليده، حيث يمارس الاعتقالات العشوائية وتعذيب وقتل أكبر عدد ممكن من السكان، بهدف إسكات صوت المحافظة، إلا أن درعا تواصل تحدي دمشق رغم أن سكانها يعيشون في خوف دائم من الانتقام.
بعد أسابيع من الحصار، دخلت درعا جولة جديدة من الصراع المسلح، حيث نشرت مجموعات مسلحة سلسلة من البيانات المصورة للتضامن مع المدينة المحاصرة وإطلاق هجمات ضد نقاط التفتيش التابعة للنظام. هذا الهجوم المفاجئ عصف بأوهام السيطرة التي كان يدعيها النظام، وظهرت لقطات مهينة لعشرات من عناصره تحاصرهم المجموعات المسلحة بكل جرأة، وهذا زاد من الغضب في دمشق.
الأطباء والأطقم الطبية أطلقوا العديد من نداءات الاستغاثة، للحصول على الدعم وفتح الممرات الإنسانية لمعالجة المصابين الذين يحتاجون للتدخل الجراحي العاجل
وإلى حدود كتابة هذه السطور، لم تتمكن اللجنة المركزية في درعا والأطراف الممثلة للنظام من التوصل إلى وقف لإطلاق النار، رغم انعقاد العديد من جلسات التفاوض. تبدو أوضاع المدنيين في هذه المحافظة متدهورة إلى حد كبير، وقد أطلق تحالف لمنظمات غير حكومية في سوريا دعوة ملحة للمجتمع الدولي للتحرك فورا.
وجاء في البيان الذي أُرسل لوسائل الإعلام خلال الأسبوع الماضي: “في ظل التدهور السريع للوضع الأمني وتزايد التوتر والأعمال الوحشية المرتكبة ضد المدنيين خلال الأيام الماضية، يواجه حي درعا البلد ومحيطه أعنف هجوم في جنوب سوريا منذ توقيع اتفاق التهدئة في 2018”.
وأضافت المنظمات التي دعت الأمم المتحدة لاستئناف إرسال المساعدات عبر الحدود الأردنية أن “الأطباء والأطقم الطبية أطلقوا العديد من نداءات الاستغاثة، للحصول على الدعم وفتح الممرات الإنسانية لمعالجة المصابين الذين يحتاجون للتدخل الجراحي العاجل، في ظل النقص الحاد في التجهيزات الطبية”.
يشار إلى أن ميشيل باشيليت، المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أصدرت بيانا خلال الأسبوع الماضي، دعت فيه إلى وقف إطلاق نار فوري في هذه المحافظة المحاصرة، من أجل تخفيف معاناة المدنيين.
وقد أُجبرت مخابز درعا البلد خلال هذا الأسبوع على إغلاق أبوابها، بعد نفاد مخزون القمح وتفاقم نقص المواد الغذائية.
لا تزال الدكتاتورية في سوريا تمارس لعبة الوقت، حيث تأمل في قتل ومحاصرة وقمع كل من يقف في طريقها لفرض شرعيتها. ومن خلال التركيز على تحقيق الحسم العسكري، بمساعدة طهران وموسكو، والامتناع عن معالجة الظروف التي قادت إلى الثورة السورية، يبدو أن النظام يزرع بذور التمرد الدائم في سوريا. وفي درعا على سبيل المثال، تواجه قواته ما يمكن تسميتها “الأرض الأكثر خصوبة للتمرد في كامل الشام”.
أما محاولات النظام لرفع شعار الحرب على الإرهاب، من أجل تبرير حربه الوحشية ضد مواطنيه، فإن مآلها الفشل في درعا التي تضم مجموعات معارضة، كانت سابقا تحظى بدعم الولايات المتحدة والأردن، وقد حافظت على سياستها العلمانية والديمقراطية خلال الحرب، حتى في فترات سيطرة الإسلاميين والسلفيين والجهاديين. ومن خلال مواصلة الاحتجاج والمطالبة بالحريات والديمقراطية، تفند درعا ادعاءات النظام بأنه الطرف الوحيد القادر على فرض السلام.
وليس من المفاجئ أن معاوية وسامر الصياصنة، اللذين اعتُقلا بسبب الرسوم الجدارية في 2011، باتا الآن يحملان السلاح ضد النظام. وليس من المفاجئ أيضا أن درعا -حتى في ظل اتفاق المصالحة-، لا تبدي أي نية للتصالح مع الاستبداد.
كما يُظهر استمرار دوامة العنف في درعا أن جيلا جديدا بات يحمل السلاح لأول مرة لمواصلة هذه المعركة. وفي وقت تشكل فيه درعا نموذجا فريدا من نوعه في الصمود ضد النظام، يبدو تزايد الحركات الاحتجاجية والتمرد ضد بشار الأسد وضعا طبيعيا يجب أن تتعود عليه دمشق. ومادام النظام يحكم شعبا لا يقبل به، ستعلق سوريا في حرب بلا نهاية.
المصدر: فورين بوليسي