تتواصل في تونس حالة الغموض السياسي الشامل، والترقُّب يسود للأسبوع الثالث تواليًا منذ إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد انقلابًا ناعمًا على الحكومة والبرلمان، واتخاذه إجراءات استثنائية تأويلًا للفصل 80 من الدستور بشكل تعسفي يتجاوز روحه وصريح النص الدستوري.
واللافت أن الرئيس التونسي يؤكّد أنه لا رجوع للوراء بنبرة تحدٍّ واستعلاء على المنظومة السياسية والمدنية في البلاد، المعارضة بالخصوص والمساندة أيضًا التي تطالب بخارطة طريق واضحة المعالم، وبالعودة للمنظومة الدستورية في أقرب الآجال.
وتوجَّه رسائل سعيّد للخارج أيضًا، مفادها أن وضع ما قبل 25 يوليو/تموز قد ولّى وانقضى، وانطلقت البلاد في مسار جديد سياسي مغاير، يتأسّس على رؤيته الفكرية والسياسية التي لطالما نادى بها منذ أن سطع نجمه بعد ثورة عام 2011 في تونس.
فكر سعيّد السياسي: أوجه غامضة من الديمقراطية
“لا بد من تأسيس جديد يقطع مع الفكر السياسي والدستوري الذي كان قائمًا”. كانت هذه العبارة مترددة دائمًا في تصورات الرئيس قيس سعيّد، منذ كان يظهر على وسائل الإعلام فقيهًا دستوريًّا في فترة البناء الجديد الحقيقية في تونس، خلال فترة المجلس التأسيسي المنتخَب، وظلت تلازمه خلال ما أسماها حملته التفسيرية -لا الانتخابية- لرئاسة تونس سنة 2019، لكن دون أن يفسِّر معالمها الثابتة وأُسُسها الصلبة.
لم يخفِ قيس سعيّد في فكره السياسي عداءه الصريح للتمثيل النيابي عبر مجلس نواب ينتخبه الشعب مباشرة.
يذهب سعيّد في التفسير أكثر، فيقول إن البناء قاعديًّا يكون عبر تشكيل مجالس محلية تنبثق عنها مجالس جهوية فمجلس وطني شعبي، اعتمادًا على نظام الانتخاب على الأفراد في أضيق الدوائر، بالإضافة إلى رؤيته لأهمية تغيير النظام السياسي من برلماني معدّل إلى رئاسي تامّ.
يبين ذلك معارضته التامة والشاملة لما توافقَ عليه التونسيون من نظام سياسي وانتخابي، وتحيُّنه الفرصة لتغيير قواعد اللعبة الديمقراطية كليًّا بأدوات تبدو في ظاهرها دستورية ولكن باطنها إلى حد الآن متعسِّفة على الدستور بصفة قاطعة، وما إغلاق البرلمان المنتخَب بالدبابات وإقالة الحكومة إلا خير دليل على الخروج عن النص الدستوري والفصل 80 كليًّا.
البناء القاعدي: لماذا يذكّر التونسيين باللجان الشعبية القذافية في ليبيا؟
لم يخفِ قيس سعيّد في فكره السياسي عداءه الصريح للتمثيل النيابي عبر مجلس نواب ينتخبه الشعب مباشرة، واعتبر أن ذلك قد ولّى وانقضى، وبدأت بوادر نهايته من فرنسا مع احتجاجات السترات الصفراء، وفي الجزائر إبّان الحراك ضد العهدة الخامسة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
وذهب إلى الترويج لرؤيته في دوائر ضيّقة شبابية مجهولة، أشرف على تنظيمها بنفسه صحبة شقيقه نوفل سعيّد والمنظِّر لحكمه رضا لينين المقرَّب منه.
ويستهدف ذلك الترويج إخفاء نظرياته السياسية الجديدة مقابل التركيز في خطابه المعلوم على شعارات ثورة 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، وبخاصة الشعار المركزي “الشعب يريد”، ومناصرة القضية الفلسطينية.
إلا أنه تبيّن للرأي العام التونسي منذ 25 يوليو/ تموز الماضي أنه يهدف لمشروع جديد، قوامه أنصاره في الأرض والسلطة المتمركزة في يده، لإنزال مشروع فوضوي بدأت معالمه تتّضح وتلوح في الأفق.
لا رجوع للوراء: جملة سعيّد المركزية في خطاباته الأخيرة.. أبعادها ودلالاتها
يتخبّط الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ 25 يوليو/ تموز الماضي بضغوطات داخلية من معارضي إعلانه التدابير الاستثنائية، وتعسُّفه في تأويل الفصل 80 من الدستور التونسي، ومن مسانديه على حد سواء بعد اقتراب المدة الزمنية من 3 أسابيع دون إعلان خارطة طريق واضحة، واسم رئيس حكومة.
ويؤكد الرئيس التونسي في خطاباته الأخيرة أنه “لا رجوع للوراء تحت أي ظرف كان لما قبل 25 يوليو/ تموز”، ما دفع التأويلات لحديثه الذي يأخذ تمظهرات جدّية عن نيته التأسيس لمرحلة أخرى في تونس، تقوم على فكره السياسي الشفاهي الذي يلوح به قبل وصوله للرئاسة وبعدها، وهو البناء القاعدي وإعادة تشكيل النظام السياسي على أساس مقولة “الشعب يريد” الفضفاضة وغير المهيكلة.
وبدأت تظهر من أنصار سعيّد بعض التكتُّلات القاعدية غير المنظَّمة، كتلك التي قادت الاحتجاجات المحدودة في 25 يوليو/ تموز، والتجأت للعنف والحرق للتعبير عن غضبها، حيث استهدفت مقرّات حزب حركة النهضة بالأساس ومقرّ البرلمان وطوّقته، قبيل إعلان التدابير الاستثنائية مساءً من الرئيس.
وبالإضافة إلى ذلك، ظهر على الساحة مكوّن جديد مسانِد للرئيس التونسي قيس سعيّد، يحمل اسم “الحشد الشعبي”، وهو الاسم المعروف لميليشيات عراقية موالية لإيران، لتتجلّى بوضوح تحذيرات الفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي من أن سعيّد يحمل فكر النظام الإيراني، وارتباطات عضوية به وبفكر الزعيم الليبي السابق معمر القذافي الجماهيري، الذي يقوم على فكرة اللجان الشعبية.
أخذت الحملات الفيسبوكية المساندة لقيس سعيّد منحى التنظُّم الإلكتروني الهادف لشنّ الهجمات على مناوئي الرئيس بكل السبل المتاحة، من تشويه وأخبار زائفة.
تحيل المقارنة بين فكر سعيّد وفكر القذافي إلى قواسم مشتركة كبيرة بين الشخصيتَين والتجربتَين، رغم قصر مدة حكم سعيّد التي بدأت في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، حيث اعتمد القذافي في تثبيت حكمه على القوة العسكرية والعنف الثوري من قِبل أنصاره، ثم تأسيس اللجان.
حصل ذلك مع سعيّد حين وضع تحت يده القوات المسلحة العسكرية والأمنية، وتمكّن من السيطرة على وزارة الداخلية، بتعيين هشام المشيشي وزيرًا للداخلية في حكومة إلياس الفخفاخ، ثم رئيس حملته في محافظة سوسة توفيق شرف الدين وزيرًا للداخلية في حكومة المشيشي.
بعدها تكفّل أنصاره بخلق مناخ من الخوف والرعب في 25 يوليو/ تموز، بالاعتداء على مقرّات حزب النهضة وصحفيين، ومحاولتهم اقتحامهم البرلمان ثم الاعتداء على معارضي إجراءات الرئيس، بعد يوم من إعلان التدابير الاستثنائية.
العنف الإلكتروني: الثورة التكنولوجية ووسائل التواصل في خدمة رؤية قيس سعيّد
أخذت الحملات الفيسبوكية المساندة لقيس سعيّد منحى التنظُّم الإلكتروني الهادف لشنّ الهجمات على مناوئي الرئيس بكل السبل المتاحة، من تشويه وأخبار زائفة. فمثلًا تعرضت الدكتورة سناء بن عاشور، أستاذة القانون الدستوري، لحملة شعواء بعد معارضتها لقرارات الرئيس سعيّد، واعتبارها دجلًا، ما دفع جمعية النساء الديمقراطيات للتنديد بذلك، والتضامن معها.
كما تعرّض القضاة لحملة افتراضية مناهضة، ما حتّم على 45 قاضيًا إصدار بيان موحّد ضد ضرب السلطة القضائية من الرئيس سعيّد، ووضعه قضاة تحت الإقامة الجبرية، ومحاولة تدجين القضاء، وضد تشويه السلك والقضاة عبر الميليشيات الإلكترونية.
لم يكن اعتماد قيس سعيّد على وسائل التواصل الاجتماعي جديدًا، ففي حملته الانتخابية مثلت القوة الضاربة في دعايته، حيث يبيّن تقرير دائرة المحاسبات أن 30 صفحةً غير رسمية عملت لفائدته، فيها أكثر من 3 ملايين مشترِك ويشرف عليها 120 شخصًا.
إلا أنه يعتمد في الوقت الحالي بشكل كامل على صفحة رئاسة الجمهورية في نقل الأخبار وتوجيه الخطابات، بطريقة تواصلية أحادية يتجنّب بمقتضاها الحوارات والندوات الصحفية بصفة شبه تامة، وربما ذلك يندرج في إطار الرؤية الجديدة السياسية والإعلامية.
قد يكون من المبكّر التنبؤ بما سيحدث بعد انقضاء مدة التدابير الاستثنائية المقدَّرة بشهر، ورغم تأكيد سعيّد نفسه أن تلك الإجراءات مؤقتة واستثنائية، إلا أن هناك مؤشرات تدلّ على الذهاب لتمديدها لخلق أمر واقع جديد، حيث صرّح قيس سعيّد بأن الخطر الداهم الذي تحدّث عنه أصبح واقعًا، بالإضافة إلى تكراره جملة “لا رجوع للوراء مهما كلف الأمر”.
كما أكّد أمين عام حركة الشعب زهير المغزاوي، المساند للرئيس، أن الإجراءات ستمدَّد لـ 6 أشهر على الأقل، والحكومة الجديدة لن تُعرَض على البرلمان.
والجدير بالقول إن استفراد سعيّد بالسلطة، سيكون حتمًا بمنزلة تهيئة مناخ لبناء مشهد سياسي جديد في تونس، قوامه فكره الغامض والغريب على ديمقراطية ناشئة تونسية -تحمل علّات فيها بكل تأكيد تتطلب مراجعات عميقة وإصلاحات جوهرية-، بقيت منارة في إقليم عربي تحكمه أنظمة شمولية وتسوده فوضى خلّاقة.