منذ انقلاب الثالث من يوليو/ تموز 2013، قرّر الجيش المصري بقيادة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تغيير سياسته مع المشكلات الأمنية للمجتمع المحلي في سيناء، لتقوم على منهج أكثر صرامة يتّسم بالبتر، ومحاولة إعادة هندسة طبوغرافيا المكان وإظهار قوة الدولة.
جاء هذا التطور في سياسة التعامل مع مشكلات المجتمع المحلي هناك، كي يحلَّ محلَّ الأسلوب القديم الذي طالما حافظت عليه الدولة خلال عهدَي الرئيسَين الراحلَين مبارك ومحمد مرسي، والذي كان قائمًا على الحوار بدلًا من العنف، والاستيعاب بدلًا من المواجهة، والتواجُد الأمني المكثّف بدلًا من القتال.
وفقًا لنظام الثالث من يوليو/ تموز 2013، فقد جاءت هذه التحولات استجابةً لعدة متغيرات سياسية وميدانيّة، من بينها تغيُّر وجهة نظر الدولة العميقة في مصر إلى كلّ ما يمتّ للإسلام الحركي بصلة، سواء كان سياسيًّا أم جهاديًّا، بحيث تعتمد الدولة على المواجهة الواضحة في تعاملها مع هذه التيارات بدلًا من التفاهُم والاستيعاب.
وقد تجلى ذلك في مذبحة فضّ رابعة في الـ 14 من أغسطس/ آب 2013، والتي اعتُبر بعدها أنّ كل التنظيمات الإسلامية مولودة من رحم الإخوان، فلا فرق بينهم في الأفكار والمصير.
هذا إلى جانب متغير ميداني آخر، هو نشوء تصور مفاده أنّ تنامي مشكلات سيناء الأمنية يعود إلى عقود من غياب دور الدولة عن هذه البقعة الجغرافية، وتركها ساحةً للتنظيمات المتطرِّفة، وبالأخصّ بعد السيولة المتزامنة مع ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، ما أدّى إلى تنامي نزعة التمرُّد ذات الأبعاد القَبَلية الإسلامية ضد السلطات في هذه المنطقة.
ولكن هذه الأعوام الأخيرة التي تغيّرت فيها استراتيجية الدولة في التعامل مع سيناء، يبدو أنها شهدت تجاوزات بنيوية نوعية في إدارة المعركة، وإفراطًا في استخدام القوة والعنف الكمّي بدلًا من العنف الرشيد، استنادًا إلى عوامل من بينها التعامل الانفعالي للسلطات مع التطورات الأمنية على الأرض، وهو ما يبدو أنه ما زال مستمرًّا إلى الآن دون تغيير.
أسلحة محرّمة دوليًّا
من المعروف أن الجيش المصري طالما ردّد أن السبب الرئيسي لإخفاقه في معارك سيناء وإطالة أمد الحرب، هو حرصه الشديد على أرواح أهالي سيناء الأبرياء، الشيوخ والنساء والأطفال، على حدّ وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وقيادات عسكرية على صلة بملف سيناء، في مناسبات كثيرة.
ولكنّ مقطعًا رسميًّا منشورًا على القنوات الرسمية التابعة للجيش المصري، في سياق موادّه الدعائية لـ”الحرب على الإرهاب” في سيناء عام 2018، كشفَ أن الجيش المصري، وبالتحديد سلاح الجوّ، يستخدمُ ذخائر جوّية (جوّ أرض) محرّمة دوليًّا خلال طلعاته القتالية في شمال سيناء.
على حدّ ذكر منظمة العفو الدولية، خلال تعليقها على المقطع الذي بثّه الجيش المصري بصورة رسمية، فإن إظهار هذا النوع من الذخائر علنًا، علمًا بأن خبراء المحتوى في المؤسسة العسكرية يعلمون أن المنظمات الحقوقية الدولية تطّلع على هذه المقاطع، يكشفُ، آنذاك، تطورًا في الرغبة في استخدام هذه الذخائر، إن لم يكن قد سبق استخدامها بالفعل.
تضمّن ذلك المقطع المُشار إليه ذخائر جوية عنقودية (يمكن ترجمتها إلى انشطارية)، أمريكية الصنع، “كوميتد إفيكتس” من طراز CBU- 87، والتي تنشطر لاحقًا إلى نحو 200 قنبلة عنقودية أصغر من طراز Blu-97/B.
وفقًا لمنظمة العفو الدولية، فإن ذلك المقطع المنشور في 9 فبراير/ شباط 2018، يكشف عن عدة تجاوزات فادحة، الأولى أن الجيش المصري، الذي يستخدم هذه الذخائر المحرّمة دوليًّا، سبق له أن قام بما لا يقلّ عن 3 طلعات جوّية غير دقيقة، أدت إلى سقوط أبرياء في ساحات قتالية مختلفة، في ليبيا وسيناء والصحراء الغربية، خلال عام 2015، وتسبّبت، ضمن أضرارها المعلنة، في مقتل عدد من السيّاح المكسيكيين وحدوث أزمة دبلوماسية بين البلدَين.
ينمُّ الإصرار على استخدام هذه الذخائر ذات الأضرار الصحية والبيئية الممتدة، على الرغم من سوابق الأخطاء الفنية المعروفة للطيارين المصريين، إلى جانب عرض ذخائر خطيرة أيضًا في العام السابق من طراز MK-20 خلال معارك سيناء، ضمن بيئة قانونية تخلو من أي محاسبة للقتل الخطأ لسيّاحٍ أجانب، فضلًا عن “متمرّدين إسلاميين” في الصحراء؛ عن “ازدراء صارخ لحياة الإنسان”، بحسب نصّ البيان.
تطهير ديموغرافي
خلال الفترة بين عامَي 2015 و2017، أصدر النظام المصري قرارات بإقامة “مناطق عازلة” في منطقتَي رفح ومحيط مطار العريش على التوالي، وذلك تفاعلًا منه مع المستجدات الأمنية المتمثِّلة في وقوع حوادث ضخمة، ضدّ القوات والقيادات الأمنية على يد المتمردين الإسلاميين في هذه المناطق.
من المفترض أن القانون الدولي لحقوق الإنسان، يضع ضوابط صارمة لكبح السلطات من اتخاذ قرارات بإخراج السكّان المحليين من ديارهم، ومن ذلك أنه ينص على ضرورة عدم وقوع ذلك إلّا في حالات استثنائية للغاية، وذلك بعد التواصُل مع السكّان، وإخطارهم قبلها بوقتٍ كافٍ، وتعويضهم تعويضًا عادلًا، وتوفير مسارات قضائية آمنة وناجزة للفصل في حالات النزاع بينهم وبين السلطة.
ولكنّ ما حدث عمليًّا على أرض الواقع في منطقتَي رفح والعريش، حسبما وثّقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في ملف نصّي مطوَّل جرى نشره في مارس/ آذار الماضي، استنادًا إلى شهادات ميدانية وتعاون منظمات حقوقية محلية، وتحليل لصور الأقمار الصناعية وبيانات السلطات المصرية، يكشفُ انتهاكات خطيرة لكلّ الديباجة القانونية السابقة المتعلقة بحماية السكان من خطر التهجير القسري.
فقد قامَ الجيش المصري “بطرد عشرات الآلاف من السكان، على مدار السنوات السبع الماضية، وتدمير منازلهم، وسُبل معاشهم، على نحو يكشف عن عقلية رسمية لا تهتم أبدًا بسلامة السكان، رغم كونها أمرًا أساسيًّا لأمن المنطقة واستقرارها”، على حدّ وصف جو ستورك نائب مدير الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المنظمة.
تبدأ هذه الانتهاكات منذ اللحظة التي قرّرت فيها السلطات المصرية إجلاء المواطنين من ديارهم في سيناء، دون إيضاحٍ لأبرز الأسباب الفنية التي اضطرتها إلى ذلك، مرورًا بالتوسُّع خارج نطاق المناطق العازلة المحدَّدة، وصولًا إلى هدم المنازل بعد إخلائها، بما يشي بعدم نية السلطات إعادة المواطنين إلى تلك المناطق كما يفرض القانون الدولي، وذلك دون صرف تعويضاتٍ مقدمًا بشكل عادل، ما تسبَّب في مظالم متتالية لمئات الأسر في سيناء.
بحلول منتصف أبريل/ نيسان 2018، كانت السلطات المصرية قد هدمت مدينة رفح بالكامل، والتي كان يقطنها أكثر من 100 ألف سينائيّ، وبلغَ عدد البيوت المهدمة في رفح والعريش أكثر من 12 ألف منزل، إلى جانب تدمير ما يتخطّى 6 آلاف هكتار من الأراضي الزراعية، أي تسوية تلك المناطق بالأرض تمامًا، مع إجبار المواطنين على التوقيع على وثائق تخلّيهم عن تلك الأراضي لصالح الدولة، “وهو ما قد يرقى إلى أن يكون جرائم حرب”، بحسب المنظمة الحقوقية.
استهداف مباشر لأبرياء
طالما كان احتمال حدوث استهداف مباشر لأبرياء خلال المعارك الجارية في شمال سيناء ضدّ المتمردين الإسلاميين قائمًا، في ظلّ ما بات معروفًا عن عدم الكفاءة الفنية لقوات الأمن المصرية، وغياب أي محاسبة قانونية لأي من عناصر الجيش المشاركين في تلك الحرب خلال الأعوام الماضية، إلى جانب الأعداد الكبيرة المعلَن عنها في كلّ بيان رسمي للجيش عن قَتلَى خصومه، ما يجعل العدد الإجمالي يفوق ألف قتيل بكثير، وهو العدد الذي قد سبق وقدّرته السلطات لأعداد المسلحين.
ولكن في الآونة الأخيرة، ظهرت عدة شواهد، من مصادر رسمية، على توسُّع الجيش في استخدام النيران خلال المعارك في سيناء، لسبب أو لآخر، بما يسفر في الأخير عن وقوع ضحايا من غير حاملي السلاح في وجه السلطات.
في مطلع أغسطس/ آب الحالي، قال الجيش المصري إن قواته في سيناء تعرّضت إلى هجوم عنيف، أدّى إلى مقتل وإصابة نحو 8 أفراد من عناصره، وردًّا على هذا الهجوم، وخلال المعارك الممتدة هناك، نجح الجيش في تصفية 89 عنصرًا تكفيريًّا شديد الخطورة من المسلحين.
على عادته، بثّ الجيش مقطعًا تعبويًّا من العمليات الجارية في سيناء، يتضمن مشاهد حية مصوَّرة بـ”كاميرا ميدان”، لرفع الروح المعنوية للجماهير والجيش بخصوص نتائج عمل القوات على الأرض؛ ولكنّ تحليلًا سريعًا للمقطع الذي يفترض أنّ إدارة الشؤون المعنوية قد أخضعته للفحص قبل النشر، كشفَ عن تجاوزات ميدانية جليّة.
فقد أظهر المقطع الموجود على القنوات الرسمية للجيش المصري، قيام جندي بإطلاق النار من مسافة قريبة على شخص نائم في إحدى الخيام المؤقتة، وتعرّض رجل أعزل لوابل من النيران الموجّه إليه من الأعلى، خلال ملاحقته في الصحراء من قوات الجيش.
التسليح الفردي الميداني لذلك الجندي الذي أطلق النار على الآمن المقيم في الخيمة، كان تسليحًا أمريكيًّا خالصًا، حيث كان يحمل الجندي بندقية من طراز M4 Carbine بالإضافة إلى منظار بندقية متطوّرة من طراز Advanced Combat Optical Gunsight، أمريكيّ الصنع.
وقبل نشر هذا التحليل، كان اليوتيوبر المصري المعارض المعروف والمقيم في الخارج، عبد الله الشريف، قد بثّ “تسريبًا” مصوَّرًا يُظهر قيام عناصر من الجيش المصري بحرق جثة أحد المتمردين الإسلاميين في سيناء، بعد قتله، ثم بتر جزء من إصبعه، وتصوير هذه العملية التي رافقها احتفاءٌ من جانب عناصر الجيش، الضبّاط والأفراد؛ بما يؤكد وقوع جرائم قانونية خلال المعارك التي يفرض عليها الجيش حظرًا إعلاميًّا شاملًا منذ 7 أعوام.
كيف يمكن تقليل الانتهاكات؟
لا حرب من دون تجاوزات، ولكن ينبغي على جميع الأطراف المسؤولة، وخاصة سلطات إنفاذ القانون، أن تبذلَ ما في وسعها من أجل تقليل هذه التجاوزات، التي تساهم على المدى البعيد في تعميق مشكلات المجتمع المحلي في سيناء، إلى حدودها الدنيا.
أبرز التوصيات العاجلة التي تشير إليها المنظمات الحقوقية، ومنها “هيومن رايتس ووتش” لكبح جماح التغيير الديموغرافي الجاري في سيناء حاليًّا، هي أن “توقف الحكومة الطرد التعسفي والهدم، وتُسرع في صرف التعويضات العادلة بشكل شفّاف للجميع، مع ضمان عودة السكان المطرودين إلى ديارهم في أسرع وقت”.
وسبق أن عزت نجية بونعيم، نائبة المدير الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة العفو الدولية، استشراءَ الانتهاكات من جانب السلطات في إدارة المعارك بسيناء، إلى ما أسمته “غطاء السرّية والرقابة الذي منحَ أفراد الجيش الشعور بأنه يمكن لهم أن يرتكبوا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، مع الإفلات التام من العقاب”.
لذلك، إنَّ محاولة إحداث حراك قانوني محلي ودولي، من أجل تقديم عناصر الجيش المتورِّطين في تلك الانتهاكات إلى محاكمات نزيهة أمام قضاة مدنيين، إلى جانب الضغط على الحكومات الأجنبية التي تورّد الأسلحة المستخدمة في تلك المعارك من أجل دفع السلطات المصرية إلى ترشيد استخدامها، تأتي على رأس التوصيات.
وفي الإجمال؛ إنّ التساؤل الأبرز الذي يطرحه قانونيون وحقوقيون مهتمّون بالملف السينائي: إذا كانت هذه الانتهاكات هي، فقط، التي تمّ توثيقها من خلال الموادّ المرئية التي أفرجت عنها السلطات المصرية بنفسها، فما الذي يحدث في الخفاء إذًا؟ يقول فيليب لوثر من منظمة العفو الدولية: “إن ما نراه مجرد لمحة عن الجرائم المروعة التي ارتُكبت باسم مكافحة الإرهاب في مصر”.