في أعقاب اتفاقية أوسلو عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل”، أُنشئَت السلطة الوطنية الفلسطينية لتتولى أمور الإدارة المدنية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة، مقابل الانسحاب الإسرائيلي التدريجي منها في غضون خمس سنوات من تاريخ الاتفاق.
إلا أنّ ما تبع أوسلو من تفاهمات وبروتوكولات واتفاقيات جزئية، كان في سياق تكريس وجود الاحتلال الإسرائيلي في حياة المواطن الفلسطيني، فنجد أن الاحتلال الإسرائيلي ما زال يسيطر عمليًا على كل جوانب حياة الفلسطينيين في التجارة والصحة والصناعة والزراعة والسفر وغيرها.
وعلى الرغم من إنشاء مؤسسات فلسطينية رسمية لتقديم الخدمات للفلسطينيين، فإن هذه المؤسسات لم تكن لتتصرف باستقلالية دون العودة إلى الاحتلال الإسرائيلي والحصول على موافقته، حتى بات الشارع الفلسطيني يتناقل عبارة “كمبيوتر واحد” في إشارة إلى تشارك المعلومات الاقتصادية والأمنية والديموغرافية بشكل كامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفي تطور أخطر من ذلك، أصبح الفلسطينيون يستقون كثيرًا من أخبار الإدارة المدنية من صفحة المنسق الإسرائيلي المعني بشؤون الإدارة المدنية في الضفة الغربية، ما فتح باب تواصل مباشر معهم متجاوزين السلطة الفلسطينية في كثير من الأحيان.
الإدارة المدنية الإسرائيلية في مستوطنة بيت إيل شمال رام الله
السلطة الفلسطينية: صلاحيات رسمها الاحتلال
بموجب اتفاقية أوسلو تم تقسيم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى مناطق (أ، ب، ج)، وتنال كل منطقة من هذه المناطق خصوصية في الصلاحيات الإدارية والأمنية، بعضها كامل للسلطة الفلسطينية وبعضها جزئي للسلطة وبعضها كامل للاحتلال الإسرائيلي، إلا أن الإشكالية بدأت من عملية التقسيم، إذ قسمت أراضي الضفة الغربية مكانيًا وفقًا لصلاحيات الاحتلال الإسرائيلي، فضلًا عن عدم تسليم الأراضي الفلسطينية في حدود عام 1967 ـ كما فاوض عليها الطرف الفلسطيني – إلى السلطة الفلسطينية، ما أسهم في أزمة وقعت بها السلطة، إذ وجدت نفسها في عملية مماطلة من الاحتلال الإسرائيلي.
علاوة على ذلك، لم تنشأ البنى المؤسساتية الفلسطينية الرسمية لتكون قادرة على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، فبقاء السلطة الفلسطينية في حالة ضعف جاء نتاجًا لكل هذا الاتفاقيات والترتيبات الاقتصادية والأمنية، وعدم قدرتها على مناوئة السياسات الإسرائيلية، والحرص الإسرائيلي على تبعية السلطة لها في جميع المجالات.
في حديثه لـ”نون بوست”، يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة الخليل الدكتور بلال الشوبكي: “هذا يعني أن حتى كل هذه المساحات التي لا يوجد فيها تدخل إسرائيلي مباشر، نجد تدخلًا غير مباشر من خلال فرض ضغوط على السلطة الفلسطينية سواء من الاحتلال الإسرائيلي أم من قوى على المستوى الإقليمي والدولي لفرض رؤاها حتى على هذه الوزارات مثل وزارة التربية التعليم وهو ما شهدناه في مسألة المناهج وتعديلها وإزالة بعض النصوص وإضافة أخرى”.
الإدارة المدنية: تضييق الوجود الفلسطيني
خلال السنوات الماضية، جاءت إدارة حياة السكان الفلسطينيين من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وكان فرض الإدارة المدنية الإسرائيلية المباشرة وغير المباشرة على الفلسطينيين يهدف إلى تقييد وحصر الوجود الفلسطيني في أضيق حيز مكاني ممكن ومراقبتهم، وفي الوقت ذاته تحقيقًا للأطماع الاستيطانية للاحتلال.
وبخصوص ذلك يشير الشوبكي إلى النمط العمراني العمودي المنتشر في مدن الضفة الغربية، “حين نتكلم عن الإدارة المدنية نتطرق إلى مسائل تراخيص البناء، نرى أن المساحة الكبرى في الضفة الغربية لا يستطيع الفلسطيني البناء فيها لأنها مصنفة مناطق “ج”، ولا يمكن الحصول على تصاريح من الاحتلال الإسرائيلي، والنمط العمراني يسير بأن يكون نمطًا عمرانيًا عموديًا، لأن هذا النمط العمراني يضيق الوجود الفلسطيني في أضيق مكان ممكن، وتصبح البيئة طاردة إلى الخارج”.
وحين تتجول في ربوع الضفة الغربية، ترى جبالًا شاسعةً فارغةً من الزراعة والوجود العمراني، والمدن الفلسطينية باتت مكتظة ومرهقة حتى للسكان الموجودين فيها، هذا، بحسب الشوبكي، من بين الأسباب التي دفعت الاحتلال الإسرائيلي لإبقاء السيطرة على المواطنين الفلسطينيين، ليس فقط في سياق أمني وإنما في سياق الأطماع الاستعمارية والاستيطانية.
السلطة سلمت عنقها للاحتلال
لم يستطع المواليد الجدد في الضفة الغربية السفر خارج فلسطين، في الفترة ما بين يوليو/تموز ونوفمبر/تشرين الثاني 2020، رغم استصدار جوازات سفر فلسطينية لهم، فهذه الجوازات لم تحوَّل إلى الارتباط المدني الإسرائيلي، ليدخلها في نظامه المحوسب، وذلك بعد إعلان السلطة الفلسطينية في 20 من يوليو/تموز 2020، حل جميع الاتفاقيات الموقعة مع “إسرائيل”، وعلى إثرها أوقفت السلطة تزويد “إسرائيل” بسجل المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية.
وزير الشؤون المدنية الفلسطينية حسين الشيخ مع منسق أعمال حكومة الاحتلال الأسبق كميل أبو الركن
يرى أستاذ العلوم السياسية أن الاحتلال الإسرائيلي ما زال ينظر إلى الضفة الغربية وقطاع غزة كمناطق يمكن أن يصدر منها تهديدات أمنية له، لذلك هي بحاجة دائمًا لمعرفة السجل السكاني، وبحاجة دائمة إلى متابعة أوضاع الفلسطينيين، ويستدل الشوبكي بآلية تسجيل المواليد الفلسطينيين الجدد، ذلك أنك تسجل المواليد لدى وزارة الداخلية الفلسطينية، لكن لا يمكن لهذا التسجيل أن يكون ذا معنى إلا إذا تم تحويله إلى سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
“حين تصدر جواز سفر يتم إخبارك أنه إذا أردت السفر يجب أن تنتظر لمدة شهر حتى يدخل هذا الجواز لدى النظام الإسرائيلي المحوسب، أو يجب عليك إصدار تصريح مؤقت من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ومن هنا نجد أن كل ما نقوم بفعله كفلسطينيين في سياق مؤسساتنا الفلسطينية عبارة عن إجراءات شكلية فيما الذي يحكم البلاد هو الاحتلال الإسرائيلي للأسف”، يتابع الشوبكي.
ويشير هذا الكلام إلى أن الاحتلال الإسرائيلي ما زال قادرًا على ضبط المشهد الفلسطيني كما يريد، وهو ما حدث في مناسبات عدة، ففي الانتخابات التشريعية عام 2006، حينما فازت كتلة التغيير والإصلاح الممثلة لحركة حماس، شهدنا حالة من التضييق الاقتصادي وقطع الرواتب ووقف أموال المقاصة، وهو أيضًا ما حدث مؤخرًا في عهد دونالد ترامب، بسبب الخلافات الفلسطينية الإسرائيلية وتوقف المفاوضات بسبب وصول اليمين المتطرف إلى الحكومة، وبحسب الشوبكي فإنها كلها عبارة عن “نتائج الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين، أي أن السلطة الفلسطينية سلمت الاحتلال الإسرائيلي عنقها حينما وافقت على الترتيبات الاقتصادية والأمنية وغيرها”.
تستغل “إسرائيل” الإدارة المدنية الفلسطينية كأداة ضبط لإبقاء سقف الفلسطينيين منخفضًا ومرتبطًا بالحياة اليومية بعيدًا عن المطالب الوطنية، لذلك نجد أنه منذ تأسيس السلطة الفلسطينية إلى يومنا هذا، أعوام الفلسطينيين مكتظة بقضايا مطلبية مثل الرواتب والصحة والتعليم والبنية التحتية والضمان الاجتماعي وأموال المقاصة والمعابر والسفر، وهذا يعني أن الاحتلال الإسرائيلي من خلال هذه الترتيبات أصبح قادرًا على ضبط تحرك الشارع الفلسطيني، بحيث يكون في معظمه موجه من أجل قضايا مطلبية أو خدماتية لا أن يكون موجه تجاه قضاياه الحقوقية والوطنية.