المستوى الذي بلغته الأزمة في لبنان على المستويات الحياتية والاقتصادية والسياسية التي تهدد أيضًا بخروج الأمور عن نطاق السيطرة إلى رحاب الفوضى العارمة واللامحدودة، دفعت الكثير من اللبنانيين إلى التفكير الجدي بالهجرة إلى أي مكان آخر في العالم.
فالوضع الذي يعيشه اللبناني لم يترك له مجالًا للصمود والبقاء، فلا كهرباء في المنازل ولا حتى في الكثير من المؤسسات حتى المستشفيات والمرافق العامة، ولا ماء في العديد من المناطق لأن توافرها مرتبط بتوافر الكهرباء، ولا جامعات ولا مدارس بسبب وباء كورونا من ناحية وبسبب أزمة الكهرباء من ناحية ثانية.
ولا مازوت وما أدراك ما أهمية هذه المادة على كل قطاعات البلد: النقل والمستشفيات والمطاعم والمطار ووسائل الإعلام وصيد الأسماك، وغيرها وغيرها الكثير، ولا بنزين للسيارات، إذ يضطر المواطنون للوقوف في طوابير طويلة من أجل الحصول على صفيحة بنزين واحدة.
ولا غاز حيث تشهد محطة تعبئة قوارير الغاز طوابير من المواطنين الذين يقفون وقتًا طويلًا تحت أشعة الشمس الحارقة في شهر أغسطس/آب من أجل الحصول على قارورة غاز للطهي المنزلي، ولا دواء في الصيدليات إلا ما ندر، ولا مؤسسات حكومية تعمل بشكل منتظم، ولا أفران تلبي حاجات المواطنين من الخبز بشكل مستمر وجيد.
قائمة طويلة من الأمور الحياتية العادية التي يطلبها المواطن ولا تتوافر له، هذا فضلًا عن الارتفاع المستمر لسعر صرف الدولار الأمريكي والعملات الأجنبية الأخرى في مقابل الليرة اللبنانية مع ما يعنيه ذلك من انهيار القدرة الشرائية للمواطن، حتى إن راتبه – كمعدل وسطي – لم يعد يساوي إلا نحو 35 دولارًا أمريكيًا في كثير من الأحيان، وفوق كل ذلك فإن الأفق لهذه الأزمات التي لا تنتهي فصولًا غير واضحة ولا معروفة، وهو ما دفع الكثير من اللبنانيين بالتفكير بالهجرة وترك البلد إلى أي مكان في العالم.
الوضع الذي يعيشه اللبناني لم يترك له مجالًا للصمود والبقاء، فلا كهرباء في المنازل ولا حتى في الكثير من المؤسسات حتى المستشفيات والمرافق العامة
وفي استطلاعنا لرأي بعض اللبنانيين بشأن الأزمة والضائقة التي يعيشونها وكيف يديرون أمورهم وما البدائل التي يلجأون إليها أو يفكرون بها، قال أحمد لـ”نون بوست”، وهو شاب ثلاثيني متزوج وله بنت وصبي، إنه يعمل موظفًا لدى إحدى المؤسسات، وراتبه الذي يتقاضه (1500000 ليرة لبنانية) لم يعد يساوي في أحسن الأحوال أكثر من 75 دولارًا أمريكيًا، وإنه قد اضطر لدفع فاتورة مولد اشتراك الكهرباء الخاص في الشهر الماضي مليون ليرة لبنانية مقابل 5 أمبيرات كهرباء، واضطر للعيش بقية الشهر بما تبقى من راتبه (نحو 500 ألف ليرة) ولم يكف شيئًا من الحاجات الأساسية، ما اضطره للاستدانة من أحد الأقرباء، لكنه يعيش كابوس كيفية رد المبلغ الذي استدانه.
وعن البدائل التي يفكر بها لمواجهة هذه الأزمة، أشار أحمد إلى أنه مضطر لخفض قيمة الكهرباء من 5 أمبيرات إلى اثنين ونصف، أي هو يفكر بأن يجعل مبلغ المليون الذي دفعه خمسمئة ألف، غير أن الحديث عن رفع الدعم عن المحروقات قد ينسف هذا المقترح البديل لأن المولدات الخاصة ستزيد عند ذلك من قيمة فاتورة الكهرباء، وأضاف أحمد أنه يفكر بالسفر إلى أي مكان من العالم لأنه لم يعد يقوى على تحمل المصاريف الباهظة، فضلًا عن فقدان السلع الأساسية لا سيما الأدوية.
أما نزار فقد أشار إلى صرخة من نوع آخر، فهو متزوج ولديه أطفال صغار يحتاجون إلى الحليب والحفاضات، فضلًا عن بعض الأدوية، وقد استغرق في شرح معاناته للحصول على علبة حليب لأطفاله أو حتى لـ”كيس حفاضات”، ناهيك طبعًا بمعاناة الحصول على صفيحة بنزين أو قارورة غاز إلى اشتراك الكهرباء، وأشار نزار إلى أن المشكلة أحيانًا لا تكون بالمال ووجوده بقدر ما تكون بالحصول على السلع غير المتوافرة، وعن الحل الذي يبحث عنه للخروج من هذه المعاناة أشار إلى أنه بدأ العمل الجدي للسفر والهجرة من البلد، فشرع في بيع بعض ممتلكاته لهذه الغاية.
الجميع يبحث عن الهجرة والخروج من بلد تشتد الأزمات فيه يومًا بعد يوم
أما سعاد فهي ربة منزل وأم لأسرة مكونة من أربعة أشخاص، أشارت إلى أن راتب زوجها لا يكفي لمصارف المنزل، وهو يضطر للبحث عن أعمال إضافية من دون جدوى، وقالت إنهم يكتفون بالقليل من الطعام مقابل البقاء، كما يستغنون عن الكثير من الخدمات لأنهم لا يملكون مقومات شرائها أو الحصول عليها، كما قالت إنهم سيعمدون إلى وقف اشتراك الكهرباء، وهم أساسًا لا يملكون غير هاتف واحد في المنزل، ومستعدون للتخلي عن هذه وتلك لأن الأولية الأساسية بالنسبة لهم باتت هي الطعام والشراب، وأضافت أن زوجها يبحث عن بلد يمكنه الهجرة إليه وهو لا يريد شيئًا غير ذلك.
من ناحيته سامر – مدرس بإحدى المدارس – قال إن راتبه لم يعد يكفيه للعيش مع عائلته المؤلفة من أربعة أشخاص، علمًا بأن زوجته تقوم ببعض الأعمال أيضًا، وأشار إلى أنه يبحث عن فرصة عمل خارج لبنان أو الهجرة كليًا من البلد.
هي روايات وقصص كثيرة لا تنتهي فصولها تروي معاناة اللبنانيين، أطباء يغادرون إلى دول أخرى بحثًا عن فرصة عمل أفضل أو هربًا من الواقع المأساوي تاركين خلفهم مرضى على أسرة الموت في المستشفيات، وممرضون يغادرون للعمل خارج لبنان لأن رواتبهم لم تعد تفي بالغرض، وأساتذة ومربون يبحثون عن أي فرصة في الخارج من أجل الخلاص من “الجحيم” كما وصفه بعض من تحدثنا معهم.
عمال وموظفون ومحاسبون وإعلاميون ورجال أمن وجنود وشباب ورجال ونساء وفتيات.. الجميع يبحث عن الهجرة والخروج من بلد تشتد الأزمات فيه يومًا بعد يوم، فيما لا يأبهون لا إلى أين يغادرون ولا ماذا يصنعون أو يعملون أو ماذا ينتظرهم هناك، المهم بالنسبة لهم الخروج من هذا الجحيم الذي لم يعد يُحتمل مع الطبقة الحاكمة التي لم ولن تكترث لآهات اللبنانيين، المهم أن يتركوا، وللأسف، بلدهم لبنان ويتخلصوا من جحيمه.